مالطة: جزيرة شبه عربية
كأنه الحُب من أول كلمة، فمُنذ اللحظة الأولى التي سمعت فيها اللغة المالطيّة رُحت أبحث وأبحث وكأنني لا أصدق أن تكون هذه لغة أهل مالطة؛ تلك الجزيرة التي لطالما ضربنا بها الأمثال ونحن بالكاد نعرف عنها شيئًا غير أنها بعيدة، هذا غير التمثيل بـ «خراب مالطا» و«كَمَن يؤذّن في مالطا». وقد تغيّرت مالطة كما نتغيّر جميعًا، فأذانها عاد مسموعًا، كما أن الطائرات قرّبتها بشكلٍ لم يكن ليصدقه أجداد أجدادنا. أما الكلمات العربيّة التي تُشكل أكثر من ثُلثي اللغة المالطيّة، فقد أصرّت على البقاء رغم مرور أكثر من 900 عام على خروج الجزيرة من حُكم المُسلمين؛ بل إن البعض لا يعتبر المالطية إلا «عربيّة فاسدة»، وهو ما حملني على حزم أمتعتي والانطلاق إلى مالطة أو «مالطا» كما يحلو للبعض كتابتها.
في المطار، كانت الصدمة أن كُل شيء يكاد يكون باللغة الإنجليزية، وكأنّ المالطيّة لا وجود لها. لكنّ هذا لم يكن سوى انطباع أوّلي فيه شيءٌ من الصحة؛ فالإنجليزيّة تكاد تكون اللغة الأولى في مالطة، إلّا أنني وجدت إدارة المطار توزّع هدايا للسيّاح القادمين على شكل بطاقات صغيرة فيها «أهم 10 عبارات مالطيّة».
ولكم كان رائعًا حين وجدت العبارة الأولى «كيف إنت؟»، والأجمل منها أن تلك التي لم تكن عربية 100%، مثل «شين هي الباسوورد تاع الواي فاي؟» و«فين نسطيـ(ع) إنـ‹تشارجو› الموبايل» يُمكن لأي عربي يتكلم الإنجليزية بشكل أساسي أن يفهمها. أما «شِن هي الطيارة تاعي؟» فهذه أشبه بلهجة أهلنا في شمال أفريقيا، بيد أنها لم تكن كذلك، فهذه العبارات المالطيّة أصبحت ومنذ عام 2004 تُنسب إلى واحدة من اللغات الرسميّة في الاتحاد الأوروبي!
كانت هذه مُجرد المقدمة، ولم أكن لأصدّق الأمر بسهولة، إلا أنّني اكتشفت سريعًا أن الحكاية ليست حكاية لغة فحسب، فالحياة هناك أقرب إلى حياة العرب من أي حياة أوروبية سواء في البساطة أو العشوائية، أو حتى في أشكال الناس، وانتهاء بالعمارة واللغة.
كثيرًا ما كُنتُ أمرّ ببعض المالطيين وأكاد أراهن أنهم من العرب، فأخسر الرهان حين أسمعهم يتكلمون المالطيّة، ولست وحدي من يخطئ، ففحوصات الـ DNA نفسها لا تزال مُختلفة حول ما إذا كانت أصول المالطيين تعود إلى الفينيقيين الذي قدِموا من سواحل لبنان في العصور الغابرة، أم من العرب الذين عاشوا في صقليّة قبل ألف عام.
لسنا بحاجة لدراسات كي نعرف أن أسماء هذه العائلات المالطيّة «فروجيّة» و«محتار» و«بيّاضة» هي من أصول عربيّة، تمامًا كما أن ما رأيته في الشارع وفي ملامح وجوههم كان أوضح من أن يتطلب دراساتٍ علمية. بل إن الأمر كان مُربكًا لدرجة أنني كُنت أتحدث مع بعضهم بكلمات مثل «السلام عليكم» و«شكرًا»، بدلا من «مَرحبًا» أو «صحّة» و«جراتسي» التي يستخدمونها، وبالأخص حين كُنت أبتعد عن المناطق السياحية إلى الأحياء الشعبيّة، كما في الرباط مثلا، حيث تبدو العمارة وكأنها مقتبسة من بلادنا العربية، بل إن بعض سلوكيّاتهم اليومية تُذكّرك بالكثير بالعرب.
مع وصولي للفندق مثلا، وجدت أعمال ترميم وعُمالا كُثرًا عند البوابة، ووجدت العمال يطلبون من روّاد الفندق المرور من فوق خشبة تترنح بكل بساطة، دُون أي اعتبارات للأمان وSaftey، المعهودة عند الأوروبيين في الشمال، وهي تصرفات ليست عنّا بغريبة. ولا أنسى سائق الحافلة الذي كان ينقلنا في جزيرة غودش، وكيف نسي تشغيل الفرامل قبل أن ينزل من المركبة وبدأت الحافلة بالتدحرج قبل أن يتدارك أمره مُبتسمًا، وكأن شيئًا لم يكن. هذا غير «نشرات الغسيل»، وانعدام الاعتبارات الأوروبية لعدم عبور الشارع إلا من «ممر المشاة»!
«المالطية هي العربية»
لم تكن الأمور سوداويّة هكذا في كل شيء، ففي بساطة المالطيين وخفّة روحهم ما يُذكّرك بجمال الشرق أيضًا، حتى إذا كان بعضهم يُنكر أي أصل عربيّ له أو للغته، كبعض اللغويين ممن حاولوا أن يُثبتوا بكل ما أوتوا من عِلمٍ أن أصل اللغة المالطيّة من الفينيقيّة القديمة وليس العربية؛ إلّا أن هُنا من العلماء المالطيين مَن يؤكد أن المالطيّة هي في الأصل عربيّة ولكن ليس بشكلٍ مُباشر، إنما من العربيّة الصقليّة Siculo-Arabic التي لم يعد لها وُجودٌ اليوم.
إذا تجوّلت اليوم في شوارعهم وسألت الناس عن أصل المالطيّة، لوجدتَ تباينًا واضحًا في الآراء؛ فمنهم من يرى أن المالطيّة هي مزيج لغوي وفيها شيء من العربية، بعضهم يعتبره «قليلا»، وبعضهم يؤكد أنه يصل إلى 70 بالمئة وربما أكثر. وقد وجدت عجوزًا في جزيرة «غودش» يتكلم بلهجة سهلة يُمكن للعربيّ أن يفهمها بشكل أسهل بكثير من لغة أهل العاصمة فالتيا، وحين وجدتُني أفهم الكثير من كلامه، سألته عن رأيه في التشابه بين اللغتين، فقال: «المالطية هي العربيّة».
ليس هذا العجوز المالطي وحده من قال ذلك؛ فإذا عُدنا لأحمد فارس الشدياق، وهو أشهر الرحالّة العرب الذين عاشوا في مالطة، وكتب عن حياته هناك بين عام 1834 – 1857 كتابًا أسماه «الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، لوجدناه يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المالطيّة هي عربية، وهي متأثرة باللهجات الشاميّة كما بالمغاربيّة، ويُرجّح أن أصل المالطيين مغاربة. وفوق ذلك، وجدتُه يرى في بقاء العربيّة في مالطة دليلا على عظمة هذه اللغة، إذ يقول:
«إن بقاء اللغة العربية في جزيرة مالطة ولو مُحرّفة مع عدم تقييدها في الكتب، دليل على ما لها من القوة والتمكن عند من تصل إليهم من الأجيال.. ألا ترى أن مالطة قد تعاقب عليها دول متعددة ودّوا لو يحملون أهلها على التكلم بلغاتهم، فلم يتهيأ لهم وبقوا محافظين على ما عندهم منها خلفًا بعد خلف!».
في نفس جزيرة «غودش» التي يعتقد الشدياق أن أصل تسميتها هو كلمة «هودج» العربيّة، رُحتُ أجرّب حظي مع المالطيّة، وكانت كافية للحصول على ما أريد. ويكفيك أن تعلم بأنك لست بحاجة إلى أن تقول للبائع سوى «كم يسوى؟» لسؤاله عن ثمن السلعة التي تريد، أما الأرقام فهي متطابقة إلى حد بعيد جدًا، وهي أشبه بالعاميّة من الفصحى، فلا يُمكن أن تسمع أحدهم يقول: «سبعة عشر» ولكن الجميع سيفهمك إذا قلت: «سبعطاش» كما في اللهجة الفلسطينية مثلا. لكنّ الأجمل من هذا حين تستبق ذلك، وتحييه بكلمة «مرحبا» (بالحاء المهملَة)، ثم تسأل «كيف إنت؟»، فلا يجيبك بالحمد لله ولا بأنه بخير، بل تجده يبتسم لك ويقول: «مش حزين»، والقصد أنه جيّد.
وأما في الوداع فيستخدم المالطي كلمة مثيرة للاهتمام هي «صحّة»، وهي تُقابل «مع السّلامة» عندنا. ولأن المالطية فيها كلمات من غير العربية، فإن كلمة «شُكرًا» التي تقال في أكثر المعاملات معناها «جراتسي»، لكنّ العربية تدخلها عندما يُقال «شكرًا جزيلا» فتصير «جراتسي حفنة»، والحفنة تستخدم في المالطيّة للدلالة على الكثرة!
الأكيد أن القراءة ليست كالسماع ولا يوجد كلمات يُمكن أن تصف شعوري وأنا أدخل متجرًا في مدينة «مدينة» لأستمع إلى امرأة تكلم صاحبها «قالي وقولتلو» بلكنة شاميّة حيث تُقلب القاف إلى همزة، وفوق ذلك أجدني ألوذ بتحليل أحاديثهم كما لو كانت ألغاز لغويّة، أكثر من كونها لغة أخرى.
«.. ترميش الزبل هون»
تعلّم الحروف المالطيّة ليس معقدًا. أهم ما يجب أن تتعلمه أن حرف الشين يُكتب X، أما العين فتكتب «gh» ولا يُلفظ غالبًا، وأما «الإتش» فيُكتَب كحرف c وفوقه نقطة، كما أن حرف q يُلفظ كهمزة غالبًا. وبعد هذا الدرس، يُمكن للعربي أن يُمارس فنًّا لا يكون إلا في مالطة؛ وهو مُحاولة فك طلاسم أكثر اللافتات في شوارع مالطة. وهي لافتات تستحق لفتة بلا شك.
الشارع في المالطيّة يُسمى «طريق»، وبالتالي فإن كلمة «طريق» سترافق السائح العربي أينما مشى وتجوّل. كما أن المالطيين يعرفون كلمة «زقاق» بل وحتى كلمة «زنقة» الشائعة في ليبيا. وفي العاصمة فاليتا، طريق في مدخل البلدة يُسمى «طريق نفص النهار»، أي نصف النهار. كما وجدت في مدينة «مدينة» لافتات تحمل أسماء عربية مثل «طريق السور» و«طريق الصليب المقدس».
هذا عدا عن أن أكثر أسماء المدن التي يراها السائح في رحلته هي في الغالب عربية كجزيرة وسليمة ومليحة، كما الرباط ومدينة. هذا غير الأسماء التي حُرّفت قليلا مثل جزيرة «كومينو» التي يُعتقد بأن أصل تسميتها «كمّونة»، أو «موصطا» التي يُقال بأنها في الأصل «مصطفى».
ليست أسماء الطرق والمدن وحدها المدهشة، فهناك، اللافتات الإرشاديّة مُلهمة أكثر. ومن بين اللافتات التي شغلتني ورُحت أصوّرها كما لو كانت تُحفة فنيّة هي لافتة «ترميش الزبل هون»، التي كدت أكذّب نفسها وأنا أطالعها، خاصّة أن الكلام بلهجة فلسطينية والحروف لاتينية في مدينة تُدعى «سليمة» في بلد أوروبي.
لم تكن هذه وحدها فهناك الكثير، حيث أن بعض الشوارع فيها لافتات مثل «نضّف ورا الكلب تاعك» أو «ييك يعجبوك.. كون ريسبونسابلي»، و«ييك يعجبوك» هو مصطلح شائع في مالطة ومعناه «لو سمحت» كما أن «ريسبونسابلي» يُشير إلى التحلي بالمسؤوليّة كما في الإنجليزية ولربما الإيطالية.
في مدينة «مدينة» حيث الأسوار العالية وجدت لافتة مثيرة للاهتمام ومكتوب عليها: «مهوش بيرمس لي تطلع بالقعدة أو بالوقفة فوق السور»، والكلمة الأعجمية الوحيدة هي «بيرمس» وتعني «السماح»، وما عدا ذلك من كلمات هو عربيّ. والأكيد، أن بقاء كلمات مثل «تاعك» و«مهوش» و«هون» في المالطيّة حتى اليوم لهو من العجائب.
«مالطة الحنينة .. خبزة وسردينة»
من شدّة انبهاري بما رأيت في الشوارع، انطلقت باحثًا عن كتاب يجمع «الأمثال الشعبيّة المالطيّة»، إيمانًا مني بأن هذه الأمثال تكشف ما لا يكشفه غيرها، فهي أفضل حافظٍ لتراث الشعوب وتاريخهم. وفي أول مكتبةٍ دخلتها وطلبت كتابًا عن «قوال المالطين Qwiel Maltin»، وجدت البائعة تبتسم قائلة: تقصد «ئويل المالطين»، كما لو كانت تتحدث بلهجة «لبنانيّة». لم أجد الكتاب عندها، ولكنها أرشدتني إلى متجر أفضل في منطقة تُدعى «مسيدا» قالت أنني لا بُد أن أجد مرادي هناك.
بالفعل وجدت الكتاب ولكن «بشق الأنفس»، وكأنني أبحث عن كنز وليس مُجرد كتاب أمثال شعبية يُفترض أن يكون في كُل مكان، وهو أمر مؤسف لا بُد من ذكره للتأكيد على أن معظم متاجر الكُتب تهتم باللغة الإنجليزية أكثر من المالطيّة. وهذا لا يعني عدم وجود كُتب مالطيّة طبعًا، ولكنْ أكثر كُتبهم إنجليزية، وقد رُحتُ أبحث عن مجلّة باللغة المالطيّة فلم أعثر، ولما سألت الموظفة التي راحت تبحث معي باهتمام، قالت للأسف لا يوجد هنا، لكنّها تذكرت مجلّة واحدة تُعني بالتراث المالطي.. لم تكن متأكدة إن كانت لا تزال تصدر حتى اليوم!
المُهم أنني وجدت الكتاب، كما وجدت موقعًا للحكومة المالطيّة يُعنى بكل الأمثال وحكاياتها، بل ويسجّلها. وأكثر ما يُدهش في كل هذه المأثورات الشعبيّة: أن العربيّة متجذّرة فيها بشكل لا يُمكن لعاقل إنكاره.
يكفيني مثلا، تأمّل الأمثال الواردة في باب «الصحة»، فأجد نفسي أقرأ أمثالا «شبه عربية» بحروف لاتينية، وذلك مثل: «أخير الصحّة مِ الفلوس!» بمعنى أن الصحة أفضل من المال، و«التبكير يعطي الصّحة» أي أن الاستيقاظ باكرًا مفيد، وحتى «الصحة تكون تـ(عر)ف كم تسوى متى تمرض» وهو واضحٌ إلا أن كلمة «تعرف» تُكتب عندهم «taf».
ليس الأمر ينحصر في الصحة، فمن الأمثال التي تذكرني بالأمثال الشعبية الفلسطينية قولهم «المكتوب مهوش مهروب Il-miktub mhux maħrub»، والفرق بيننا وبينهم أننا نقول «مفيش منه» بدلا من «مهوش». كما تجد لديهم مأثورات شعبية مثل «الله يعطيك حاجة ويوخدلك أحرى». وللعلم فإن استخدامهم للفظ الجلالة «الله» هو أمرٌ مميز بحد ذاته، ويؤكد أن الأثر العربي في مالطة بلغ حتى الكنائس. والأعجب منه استخدامهم للقب «سلطان» في الحديث عن عيسى عليه السلام.
والحقيقة أن كُل هذه الحقائق المدهشة التي تعلّمتها عن مالطة لم أكن لأصل إليها لولا زيارتي لها، وفي هذا يقول المالطيين: «بِش تشرب الماء صافي مُر في راس العين!»، ويستخدموها للتأكيد والتذكير على ضرورة البحث والسعي الحثيث من أجل الحصول على المعلومة المميزة. ولأن البحث بلا صبر لا يكون، فقد وجدتهم يقولون أيضًا: «Min jistenna, jithenna من يستنى يتهنى!».
أما أجمل الأمثال وأظرفها فهو ذلك الذي ذكره لي أحد المالطيين، حين ذكرت له إعجابي بمالطة وشواطئها الساحرة فقال: «مالطة الحنينة، خبزة وسردينا Malta Hanina, Hobza u Sardina»، وهو يُشير إلى أن أجمل ما في مالطة هي الحياة الأمنة مع القناعة بالقليل، كما راح يُذكرني بأن كثيرين في تونس يعرفون هذا المثل جيدًا، وكان واضحًا أن العجوز صاحب الملامح العربيّة فخور جدًا بأنه من مالطة.
من الحوت إلى المقاريط
ليست «الخبزة» إلا كلمة من وابلٍ من الكلمات العربيّة التي استقرّت في المالطيّة، فإن فتحت أي كتاب طبخ مالطي، ستجد «الهوت ħut» بدلا عن «الحوت» في باب أطباق السمك، حيث يستخدم المالطيين لفظة «حوت» بدلا عن «السمكة» كما في اللهجة التونسية، وستجد «أكلات صغيرة» بدلا من «وجبات خفيفة» أو مُقبّلات كما «الخبز بالزيت Hobs-biz-Zejt»، وهو من أشهر المقبلات التي توضع في المطاعم المالطيّة التقليدية، وهو عبارة عن خبز مقرمش مع شيء من صلصة الطماطم وشيء من الزيت والتوابل. ومن المثير أن لديهم حساء يُسمّى «سوبّا تا الأرملة Soppa tal-Armla» وهي عبارة عن شوربة خضار بمكونات بسيطة ورخيصة، أما حكاية الأرملة فهذا ما لا علم لي به!
الذي أعرفه جيدًا، أن الكثير من الكلمات المالطية قد لا تبدو عربيّة من أول نظرة، وهذا ما حصل معي في أحد حوانيت مدينة «الرباط» حين قصدت بائع كعك شعبي، فشاهدت كلمة «Qaghaq tal-Ghasel»، فسألت البائع عن اسمها فقال: «كعكة تا العسل»، والأكيد أنه لم يلفظ حرف العين حينها حاله حال سائر المالطيين جميعًا. والنُكتة أنه راح يُحاول أن يشرح لي معنى العسل وهو لا يدري أنها كلمة عربيّة، لكنّ البائع كان لطيفًا وعرض علينا أن نجرّب بعض الحلوى مثل «مئاريط Imqaret» وكأنه يتكلم بلهجة أهل الشام؛ و«المقروطة» هي حلوى مشهورة جدًا في مالطة كما في بلادنا، وهي عبارة عن كعك بالتمر، لكنّ تقديرهم لها يكاد يُشعرك وكأنها من «المقدسات المالطيّة».
وهذه كلها ليست إلا مقدمة بسيطة جدًا، فلا يوجد أحد في مالطة لا يعرف معنى «فطيرة» أو «جبنة»، بل إن الكثير من أسماء النباتات هو عربي، ولكنهم يُحرِّفون لفظها. وهناك جزيرة فريدة في مالطا تُدعى «كومينو» أو «كمّونة»، ويُقال أن أصل تسميتها من بهار «الكمّون». وإلى جانب الكمّون، تجد لدى المالطيين «رُمين» بدلا عن الرمّان، و«بتيح» بدل البطيخ، أمّا الأجاص فيلفظونها كما نلفظها في فلسطين: «نجاص»، وحتى الفطر يُسمونه «فقع»، ولفظهم له أقرب للفظ أهل المُدن المدن الفلسطينية.
ولكن يجب أن لا ننسى رغم هذا أن هنا كلمات مالطيّة خاصّة بهم، ككلمة «فينيق» التي تعني «أرنب»، ولعلّها من أهم الكلمات المالطيّة، خاصّة وأن الناس في مالطة إذا أحبوا شخصًا، دعوْه إلى تناول لحم الأرانب، كما أنها تُباع في كل مطعم مالطي!
كأنك في القدس أو يافا
ليست الكلمات ولا اللغة في مالطة وحدها ما ذكّرني بفلسطين، فالعمارة في مالطة وإن كانت مزيجًا فريدًا من الدمج بين العمارة الغربيّة والشرقية، إلّا أن بعض حاراتها والأحياء لا تُذكّر إلا بالشرق، ولا أتحدّث هُنا عن بقايا من العهد الإسلامي، كما هو الحال في إسبانيا أو صقلية مثلا، فالواقع أن آثار ذلك العهد نادرة جدًا، وقد قرأت أن أقدم هذه المعالم الإسلامية عبارة عن شاهد قبر من القرن الثاني عشر، وهو موجود في متحف في جزيرة «غودش»، بيد أن بصمات العرب والمسلمين تكاد تكون حاضرة في كُل مكان من خلال «المشربيّات».
المشربيّات أو الشنانشيل، أو حتى الرواشن كما سمّاها الشدياق، واعتبر وجودها «أحد الأدلّة على كونهم عربًا»، «لا توجد في بلاد الإفرنج إلّا في ما فتحه العرب منها» كما أكّد الشدياق. كما وجدت مُدوّنة لكاتبة غربيّة زارت مالطة وأدهشها جمال «المشربيّات» أو «الجالريّا» – كما يُسميها المالطيون – فقامت ببحث استقصائي لمعرفة أصلها، فوجدت كثيرين قد رجّحوا أصولها العربية، كما وجدت من اعتبر أصولها عثمانية، وهناك ثلّة أخرى اعتبرتها آراغونيّة (إسبانية)، ثمّ حتى لو كانت إسبانية، فإن إسبانيا من أكثر الدول الأوروبية تأثرًا بالحضارة الإسلامية.
عن نفسي، لم أقرأ كثيرًا حول أصولها، وكان يكفيني ما رأيت بأم عيني في مدينة «الرباط» حين دخلت أحد الأحياء الشعبية فوجدت نفسي في زقاق يُذكرني بأزقة البلدة القديمة في يافا والقدس بكل ما فيه من تفاصيل، سواء «الجالريا» أو حتى شكل إطار البوابة ومدخل البيت مع «الزرّيعة» أمامه، ولا ينحصر ذلك بـ «الرباط»، بل في «مدينة» حيث الأسوار العالية والتحصينات التي أسسها المُسلمون هناك تُذكّر بالبلدة القديمة في القدس وعكا.
الأمر مُشابهٌ حتى في مدينة «سانت جوليان» حيث الكثير من المباني الأوروبيّة الكلاسيكيّة، إلّا أن من يجلس عند خليج الصغير ويتأمل البيوت القديمة المُقابلة للشاطئ سيُخيّل إليه كما لو أنه في عكّا أو يافا كذلك، وما أكثر الأمثلة.
لا يُستبعد أن يكون «فرسان مالطة» الذين مكثوا في القدس وفلسطين فترة طويلة تصل إلى أكثر من 200 عام في فترة الحملات الصليبية وما قبلها، قد نقلوا الكثير من المعارف في البناء والعمارة إلى أوروبا ومالطة بشكل خاص حيث المناخ لا يختلف كثيرًا عن فلسطين أيضًا، فكلاهما من بلاد البحر الأبيض المتوسط أو «بحر الروم» كما يُسمّى أحيانًا.
فالطبيعة في مالطة تُشبه بلادنا، إلا أنها تتفوق علينا بالكهوف البحريّة البديعة. ولمن لا يعلم، فإن العديد من مُخرجي الأفلام العالميّة اختاروا مالطة لتصوير أفلامهم، ومن بين تلك الأفلام التي صُوّرت في مالطة فيلم «طروادة» الشهير.
فلسطين.. بعيون مالطيّة
لم أرَ فلسطين في شوارع مالطة فقط، فقد رأيتها في عيون بائع الكعك الذي سُرّ كثيرًا لما عرف أصلي، وكذلك النادل الذي كان يتعامل معي بشيء من الجفاف، فهناك من المالطيين من يتوجّس من العرب فعلا، لكنّ الرجل نفسه انقلب رأسًا على عقب لما عرف أنني من فلسطين، وراح يذكر لي صديقه الفلسطيني. هذا غير آخر، عجوز مالطي، راح يحدثني عن أشواقه للقدس حين عرف أنني من هناك.
وعندما تُذكر فلسطين في مالطة، تُذكر أرملة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات التي تعيش في مدينة سليمة في شقّة بالإيجار، وليس في قصر فخم اشتراه لها القذافي كما كانت تروّج قناة العربيّة. أما ابنته زهوة فقد كبرتْ، وهي تدرس الآن العلوم السياسيّة في جامعة مالطة.
على صعيد آخر مُختلف تمامًا، ففي نفس المدينة قد تم اغتيال فتحي الشقاقي – مؤسس حركة الجهاد الإسلامي – عام 1995، وذلك في إحدى رحلاته إلى مالطة حيث كان عائدًا من جولة «تسوّق» – كما تذكر الروايات – فقام عناصر الموساد الإسرائيلي بتتبعه واغتياله وذلك ضمن خطّة أقرها الرئيس الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين بنفسه ردًا على عمليّة بيت ليد التي أسفرت عن مصرع 19 جندي وجرح أكثر من 60 آخرين!
الأعجب من كُل هذا، حكاية أهل العاصمة فاليتا مع «المُقاومة الفلسطينية»، وهي حكاية قديمة تعود إلى خمسينات القرن الماضي، أي بعد نكبة فلسطين، وذلك بعد تسليم القوات البريطانيّة البلاد للحركة الصهيونيّة ومغادرتها فلسطين، حيث نقلت الكثير من الجنود إلى مالطة، فراحوا يرتادون النوادي الليلية والخمارات وأحدثوا فوضى عارمة أقلقت السُكان، فتكوّنت مجموعة من الشباب المالطي وكوّنوا «كتائب فاليتا» وقرروا مقاومة الجنود ومنعهم من دخول المدينة، واندلعت «حرب الشوارع» اتّخذ فيها شباب فالتيا المقاومة الفلسطينية نموذجاً لهم وصار هتافهم: «إحنا تاع البالستينا .. حد ما يسطا(ع) علينا Ahna tal-Palestina, hadd ma jista’ ghalina»، بمعنى «نحن الفلسطينيين، لن يستطيع أحد أن يغلبنا». ومع أن تلك المعارك لم تستمر إلا لأيام، إلا أن مُشجعي فريق فالتيا ما زالوا يهتفون هذا الهتاف حتى يومنا هذا.
خاتمة
لا شك أن مالطة ليست عربيّة ولا تتحدث العربية بالضبط، حيث يجب ألا ننسى أن أكثرهم يلفظون العربية بلفظ أعجمي متأثرٌ بالإيطاليّة والإنجليزية، وهو لفظ قد يحرمنا من فهم المالطيّة بسهولة إلّا أنه يكشف أن مالطة هي مزيج عجيب من التلاقي بين الشرق والغرب.
وفي الواقع فإن حياة المالطيين أقرب إلى الشرق من الغرب، فمطاعمهم وعمارتهم شرقيّة بامتياز، وهي قريبة إلى تونس وليبيا كما بلاد الشام، بيد أن هناك جيلا من المالطيين بات يسعى إلى أن يكون أوروبيًا غربيًّا في كُل شيء، حتى أن منهم من يفضّل الحديث مع زُملائه بالإنجليزية لا المالطيّة.
رغم هذا، لا تزال تجد في مالطة من يُحب الشرق وفلسطين، فلم أرَ منهم إلا خيرًا، ولعلّ تاريخهم الطويل مع الاستعمار هو الذي جعلهم أكثر تضامنًا مع القضية الفلسطينية. أما بالنسبة لعلاقتهم بالعرب، فهذه مسألة شائكة ومعقدة، ولكن هذا لا يمنع من وجود ثلّة فيهم لا يرون بأسًا بذكر فضل العرب في بلادهم في مجال الزراعة والعمارة واللغة!
ختامًا، فإن مالطة صغيرةٌ جدًا، وكُل مساحتها أصغر من قطاع غزّة، ولكنّها مع ذلك جميلةٌ وبديعة، ويكفي السائح منها أن يزور الكهوف البحريّة فيها وفي منطقة «الدويرة» ذات التسمية العربية، ليرى شيئًا من جمال الطبيعة وجمال بقاء العربية فيها رغم كُل السنين.
- Malta Diary The straight and narrow Strait Street in Valletta
- The Origin of the ‘Maltese’ Surnames | Maltese History & Heritage
- Genetic origin of contemporary Maltese – timesofmalta.com
- So who are the ‘real’ Maltese? – timesofmalta.com
- How they all became household nicknames – timesofmalta.com
- فتحي الشقاقي – موسوعة النكبة الفلسطينية
- سهى عرفات: أعيش في شقة مفروشة وأتقاضى راتب زوجي شهريا, …
- Qwiel Maltin ghal studenti habrikin | Maltese | Educational
- Maltese Balcony Origins – Ottsworld
- Baedeker Reiseführer Malta, Gozo, Comino
- Imqaret – Wikipedia
- Traditional Malta Food and Drink – Maltese Mediterranean Food
- DK Eyewitness Top 10 Travel Guide: Malta & Gozo
- كتب – الواسطة في معرفة أحوال مالطة – مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
- برنامج وثائقي مالطا تتحدث العربية – YouTube
- الجزيرة الوثائقية – أذان في مالطا – YouTube
- دروب في مالطة مع علي آل سلوم