كانت مصرُ منذ أضحت جزءًا من أرض الإسلام مستقرًّا لطائفةٍ من الصحابة، جاءوا إليها صحبةَ الجيش الفاتح، ثم آثر بعضُهم الاستقرار بها عقب إتمام الفتح. وآخرون وفدوا إليها بعد ذلك وفودَ غيرهم إلى غيرها من الأقاليم في إطار ما عُرف بـ”تفرق الصحابة في الأمصار”. وكان لأولئك وهؤلاء نشاطٌ ديني موفور مدارُهُ على التعريف بالإسلام، وشرح مضامينه العقدية والأخلاقية، والإبانة عن أحكامه في مسائل التشريع التي لا انتظام لحركة المجتمع المسلم بغير إيلائها حظًّا كبيرًا من الرعاية والاهتمام.ويلوح لنا أن تفرق الصحابة في الأمصار المختلفة كان موضع رضا وتشجيع من جانب دولة الخلافة؛ ابتغاء النهوض بتلك المهمة الجليلة، إن لم يكن جزءًا من برنامج مرسوم وضعته الخلافةُ وأشرفت على تنفيذه([1]). ولا يتسع المقامُ للتعريف بمن دخل مصر من الصحابة مؤثرًا الاستقرارَ بها، أو التنويهِ بجهودهم في إرساء قواعد مدرسةٍ فقهيةٍ تضارع غيرها من المدارس التي نشأت في الأمصار الأخرى، وهي المدرسة التي كان الصحابيُّ الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص أستاذَهَا الأول غير مُنَازَع؛ ومن هنا فقد غلب على أهل مصر التزامُ فتاويه والصدورُ عن آرائه([2]).وكنا قد ألمحنا في المقال الأول من هذه السلسلة إلى أن أولئك الصحابة درجوا على استنباط أحكام الشرع فيما يواجهون من وقائع متجدِّدة؛ بالتماسها في نصوص القرآن أولاً، ثم فيما انتهى إليهم من نصوص السُّنة، ثانيًا. وربما ألجأتهم الضرورةُ (أي: ضرورة قصور النصوص عن استيعاب الوقائع) إلى حمل غير المنصوص عليه صراحةً من المسائل على ما ورد النصُّ فيه؛ لمشابهةٍ بينهما، وهي عملية اجتهادية مركبة ينفسح فيها مجالُ النظر وتتباين فيها طرائق الاستنباط.ثم كان أن نقل التابعون في مصر – كما في غيرها من الأمصار – ما أُثر عن الصحابة عمومًا وعن عبد الله بن عمرو خاصةً من أحكامٍ وفتاوى، مع الإضافة إليها ما استخلصوه من أحكام وتشريعات باجتهادهم الفردي، في تلك المسائل والنوازل التي لم يكن لسلفهم فيها نصوصٌ مأثورة أو أحكامٌ قاطعة.ولقد مثَّل أولئك التابعون الحلقةَ الثانية في تاريخ الحركة الفقهية بمصر، وهي حلقة شديدة الأهمية؛ إذ مهدت لظهور ما عُرف بـ”المذاهب الشخصية”؛ ذلك أنهم كانوا من الأئمة المجتهدين([3])– والاجتهادُ كما أسلفنا كان هو الصفةَ الغالبة التي وسمت الحركةَ الفقهيةَ في تاريخها المبكر – كما تواطأت مصادرُ التاريخ على نسبتهم إلى مصر، والنظر إليهم باعتبارهم “فقهاءً مصريين”، وأخيرًا فقد مارس أكثرُهم وظيفتي القضاء والإفتاء، وهما الوظيفتان اللتان تُبْرِزان أصالةَ الملكة التشريعية، وتهيئان المجالَ لتحقيق الركن الثالث من أركان الصناعة الفقهية، وهو الاجتهاد. وبعبارة موجزة، فقد كانوا “مجتهدين/ مصريين بحكم الموطن لا بحكم العِرْق/ يعمل أكثرهم بالقضاء والإفتاء”.وممن اجتمعت فيه تلك الصفاتُ الثلاث: سليم بن عتر التجيبي المصري (ت 75هـ/694م) فقيه مصر وناسكها وقاضيها نحو عشرين عامًا (40- 60هـ)، وعبد الرحمن بن حجيرة المصري (ت 83هـ/702م) الذي ولي قضاء مصر إبان ولاية عبد العزيز بن مروان، وأبو الخير مرثد بن عبد الله الحميري (90هـ/708م) مفتي أهل مصر في زمانه([4]).أما يزيد بن أبي حبيب (ت 128هـ/745م) فيمثل نقطةَ تحولٍ فارقة في تاريخ الحركة الفقهية بمصر؛ ذلك أنه أولُ من فصل العلمَ بمسائل الحلال والحرام (أي: العلم بأحكام الفقه) عن غيره، وكان الأئمةُ قبله يمزجون في مجالسهم بين تناول تلك المسائل وبين الحديث في أبوابٍ أُخَر كالسير والفتن والملاحم والترغيب وغيرها من الموضوعات المنبتة الصلة بالشأن الفقهي المحْض. وكان ابنُ أبي حبيب أحد فقهاء ثلاثة جعل إليهم عمرُ بن عبد العزيز أمرَ الفتيا في مصر، حين أراد تنظيم أوضاعها([5]).وبفضل جهود يزيد بن أبي حبيب وغيره من التابعين بدأت تتبلور في مصر ملامحُ مدرسة فقهية متميزة حمل رايتها جيلٌ جديد من الفقهاء، ممن اصطلح على تسميتهم بــ”فقهاء الأمصار”، أو أصحاب “المذاهب الشخصية”؛ مثل: حيوة بن شريح (ت 158هـ/774م)، وعبد الله بن لهيعة (ت 161هـ/777م)، والليث بن سعد (ت 175هـ/791م)، وذلك في الوقت الذي ظهر فيه أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى في الكوفة، وابن جريج في مكة، ومالك في المدينة، والأوزارعي في الشام([6]).


التمذهب في التاريخ المبكروعلى هذا النحو قامت حركة الفقه والتشريع في مصر – شأن غيرها من الأمصار – على جهود طائفةٍ من علمائها “المحليين” الذين نُظِر إليهم بوصفهم أئمةً مجتهدين؛ إذ كانوا لا يصدرون في تأسيس الأحكام الفقهية أو إفتاء الناس فيما يطرأ من نوازل عن قواعد مسبقة أو أصولٍ قرَّرها غيرُهم، بل كانوا يواجهون النصَّ الشرعي (قرآنًا وسنةً) مواجهةً مباشرة بغير “وسيطٍ مذهبي” يُلْتَزَم به. بيد أنه بحلول منتصف القرن الثاني الهجري، نشأت فكرةُ “التمذهب الفقهي”، وإن كانت في تلك الحقبة المبكرة لا تعني أكثرَ من اتباع فقيهٍ معينٍ، والتمركز حول آرائه، والتعامل معها بوصفها عمود الارتكاز في نسقٍ فقهي – قيد التشكل – يُرجى له أن يكون مذهبًا مستقلاًّ. أما “التمذهب” بمعنى الولاء المطلق والالتزام الصارم الذي غدا قرينًا للتقليد والجمود فلم يُعرف لا في مصر ولا في غيرها إلا في مرحلة متأخرة نسبيًّا من تاريخ الفقه الإسلامي، حين استقرت مذاهبُهُ واستوفت مقوماتها الأساسية. وبظهور فكرة التمذهب طفقت الحركةُ الفقهية في مصر – بالتوازي مع غيرها من الأمصار – تتحوَّل شيئًا فشيئًا من موقع الاجتهاد المتحرِّر الذي أورثته ممارسةُ القضاءِ والفُتيا حيويةً متجدِّدة، إلى موقع الاتباع لمذاهب بعينها وترسُّم منهجياتها في مقاربة النص الشرعي، مع الاحتفاظ بهامشٍ متسع من الاجتهاد المنفتح والنظر المستقل يسمحان للفقيه بالإضافة إلى تلك المذاهب التي كانت إلى ذلك التاريخ في طور التشكُّل والتكوين.ومن اللافت للنظر أن تلك المذاهبَ التي جرى أهلُ مصر على اتباعها وسعى علماؤها إلى نشر مقولاتها كانت مما وفد إليها من الخارج، رغم أن الحركة الفقهية بمصر كانت آنذاك على قدرٍ من التدفق والنشاط يبشِّر بتأسيس مذهب مستقل يضارع تلك المذاهبَ التي نَبَتَتْ في بيئات علمية أخرى؛ كالحجاز والعراق والشام. وكاد ذلك يتحقق مع الليث بن سعد (ت 175هـ/791م) الذي أسهم بجهد يوشك أن يكون فرديًّا في تأسيس مذهب لم يُكتب له الذيوعُ والانتشار، رغم شهادة الإمام الشافعي له برسوخ الملكة الفقهية في عبارته الشهيرة: “الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به”.ومن العجيب حقًّا أن الفقهاء المصريين الذين تلمذوا للإمام الليث وانتفعوا بدروسه في الفقه، آثروا الالتفاف حول الإمام مالك، ومتابعة آرائه، عوضًا عن التعلق بأستاذهم الأول في مصر، والإضافة إلى جهوده ما عساه يصبح مع التراكم مذهبًا فقهيًّا مكتملاً.


المذهب المالكي في مصرومهما يكن من أمر، فقد كان المذهبُ المالكي أسبقَ المذاهب التي عرفها المصريون وأقبلوا على اعتناقها. ويلوحُ لنا أن “رأس المال الرمزي” الذي كانت تتمتع به المدرسةُ الفقهية في المدينة (دار الهجرة) قد أسهم في تعزيز ميول الأوساط الدينية في مصر إلى اعتناق مذهب مالكٍ (إمام دار الهجرة) والاجتهاد في نشره، باعتباره أبرز ممثلي تلك المدرسة.ويعزو المؤرخون الفضلَ في تعريف مصر بمذهب مالكٍ إلى فقيهين مجتهدين من أصحابه هما: عبد الرحيم بن خالد بن يزيد (ت 163هـ/779م)، وعثمان بن الحكم الجذامي (ت 163هـ/779م)([7]). ثم لم يلبث المذهبُ أن رُزق طائفةً من فقهاء مصر اللامعين وقفوا حياتهم على تنقيحه ونشره، واستكمال بنيانه النظري([8]).ولعله ليس من مجانبة الصواب أن نقرر أن المذهب المالكي لم يبلغ طور النضج إلا بفضل جهود هذه الطائفة، وعلى رأسهم أربعةُ فقهاء سمعوا مالكًا وتخرجوا عليه، وهم: عبد الرحمن بن القاسم (ت 191هـ/806م)([9])، وعبد الله بن وهب (ت 197هـ/812م)([10])، وأشهب بن عبد العزيز (ت 204هـ/819م)([11])، وعبد الله بن عبد الحكم (ت 214هـ/829م)([12]).وبفضل جهود أولئك الفقهاء المجتهدين وغيرهم غَدَتْ مصر منذ نهاية القرن الثاني الهجري القاعدةَ الجديدة للمذهب المالكي، قبل أن تنافسها في ذلك مدرستا المغرب والأندلس. وآيةُ ذلك أنّ فقهاء المذهب جميعًا من بغداد إلى الأندلس تلقوا العلم على أيدي شيوخ المالكية في مصر([13]).وثمة ملاحظة أساسية تتعلق بالجيل الأول من أصحاب مالكٍ المصريين، وعلى رأسهم أربعةُ الفقهاء الذين مرّ ذكرُهم، وهي أنهم لم يكونوا مجرد أتباعٍ لمالكٍ أو مقلِّدين لآرائه، بل كانوا – بحق – أئمة مجتهدين ضربوا بسهم وافرٍ في تأسيس المذهب وتحرير مسائله، وإن شغلت فيه آراءُ مالكٍ موقعًا مركزيًّا. ومن هنا فقد ترجم لهم السيوطيُّ في باب “مَنْ كان بمصر من الأئمة المجتهدين”، فضلاً عن إدراج أسمائهم ضمن “مَنْ كان بمصر من الفقهاء المالكية”.وقد اصطنع هؤلاء الأئمة كلَّ الوسائل الممكنة لنشر المذهب وترسيخ جذوره في مصر، كعقد الحلقات العلمية في المساجد، ووضع المؤلفات الجامعةِ لمسائل المذهب المـُبِينة عن آراء مالكٍ وآراء أصحابه. ومما يلفت النظرَ في هذا السياق أن السَّنَد السياسي لم يكن له أثرٌ واضح في نشر فقه المالكية بمصر، بخلاف ما آل إليه أمرُ المذهب في المغرب والأندلس، وهما الإقليمان اللذان انتشر المذهبُ فيهما بقوة السُّلطة. وقد بدا ذلك واضحًا في قلة من ولي قضاء مصر من المالكية؛ زهدًا وتورعًا. وقد رُوي عن ابن وهب أنه حين عُرض عليه القضاءُ، أبى مُؤْثِرًا الاعتزالَ في بيته، فلما سُئل عن ذلك أجاب قائلاً: إن العلماء يحشرون مع الأنبياء وإن القضاة يحشرون مع السلاطين([14]).


المذهب الحنفي في مصرمن المفارقات المدهشة أنه على الرغم مما اكتنف ولاءَ أبي حنيفة للسُّلطة العباسية من الرِّيب والشُّكوك، وما شاب العلاقةَ بينه وبين أبي جعفر المنصور من اضطراب وتوتر، فقد صادف المذهبُ الحنفيُّ – إبَّانَ تشكُّله وفي الفترة التي أعقبت وفاةَ أبي حنيفة – حظوةً لدى العباسيين الذين منحوه تشجيعهم، وأسبغوا على فقهائه ألوانًا من العطف والرعاية، لم يظفر بمثلها مذهبٌ آخر، الأمر الذي أدى – بين عوامل أخرى – إلى تغلغل الفقه الحنفي في العراق وانتشاره في معظم مدنها، بحيث لم يعد مقصورًا على الكوفة معقل المذهب وقاعدته الأولى. بل إنه لم يلبث أن شقّ طريقه إلى خارج العراق، فهيمن على إيران وبلاد ما وراء النهر هيمنةً باركتها السلطةُ السياسية ووقعت منها موقع الرضا والقبول.لقد بدا فضل السُّلطة في التمكين للمذهب الحنفي واضحًا في إيثارها الأحنافَ بمناصب القضاء – منذ ستينيات القرن الثاني الهجري – في الأمصار المختلفة، وهو إيثار بلغ درجةَ الاحتكار إبان خلافة هارون الرشيد (170-193هـ/786-808م) الذي عهد بمنصب قاضي القضاة إلى أبي يوسف (صاحب أبي حنيفة وأحد كبار مؤسسي المذهب)، “فلم يُقَلَّد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلا مَنْ أشار به القاضي أبو يوسف واعتنى به”، بعبارة المقريزي([15]).ولئن كان المذهب الحنفي قد ظل مجهولاً في مصر إلى منتصف القرن الثاني الهجري، فقد حمله إليها الفقيهُ الكوفي إسماعيلُ بن اليَسَع، الذي تلمذ لأبي حنيفة، وقدم إلى مصر قاضيًا سنة 164هـ ([16])؛ فلا جرم افتتح به السيوطيُّ “ذكر مَنْ كان بمصر من الفقهاء الحنفية”([17]). ورغم اتفاق المؤرخين على وصفه بالعدالة والنزاهة والتعفف عن الأموال، فقد كره أهلُ مصر ولايتَهُ؛ إذ حملهم على غير مألوفهم في مسائل الفقه والقضاء؛ فمن ذلك مثلاً أنه أمر بإبطال الأحباس (الأوقاف)؛ وفقًا لمذهبه وخلافًا لما درج عليه العملُ في مصر وما أفتى به فقهاؤها؛ كالليث بن سعد الذي رأى في صنيع ابن اليَسَع خرقًا للسُّنة، وإهدارًا لما استقر عليه العملُ بين الصحابة، فانتهى الأمر بعزله سنة 167هـ([18]).وقد تعاقب على قضاء مصر منذ ذلك التاريخ عددٌ غير قليل من فقهاء العراق الأحناف([19]). ورغم ذلك فقد أخفق المذهبُ في بناء قاعدةٍ له في مصر؛ إذ ظل وجوده بها إلى منتصف القرن الثالث الهجري مقصورًا على دوائر القضاء، ورهينًا بدعم السلطة وتأييدها، دون أن يتجاوز ذلك النطاقَ الضيقَ إلى تأسيس “حاضنة علمية” تكفل للمذهب التغلغلَ في المجتمع.ولعل تأويل ذلك الإخفاق وثيقُ الصلة بعاملين أساسيين: أولُهما: الخلفية الجغرافية لأولئك الفقهاء/القضاة؛ إذ كانوا جميعًا ينتمون إلى العراق؛ ومن ثم فقد كان بقاؤهم في مصر مرتبطًا بالاستمرار في مزاولة وظيفة القضاء، حتى إذا أُعفوا منها عادوا إلى بلادهم، غير واجدين في مصر ما يربطهم بها من علائق دينية أو علمية أو اجتماعية. وثانيهما: أنهم لم يكونوا من أعلام المذهب الراسخين في الفقه، ولم يكن لأي منهم دورٌ يُذكر في تأسيسه.ولعل مقارنةً سريعةً بين المذهب الحنفي والمذهبين المالكي والشافعي تلفتنا إلى أهمية هذين العاملين في انتشار المذاهب الفقهية في غير الأقاليم التي نشأت فيها؛ فأكثر الفقهاء المالكية والشافعية بمصر كانوا من أبنائها أو ممن استقروا فيها فترةً طويلةً من الزمن هيّأت لهم بناءَ قاعدة واسعة من الأتباع والمريدين، وذلك بالإضافة إلى إسهام بعضهم بنصيب موفور في تأسيس هذين المذهبين والإضافة إليهما، على نحو ما أومأنا عند الحديث عن المذهب المالكي، وعلى نحو ما سيرد عند تناول المذهب الشافعي.وثمة عامل آخر أدى إلى ضعف انتشار المذهب الحنفي في مصر، وتشويه صورته، ألا وهو مسايرة القاضي الحنفي محمد بن أبي الليث (الذي شغل قضاء مصر بين سنتي 226- 235هـ) للسلطة العباسية حين اتجهت إلى حمل الناس على اعتناق مبادئ الاعتزال، والتنكيل بمن يرفض الإقرار بصحة ما ذهب إليه المعتزلةُ من القول بـ”خلق القرآن”، فيما عُرف في الأدبيات التاريخية والكلامية بـ”المحنة”([20]) التي اشتدت وطأتُها إبان خلافة الواثق (227- 232هـ)؛ إذ حُمل الناس على القول بخلق القرآن حملاً لا هوادة فيه.وهكذا لم يتورع ابنُ أبي الليث الحنفي– كما تورَّع سلفُهُ المالكي هارون بن عبد الله – عن الإشراف على امتحان عقائد الناس وإرهابهم بسيف السُّلطة العباسية، حتى إنه لم يبق أحدٌ من فقيه ولا محدِّث ولا مؤذِّن ولا معلِّم حتى أُخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، ومُلئت السجون بمن أنكر أن القرآن مخلوق، ومُنع الفقهاء المالكية والشافعية من التدريس بالمسجد الجامع، وحُرٍّم عليهم الاقترابُ منه ([21]). وقد شقيت مصر بتلك المحنة تسع سنوات متواليات (226- 234هـ)، إلى أن أمر الخليفة المتوكل (232- 247هـ) بإبطالها، ومعاقبة المتورطين فيها، فعُزل ابنُ أبي الليث من القضاء، وصُودرت أمواله، ولُعِن على المنابر، وأُلقي به في السجن، فلبث به إلى سنة 237هـ/851م([22]).والحق أن “الوجود الجماعي” لفقهاء المذهب الحنفي في مصر قد تأخر إلى منتصف القرن الثالث الهجري، وكان ذلك بفضل جهود اثنين من كبار فقهاء المذهب، وهما: القاضي بكار بن قتيبة، وأبو جعفر الطحاوي، وذلك هو موضوع المقال التالي الذي سنناقش فيه أيضًا انتقال المذهب الشافعي إلى مصر، فإلى الملتقى.

([1]) رُوي مثلاً في هذا السياق أن عمر بن الخطاب بعث حِبّان بن أبي جَبَلة إلى مصر؛ لتعليم أهلها أحكامَ الدين وشرائع الإسلام. انظر: حسن المحاضرة 1/151.([2]) المواعظ والاعتبار 4/363.وكان عبد الله بن عمرو بن العاص أحد فقهاء الصحابة، وقد أدرجه ابنُ القيم في الطبقة الثانية من أصحاب الفتاوى، وهم “المتوسطون في الفتيا”. إعلام الموقعين 1/29.([3]) ومن هنا فقد ترجم لهم السيوطي ضمن “مَنْ كان بمصر من الأئمة المجتهدين”.([4]) راجع في التعريف بهؤلاء: حسن المحاضرة 1/255-257.([5]) المواعظ والاعتبار 4/361، 365، حسن المحاضرة 1/259، 260.([6]) المواعظ والاعتبار 4/363.([7]) المواعظ والاعتبار 4/369، حسن المحاضرة 1/262.([8]) أومأ المقريزي إلى ذلك قائلاً: “فاشتهر مذهب مالك بمصر أكثر من مذهب أبي حنيفة؛ لتوافر أصحاب مالك بمصر”، المواعظ والاعتبار 4/369. وراجع أيضًا: مقدمة ابن خلدون 3/955.([9]) صحب ابن القاسم مالكًا نحو عشرين عامًا، ونقل مسائله، وفرَّع على أصوله، حتى نظر إليه المالكيةُ باعتباره المرجع الأول للمذهب بعد وفاة صاحبه. ولقد كان لابن القاسم دور مشهود في حفظ آراء مالك ومسائله؛ انطلاقًا من كونه هو المصدر الأول لــ“المدونة” أجلّ كتب المالكية. ومن المعلوم أن “المدونة” تحوي إجابات ابن القاسم التي طرحها عليه تلميذُهُ أسدُ بن الفرات (ت 213هـ/828م)؛ ولذا فقد عُرفت أول أمرها بـ”الأسدية”، ثم جاء سَحْنون (ت 240هـ/854م) أحد تلاميذ ابن القاسم فنقَّحها ونسَّق مادتها وأعاد ترتيب أبوابها، كما أضاف إليها زيادات من الموطأ، مستفيدًا من سماعه من ابن القاسم، فأضحت بذلك عملاً جديدًا سمي “المدونة الكبرى”. انظر: الفهرست 2/1/8، وفيات الأعيان 3/129، حسن المحاضرة 1/263، فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي 1/3/143.([10]) صحب ابن وهب مالكًا، وروى عنه كتابه “الموطأ”، وكان كما وصفه ابن يونس “جامعًا بين الفقه ورواية الحديث”. وقد شهد له مالك برسوخ الملكة الفقهية، فكان يكتب إليه: “إلى عبد الله بن وهب فقيه مصر”، ونعته قائلاً: “عبد الله بن وهب إمام”. وقد ترك ابن وهب عدة مؤلفات في الفقه والحديث. انظر: الفهرست 2/1/5، وفيات الأعيان 3/36، حسن المحاضرة 1/263، تاريخ التراث العربي 1/3/144.([11]) انتهت إلى أشهب رئاسةُ المالكية في مصر بعد وفاة ابن القاسم. وقد شهد له الإمام الشافعي برسوخ القدم في مضمار الفقه قائلاً: “ما رأيتُ أفقه من أشهب لولا طيشٌ فيه”. وقد أُوتي أشهب قدرةً فائقةً على الجدل والمناظرة، حتى وصف بأنه “من أنظر أصحاب مالك”. انظر: ترتيب المدارك 1/259، 260، وفيات الأعيان 1/238، 239، حسن المحاضرة 1/265.([12]) وقد روى عن مالكٍ كتاب “الموطأَ”، وكان أعلم أصحابه بمختلف قوله، وانتهت إليه رئاسةُ المالكية في مصر بعد وفاة أشهب. وقد ترك عدة مؤلفات في الفقه وغيره، أورد منها سزكين “المختصر الكبير في الفقه” الذي كان يعد مصدرًا أساسيًّا لدى مالكية العراق، و”روايته لمسائل مالك وأجوبتها”. انظر: وفيات الأعيان 3/34، حسن المحاضرة 1/265، تاريخ التراث العربي 1/3/147.([13]) وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ص 239.([14]) وفيات الأعيان 3/37، حسن المحاضرة 1/263.([15]) المواعظ والاعتبار 4/366.([16]) الولاة والقضاة، ص 371، رفع الإصر عن قضاة مصر ، ص 88.([17]) حسن المحاضرة 1/384.([18]) رفع الإصر، ص 89. وراجع أيضًا: المواعظ والاعتبار 4/369.([19]) كمحمد بن مسروق الكندي (بين سنتي 177- 184هـ)، وهاشم بن أبي بكر البكري (بين سنتي 194- 196هـ)، وإبراهيم بن الجرَّاح (بين سنتي 205- 211هـ). انظر: الولاة والقضاة، ص 388، 412، 427.([20]) ففي سنة 212هـ/827م “أظهر الخليفة المأمون القول بخلق القرآن”، ثم بدا له سنة 218هـ/833م أن الواجب يحتِّم عليه أن يُكْرِه الناس على المصير إلى ذلك القول، بوصفه الخليفة المسئول عن إقامة الدين وحفظ أصوله اعتقادًا وتشريعًا؛ ومن هنا فقد أمر في ذلك العام بامتحان الفقهاء والمحدّثين والقضاة بمسألة خلق القرآن. انظر: تاريخ الطبري 8/619، 631، الولاة والقضاة، ص 445.([21]) الولاة والقضاة، ص 451.([22]) السابق، ص 453، 454.