القاهرة المملوكية (4).. بين الحارات والأزقة!
الحلقة الأولى الحلقة الثانية الحلقة الثالثة
في هذا المقال نستكمل حديثنا عن القاهرة المملوكية، مقصد السالكين، وموطن العابدين، ومقر الصوفية، ومورد العلماء والمتصدرين، إننا في هذا المقال نحاول التجول بين الحارات المملوكية وأزقتها؛ لنستكشف كيف كانت الطبوغرافيا مزيجًا من الإبداع والتفاعل والتلاقي والانسجام والجمال والفن، كيف هذه الصخور الصماء في جبال المقطم وغيرها إلى حجارة مرصوصة بإبداع الفنان المملوكي من أول البيت إلى الطريق إلى الجامع إلى المدرسة إلى الرباط إلى الوكالات إلى القلعة وإيوان الحكم!
لقد رأينا كيف تكونت العاصمة المملوكية من القاهرة الفاطمية والفسطاط وما بينهما من عمائر ومساجد جامعة كبيرة كمسجد الحاكم في الشمال والأزهر في الوسط وعمرو بن العاص في الجنوب، ومن قلعة الجبل المدينة العسكرية الأهم حينذاك، فضلاً عن مناطق الامتداد العمراني في “ظاهر” أو خارج سور صلاح الدين في الجهات الثلاث الجنوبية والغربية والشمالية، وتعذّر الامتداد شرقًا لوجود الصحراء والقرافة الجنوبية والشمالية، وإن عُدّت القرافة بمثابة حي نظرًا لانتشار الأبنية الخدمية فيها من مساجد ومدارس وغيرها، ونتيجة لهذا الامتداد العمراني في الجهات الثلاث ظهرت أحياء ومناطق سكنية جديدة مثل بولاق ومينائها المهم في الشمال الغربي من المدينة، وحي الأزبكية في الشمال ببحيرته الرائقة، وإعادة إحياء مدينة العسكر القديمة ومركزها جامع أحمد بن طولون جنوبًا.
أما سكان هذه المدينة الكبيرة فقد قسّمهم العلامة المقريزي إلى سبع فئات، اشتملت على رجال الدولة وجندها، وأثرياء التجار ممن سعد حظّهم، والباعة مثل تجّار الأقمشة وأصحاب المطابخ والحوانيت في الأسواق، الذين يمكن أن يُطلق عليهم اسم صغار الطبقة المتوسطة، وأهل الفلاحة والقرى والريف ممن كانوا يفدون على هذه المدينة، ورجال الدين والمعلّمين وطلاب العلم بما فيهم القضاة، وكُتّاب المملكة ورجال الشرطة “العسس”، ثم أصحاب الحرف والصناعات والعمال والحمالين والسُيّاس والنسّاجين والبنّائين وغيرهم من فئات العمال المختلفين، ثم فقراء الشحّاذين والبؤساء. ويُضاف عليهم أهل الذمة من اليهود والنصارى.
ولم تكن هذه الفئات طبقات مقفلة لا مخرج لأفرادها منها، وكان الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هم المماليك الذين كوّنوا طبقة ممتازة فوق جميع السكان المختلطين أشد الاختلاط بحيث لم يكن بين أفرادهم رابطة عامة تجمعهم ليدافعوا عنها، ولم تعرف مصر البناء الطبقي للمجتمع، فقد اشتملت الأسرة الواحدة على التجّار ورجال الحِرف والمُعلّمين، ونحن نعرف أن التجارة والاشتغال بالتعليم الديني كانتا صناعتين متداخلتين ولم تتعارضا أبدًا اجتماعيًا، وهكذا لم يلتزم الناس بالبقاء في طبقتهم الاجتماعية، ولعبت حالات الإفلاس المالي دورها في انتقال الأفراد من طبقة إلى أخرى، فضلاً عن حالات الإثراء التي كانت أقل حدوثًا بطبيعة الحال[1].
لذا هذه المدينة المتحركة والمكتظة بالعلماء والتجار والسلاطين والجند والتجار والمسافرين والرحّالة وغيرهم سحرت الرحّالة الغربيين في العصور الوسطى، بل أبهرت بعض علماء ورحّالة المسلمين، قال العلامة ابن خلدون (ت 808هـ) وكان أول مرة يطرق القاهرة في ذي القعدة سنة 784هـ/ يناير 1383م:
||رأيتُ حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ النيل نهر الجنّة ومدفع مياه السماء، يسقيهم العلل والنّهل سيحه، ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجّه[2] ومررت في سكك المدينة تغصّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نتحدّث بهذا البلد وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجّهم وتاجرهم في الحديث عنه، سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام||[3]
لقد كان بالقاهرة حوالي ثلاثين ألف بيت وكان عدد السكان التقريبي حوالي خمسين ومائتي ألف نسمة وطرقها أو حاراتها حوالي الخمسين؛ منها ما يتجّه من الشمال إلى الجنوب كالشعراوي والأزبكية والنصارى والروم واليهود والإفرنج …، وكان للقاهرة نيف وسبعون بابًا بعضها من الداخل نذكر منها باب السدّ، وباب طيلون (طولون) وباب السيدة وباب القرافة جنوبًا وباب الوزير وباب الغريب شرقًا وباب اللوق وباب الناصرية غربًا من جهة النيل، وباب الحسينية وباب النصر وباب الفتوح وباب الحديد شمالاً.
وكان بها من الأسواق الكبيرة الغورية حيث تباع بها الشيلان الكشميرية والحرير الموصلي والأقمشة الواردة من الخارج، وسوق الأشرفية، وكان به تجّار الورق، وخان الخليلي وكان به تجّار الجواهر والنحاس والسجاجيد، وسوق النحّاسين وبه جماعة الصياغ يصوغون المصوغات ويتّجرون بها، وسوق البدقانية وكان به تجّار العقاقير والخردوات، وسوق الحمزاوي وكان به تجّار الجوخ (الصوف)، وسوق السروجية لصنع سروج الخيل وبيعها، سوق السلاح، وكان يُصنع به السلاح ويُباع، وسوق الجمّالية وكان به تجّار البن والتبغ الوارد من الشام[4].
ولم يكن الاهتمام بالقاهرة قاصرًا على النواحي الطبوغرافية من إقامة المنشآت الخدمية والتجارية والتعبدية والتعليمية، فقد اهتمت الحكومات المملوكية بنظافتها وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة الأسواق والتفتيش عليها من خلال المحتسب ومعاونيه والشرطة ووالي المدينة.
ولم يكن الاهتمام كذلك قاصرًا على هذه الأنشطة دون مكافحة التسوّل والمناظر المنفّرة، فقد كوفح أصحاب العاهات ومفتعلوها، ذلك أنه في سنة 664هـ/1265م، أمر السلطان الظاهر بيبرس البندقداري بجمع أصحاب العاهات فجمعوهم بخان السبيل بالحسينية، ثم نقلوهم إلى الفيّوم، وأُفرِدت لهم بلدة تغل للصرف عليهم بما يكفيهم، وأراحوا الناس من مضايقاتهم، غير أنهم لم يستقروا بها وتفرقوا ورجع كثير منهم إلى القاهرة.
ومنذ الدولة الفاطمية أُنشئت الرُبط أو الرباطات لإيواء الفقراء من الرجال والنساء، وما خُصّص منها للنساء كان بمثابة دور كفالة للمرأة، وكان للنساء فضل إنشاء الكثير منها في دولتي المماليك إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وكانت تلك الربط تُؤوي النساء الفقيرات والعجائز والأرامل والبنات حتى يتزوجن والمطلقات حتى يَعُدن إلى أزواجهن أو يتزوجن. وكان يُختار لرئاسة تلك الربط سيدات اشتهرن بالعلم والحزم لتعليم المقيمات بها وصيانتهن، وإلى الآن مازالت بقايا تلك الربط موجودة مثل رباط “خوَند زينب بالخرنفش”[5].
ونتيجة للكثافة السكانية للقاهرة المملوكية عاصمة أعظم دولة آنذاك، ومقر الرحالة والتجّار، وطريق الحجّاج المغاربة والأفارقة والأندلسيين، فقد بلغ من اهتمام السلطات بتنظيم الطرق وإعدادها وتنسيقها ما يُدلل على ذلك؛ ففي القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي اشتراك والي الشرطة مع المحتسب في تنفيذ تلك الأوامر، فكان يلزم سكان الدور والحوانيت بتمهيد الطريق أمامهم، وممن لهم أثر مشكور في العناية بالطرق الكبرى في القاهرة، الأمير يشبك من مهدي دوادار السلطان الأشرف قايتباي والقائد العسكري المملوكي المشهور آنذاك؛ فإنه في سنة 882هـ/1478م شرع في توسعة الطرق والشوارع والأزقة، وخاصّة الشارع الرئيسي للقاهرة وهو شارع بين القصرين أو المعز لدين الله، وقد كان في منتصف القاهرة يبدأ من باب الفتوح شمالاً وينتهي عند باب زويلة جنوبًا، وأمر الأمير يشبك نائب قاضي قضاة الشافعية القاضي فتح الله السوهاجي أن يُشرف على هدم ما وُضع في الشوارع والأسواق بغير طريق شرعي من أبنية وسقائف ورواشن ومساطب، واستمرت هذه العملية إلى سنة 883هـ/1479هـ حيث أمر أيضًا بإصلاح وجهات المساجد، وطلاء رخامها فحصل بذلك نفع كبير[6].
لقد كانت بعض الأزقة من الضيق بحيث إنه يصعب على رجلين أن يسيرا جنبًا إلى جنب، وكان الجمل بحمولته كفيلاً بعرقلة الحركة أكثر مما تفعل عربة في بعض شوارع باريس، وما من شك أن جملاً عليه حمل ينوء به من قصب السكر كان يُرغم أكثر المارة كبرياء أن يلصق جسمه بالحائط. وكان هناك تعويض عن المشقة التي يُسبّبها الشارع الضيّق وهي البرودة التي ينشرها، فسمحت الشوراع الضيقة بمرور تيار من الهواء المنعش، كما ألقت البيوت العالية ظلاً جميلاً على المارة، وفي كل هذه الحارات والأزقة كان الباعة والناس منتشرين بشكل لم يصدقه بعض الزوّار الأجانب، ففي نهاية القرن الخامس عشر الميلادي/التاسع الهجري كتب الرحالة البندقي الإيطالي بريدنباخ قائلاً:
||زُرنا شوارع التجّار، فذكّرتنا بالزحام في ساحة القديس بطرس في رومة في أعوام الاحتفالات. فهناك عدد ضخم من الباعة والمشترين حتى ليصعب على الإنسان أن يُصدّق ما تراه عينه، فهو أقرب إلى الخيال. ولا أعتقد أن هناك مدينة أخرى في العالم اليوم تبلغ مبلغ القاهرة في ازدحامها وحجمها وثرائها وسلطانها. دخلنا مرة في شارع ثم في آخر، وبعد أن مررنا خلال بوّابة حديدية وصلنا إلى أكثر المناطق ازدحامًا. وبعد أن تدافعنا بالمناكب خلال كتل من البشر رأينا بقعة لا تستطيع الكلمات أن تصف ازدحام الناس فيها||[7]!
*باحث في التاريخ والتراث
[1] جاستون فييت: القاهرة مدينة الفن والتجارة ص108، 109.
[2] الثج: شديد الانصباب والانهمار. المعجم الوسيط 1/ 94.
[3] تاريخ ابن خلدون 7/ 649.
[4] علي مظهر: القاهرة أيام المماليك 6/ 159، 160. مجلة الهداية الإسلامية – رمضان، 1352هـ.
[5] حسن عبد الوهاب: تخطيط القاهرة وتنظيمها منذ نشأتها ص9، 10. دار النشر للجامعات المصرية – القاهرة، 1957م.
[6] ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور 2/ 171.
[7] جاستون فييت: القاهرة مدينة الفن والتجارة ص124، 125.