«مالك بن نبي»: دورة الزمن والبحث عن فكرة خالدة
الأزمنة مرايا بعضها البعض، يتكرر فيها التاريخ والنضال وتتناوب فيها النظم المعرفية والسياسية والاجتماعية. فإن كان لزمننا الحالي – زمن الربيع العربي- شبيه أو مرآة من أزمنة سابقة فهو زمن ثورات الاستقلال والحروب التي خاضتها شعوبنا للتخلص من قهر الاستعمار. كان لذلك الزمن العربي آماله وأحلامه العريضة، كما كان له إخفاقات وانتكاسات بحجم تلك الآمال والأحلام، لذلك هو يشبه زمننا العربي الراهن.
ثورات وهبَّات شعبية تنشد الحرية وتدعو للاستقلال من نير التبعية والاستبداد. تيارات دينية ويسارية وقومية وليبرالية في تجاذب وتناطح مستمر على قيادة المشهد. ارتداد من الثورة إلى السياسة، ثم تسليم الأمر إلى الثورات المضادة. دعوات الإصلاح مقابل التغيير الثوري، العنف مقابل السلمية. ظهور أوثان الزعامة والرئاسة، التشظي الثقافي والازدواج اللغوي والفقر الفني … إلخ.
إن كان من أمر نعيه من هذا التكرار والتشابه، فهو أنه ليس بلا معنى. فبين وأثناء كل دورة تاريخية ومن خضم الأحداث والنوازل يبزغ نوابغ أفذاذ يضعون أيديهم على مكامن الجروح ومواضع الزلل، يُشرحون بمبضع فكرهم المشحوذ الحالات الراهنة، يشخصون الأمراض ويصفون العلاجات. مشكلة هؤلاء الأفذاذ أنهم منسيون منبوذون في أزمانهم لا يكاد يسمع نداءاتهم أحد. لكن الزمن لا يهملهم بل لا يزال يحفظ أصواتهم وكلماتهم حتى يُخرج إلى الوجود يومًا من يقدرها ويهتدي بها ويضعها موضع التنفيذ. لهذا لا يتوقف التاريخ عن التكرار لكي يصقل معادن الأفكار وقدرتها على الصمود والخلود.
من بين هؤلاء المفكرين الأفذاذ الذين عاشوا فترات الاستعمار وحركات التحرر ومآلات هذه الحركات بين السلطة والمعارضة، برز المهندس الأستاذ «مالك بن نبي» ببصيرته الحادة وقدرته الفائقة على التفكيك والتحليل وإنشاء الأنماط والمفاهيم الفكرية والمعرفية، وبمشروعه العظيم لاستعادة النهضة الإسلامية وبناء حضارتها الجديدة.
رحلة مستنيرة في ثنايا الاضطراب
ولد مالك بن نبي في 5 ذي القعدة 1323هـ / الأول من يناير كانون الثاني 1905م بمدينة قسنطينة، وانتقلت به أسرته وهو ما يزال طفلا إلى مدينة تبسة، حيث ارتاد «الكُتّاب» وحفظ جزءًا من القرآن الكريم، ثم خرج من الكُتّاب ليلتحق بالمدرسة الابتدائية حتى تخرج منها. عاد إلى قسنطينة ليكمل تعليمه الثانوي، وهناك انفتحت له آفاق جديدة حيث لم تكن المدرسة مصدره الوحيد في التعلم فحضر دروس العلم في الجامع الكبير، واستثمر حبه للمطالعة فقرأ الشعر والأدب العربي والغربي، والتقى بابن باديس وتلامذته حيث كانت مدرسته قريبة من مقر إصدار مجلة الشهاب حيث كان ابن باديس يستقبل تلاميذه وأصدقاءه في مكتبه.
سافر إلى فرنسا للعمل ثم فضل العودة إلى بلاده، فعمل في القضاء والإدارة ونافس المستعمرين على المناصب فتم التضييق عليه حتى فُصل من العمل، ثم عاد مرة أخرى إلى فرنسا ولكن للدراسة هذه المرة.
هناك في بلاد المستعمر حاول الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية لكن طلبه رفض فانتهى به الأمر لدراسة الهندسة الكهربائية الأمر الذي كان له بالغ الأثر في المنهجية التي يطرح بها أفكاره.
لم يكتفِ ابن نبي بالدراسة النظامية، بل تابع شغفه في دراسة العلوم الإنسانية فدرس الفلسفة الغربية وطالع علوم اللاهوت وتعمق في علوم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس، واطلع على المدارس المختلفة في سائر هذه العلوم فجذبته المدرسة الألمانية في الفلسفة وعلم الاجتماع، وأبدى اهتمامًا كبيرًا بأطروحات المؤرخ الإنجليزي الشهير «توينبي»، انعكس في نقده لها بعد ذلك.
كان ابن نبي في هذه الفترة شديد النشاط في المناحي الفكرية والثقافية بين الأوساط والجاليات المغاربية، وعبّر عن أفكاره المناهضة للاستعمار والمطالبة بالوحدة المغاربية وأبدى أحيانا نزعة سلفية وهابية ضد التقليد الصوفي السائد في بلاده في تلك الفترة.
اتصل ابن نبي بعد تخرجه من المعهد الهندسي بالباحثين والمفكرين والمثقفين والمستشرقين، وعمل صحفيًا في صحيفة لوموند، وأصدر كتابه الأول «الظاهرة القرآنية» بالفرنسية.
في فترة الثورات والاضطرابات عاد إلى الجزائر، لكنه فضل الحياد على الانتماء لأي من التيارات المتواجدة على الساحة في حينها، وعبر عن استيائه من الطريق الذي تسلكه النخب الجزائرية.
سافر إلى القاهرة إثر دعمه لفكرة عدم الانحياز، ووطد علاقته مع جمال عبد الناصر الذي سمح له بنشر كتبه وممارسة نشاطه الثقافي.
ثم تردد بين القاهرة ودمشق، وحرص على ترجمة كتبه إلى العربية، ثم عاد إلى الجزائر بعد انتهاء الثورة ليعين في عدة مناصب عليا في سلك التعليم، ومارس نشاطه الثقافي في الجزائر حيث كانت له ندوة هي قبلة الطلاب والمثقفين من الجزائر والمغرب العربي وأوروبا والشام.
استقال أخيرًا من مناصبه الحكومية بعد خلاف مع الرئيس بومدين، وتفرغ للمشروع الثقافي والحضاري حتى توفي في الواحد والثلاثين من أكتوبر تشرين الأول عام 1973م .
عندما يعزف المهندس معزوفة الحضارة
تقبع أفكار «مالك بن نبي» داخل منظومة مفاهيمية صممها وهندسها بمهارة واقتدار، ينتقل فيها من الأساسات والأركان إلى المفاهيم والأفكار الفرعية بنظام محدد ودقيق، يستعمل فيه حتى الرسوم البيانية أحيانا، لا يكف عن مساءلة ونقد أفكار ومفاهيم الآخرين التي تهمه في سياقاته الخاصة، ثم يعيد تركيبها وإنشاءها بعد تخليصها من درن الاستشراق وروح الخنوع الثقافية ويضعها في مكانها الصحيح من صرحه الحضاري.
بالرغم من الدقة والعمق والنظام الذي يسود منظومة بن نبي الفكرية، إلا أن روحًا قوية تدفعها، روح مؤمنة شديدة الإيمان بالفكرة الدينية وبالتفوق الحضاري وبالرسالة المؤتمن عليها. يقول في إهدائه الذي صدّر به كتابه الأول الظاهرة القرآنية: «إلى روح أمي، وإلى أبي؛ الوالدين اللذين قدما لي أثمن الهدايا… هدية الإيمان»، بينما لا تغيب الآية القرآنية (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) عن أي من كتبه أو مقالاته، فهي المحرك الحاضر والأصيل في كل حياته، وهي اللبنة الأولى في مشروعه الفكري.
بهذه الروح وبهذا النظام كان مالك يأبى أن ينظر إليه أحد من علٍّ، وآمن إيمانًا مطلقًا بالتفوق الحضاري للأمة والفكرة الإسلامية، وآمن بقدرتها على الشفاء والنهوض من كبوتها ووهب لها حياته وفكره.
ينقسم مشروع مالك ابن نبي إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
1. استكمال مشروع نهضة الأمة الذي بدأه جمال الدين الأفغاني.
2. مقاومة الاستعمار ومنظومته الفكرية والثقافية المتمثلة في الاستشراق.
3. بناء الحضارة واستلام الريادة.
النهضة: يقسم مالك بن نبي دورة حياة الحضارة إلى ثلاث مراحل وهي ما قبل الحضارة والحضارة وما بعد الحضارة ويجادل بشكل خاص أن إنسان ما بعد الحضارة مختلف اختلافًا جذريًا عن إنسان ما قبل الحضارة, فإنسان ما قبل الحضارة ما زال يملك استعداده الفطري لاستقبال الفكرة المؤسسة للحضارة ودخول معترك التاريخ، أما إنسان ما بعد الحضارة فيعاني تفسخًا كاملًا للفطرة الأساسية وعالمه الفكري وهو إما في حالة موت حضاري أو ثبات عميق يحتاج جهودًا مضنية لإيقاظه وإرجاعه إلى قاطرة الحضارة من جديد.
من هنا، يشيد ابن نبي بكل جهد وكل فكر حاول إيقاظ الأمة النائمة من سباتها ابتداءً من جمال الدين الأفغاني، مرورًا بمحمد عبده وحتى مصطفى كمال أتاتورك والأفكار التقدمية والقومية التي وإن خالفها إلا أنه رأى فيها إشارة إلى اليقظة وارادة التغيير، وانتهاءً بابن باديس الذي أيقظ الجزائر من غفوة الصوفية والخرافة والتخلف وأعاد توجيهها نحو مبادئ العلم والتوحيد الصحيحة.
إلا أن هذه الإشادة لم تكن لتمر دون نقد، حيث رأى في كل هذه الجهود مجرد تتبع للأعراض دون النظر إلى المرض الحقيقي والكشف عنه ومعالجته، وهو المرض الذي تمثل في «انعدام الرؤية الكلية للحل وقابلية الأمة للاستعمار الثقافي والعسكري والشيئية وعبادة الأشخاص»، أي في انعدام النزعة الحضارية بمعناها العام من كل هذه الحلول والمحاولات التي طبعت النهضة الإسلامية.
الاستعمار والاستشراق، والحضارة
يرى ابن نبي أن الاستعمار في حد ذاته ليس المشكلة إن كانت الأمة المستعمرة ذات قدرة حضارية وثقافية تقيها من توابعه، إلا أن الأمة الإسلامية عانت من نير الاستعمار في فترة تحلل وانحدار، وهنا يدخل في المعادلة مفهوم «القابلية للاستعمار» وهو المعامل الذي كان مرتفعًا في الأمة الإسلامية، مما سهَّل على الغرب إجهاض نهضتها بواسطة جهازه المفهومي والثقافي المسمى بالاستشراق وأتباعه من أنصاف المثقفين والمفكرين الذين انبهروا بالتجربة الغربية الذاتية ولم يروا وجهها القبيح الآخر ولم يعوا سياقات هذه التجربة التاريخية والأخلاقية والدينية.
لذا يبذل ابن نبي في مقالاته وكتبه وندواته مجهودًا كبيرًا في دحض ومقاومة هذه المفاهيم المستجلبة التي يراها معوقة للنهضة ومشوهة لعالم أفكار الأمة الإسلامية.
أما عن رؤيته لبناء الحضارة، فلا يكتفي ابن نبي بالتقسيم الزمني لدورة حياة الحضارة إنما يحدد شروطها وأدواتها ومبادئها. بالنسبة له فإن الحضارة لا بد وأن تبدأ بفكرة دينية هي التي تخرجها من الطور الفطري وتنشئ لها عالم أفكارها.
ما هو عالم الأفكار هذه إذا؟ يقسم ابن نبي الوعي الإنساني منذ ولادته إلى ثلاثة مراحل: الوعي بالأشياء أو عالم الأشياء، ثم عالم الأشخاص، وأخيرا عالم الأفكار.
ينسحب هذا التقسيم على الوعي الجمعي للأمة أيضا، وعالم الأفكار هو مكمن الرسالة البشرية وأساس فعله فإذا انعدم لدى الشخص أو الأمة هذا العالم أو اضمحل تقلبت أبدًا في مستنقعات التخلف وعانت من مرضين أساسيين هما تكديس الأشياء وتوثين الأشخاص، وبهذين المرضين تنعدم قدرة الأمة على صنع الحضارة إذ أن الحضارة هي التي تنتج الأشياء والأشخاص ولا تنتجها هذه الأشياء وهؤلاء الأشخاص.
بعد الفكرة الدينية وسيادة عالم الأفكار على غيره تحتاج الحضارة إلى ثلاثة مقادير لتكمل وصفتها التاريخية وهي: الإنسان ثم التراب وأخيرا الوقت.
إن كانت الفكرة الدينية هي التي تفتتح الحضارة و تؤسسها فإن الثقافة هي التي تضمن فاعليتها وقدرتها على امتزاج مقاديرها، والثقافة بتعريف ابن نبي تتكون من أربعة مبادئ هي: المبدأ الأخلاقي الذي يحدد رسالتها وأولوياتها، والمبدأ الجمالي الذي يحدد رؤيتها للعالم، والمبدأ العملي الذي يحدد فعاليتها و سيرها، وأخيرا: المبدأ الصناعي الذي يحدد شكلها وأنماط الإنتاج والمعيشة فيها.
والثقافة بمبادئها الأربعة هي التي تضمن سيادة الإنسان على التراب والزمن لكي يلتحق بركب التاريخ ويؤثر فيه.
كيف يرى «ابن نبي» زمن الربيع العربي
على الرغم من أن ابن نبي رحمه الله لم يعِش ليشهد زمن الربيع العربي، إلا أن رؤاه وأفكاره المستندة إلى بصيرته النافذة والمستمدة من واقعه وزمنه قد تكون مفيدة في فهم ونقد وترشيد الأفكار والأحداث والمفاهيم التي قادت زمننا هذا وأثرت فيه. نبدؤها بعرض لرؤية مالك لفكرة الثورة حيث يقول في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي «إن تاريخ الثورات في العالم يظهر كم أن مصيرها هش وغير مؤكد بعد انطلاقها، فقد يحدث في أكثر من بلد إسلامي أن تجد البلاد نفسها بعد الثورة في الوضع السابق على الثورة بل ربما في وضع أكثر خطورة».
لا يكره ابن نبي الثورة، بل على العكس يراها ضرورية لتحقيق التحرير، ولكنه بطبعه الهندسي والفكري يريدها ثورة متحكمًا فيها، ذات قيادة رشيدة وذات رؤية لمرحلة ما بعد الثورة وتسعى للانطلاق بمركب الحضارة.
هذه رؤيته للثورة فما رؤيته للسياسة إذًا؟ لا يرى مالك بن نبي طبعا بُدًا من الفعالية السياسية، ولكنه يرى وجوب أن تكون هذه الفعالية تحت مظلة الاستقلال والتحكم الكامل في القرار. فهو يعيب على جبهة العلماء في الجزائر دخول معترك السياسة في العام 1936م وتخليها عن مشروعها النهضوي. يرى أن هكذا مشاركة سياسية هو استسلام في منتصف الطريق وتضيع للنصف الأول.
لو شهد ابن نبي ثورات الربيع العربي لربما كان هذا رأيه أيضا في تولي الإسلاميين للسلطة مباشرة عقب سقوط رؤوس الأنظمة دون استكمال مشروعها الاجتماعي ودون تخليص الدولة من فلول وبقايا الدولة القديمة التي قادت الثورات المضادة بعد ذلك.
بالنسبة للعنف، ينتقد مالك بن نبي أطروحة «فرانز فانون» في هذا الإطار، ويعتبر أن أطروحته فتحت بابًا للكسل الفكري والحضاري لقيادة الثورة الجزائرية التي لم تستعد ولم تعمل لمرحلة ما بعد زوال الاستعمار، ويرى أن العنف دون برنامج كامل للنهضة والانطلاق الحضاري هو هدر للطاقات وفتح الممرات للمنتفعين والأفاقين، وربما حتى الاستعمار، ليعاود دخوله من جديد من أبواب أخرى.
إن العنف برأي مالك بن نبي هو ما يجيده الاستعمار والأنظمة القمعية، وهو ساحتهم المفضلة التي يسعون لجر الثوار إليها على الدوام لمعرفتهم بقدرتهم على سحق الثورة بالعنف، لكن المشروع الفكري والثقافي والحضاري هو الضمان الوحيد لرحيل المستعمر والمستبد إلى الأبد.
يرى مالك بن نبي أن ظاهرة تقديس الأشخاص أثناء وبعد المراحل النضالية، إنما هو تعبير عن فقر في عالم الأفكار وينتهي بالثورة إلى الاستبداد من جديد، ويضرب أمثلة لأنظمة عربية قاومت الاستعمار ثم قدست الشخص فانتهى بها الأمر إلى الاستبداد وإلى الاستعمار الخفي كما في مصر وتونس وأندونيسيا.
أخيرًا، يبقى التفحص الدقيق لفكر مالك بن نبي واستخراج الدروس والنقود من من كتبه ومقالاته وندواته مفيدا لضمان عدم تكرار أخطاء الماضي، ولاستيعاب الخلل والضعف الكامن في قضايا لم يسلط عليها الضوء بعد الربيع العربي كالتشظي الثقافي والازدواج اللغوي والفقر الفني وغيرها.