عبثية الحياة التي لا تُحتمل، هي ما يُجبر المرء على خلق المعنى الخاص به.
ستانلي كوبريك

يحضر الممثل للمُخيلة في صورة كائن أكثر رهافة من الشخص العادي، قادر على التملص من سجن كينونته وتقمص أحوال شتى، روح شفافة يُمكنها أن تتلبس أي شخصية مكتوبة وتمنحها الحياة.

بجوار تلك الهالة الرومانسية التي تؤطرها الأضواء عندما يبذل المُمثل فنه أمام الكاميرا، نجد خلف الكاميرا «المُخرج/ رب العمل» والذي يحضر في المُخيلة بصورة أقل رومانسية، قولبتها السينما نفسها في قالب روح عصابية قلقة، ديكتاتورية، دومًا على وشك الانفجار في طاقم التمثيل. صورة مُستلهمة بالفعل من واقع أشهر مخرجي السينما المحلية والعالمية مثل ستانلي كوبريك وهيتشكوك ويوسف شاهين.

خلف تُحفة shinning السينمائية التي حول فيها كوبريك رواية رُعب تجارية لواحد من أجمل كلاسيكيات السينما الحديثة، مُحلقًا بجونرة بسيطة في أدواتها لآفاق أكثر أصالة وجمالية، يكمن مخرج أكثر إرعابًا من القصة نفسها، يروي «جاك نيكلسون» بطل الفيلم في حواره لـ نيوزويك:

البطل يسير، الطفل يتناول إفطاره، البطلة ترتعد هلعًا في خزانة، هناك ألف طريقة لتصوير تلك المشاهد، سيظل كوبريك يُعيد اللقطة خمسين مرة ليجاوز الجيد نحو الأفضل والأفضل نحو المثالي.

سيكون ثمن تُحفة كوبريك هو الانهيار العصبي لطاقم عمله، وبالأخص بطلة الفيلم «شيلي دوفال» التي أثر ضغط الفيلم على مسيرتها السينمائية للأبد، بعد أن أعاد كوبريك مشهد ذعرها الشهير بينما زوجها يحاول اقتحام مخبئها ببلطة 127 مرة ليظفر باللقطة المثالية.

من فيلم The Shining – إخراج ستانلي كوبريك

يحمل «هيتشكوك» أبو الرعب البريطاني السمعة نفسها، مصرحًا بجرأة أنه يكره مُمثليه، وأنه يتفنن في معرفة الفوبيا التي يُعاني منها المُمثل ليستثيرها، لو خاف الممثل من الطيور أو العناكب أو الظلام فسيختلق حضورًا لها، ليظفر باللقطة المثالية.

يُجيد هيتشكوك وكوبريك توظيف الخوف والضغط العصبي كعناصر إخضاع لمُمثليهما لتخرج الحكاية من مُخيلة رءوسهما للواقع كما هي، دون أن تتغير إنشًا بخروج أحد عناصر العمل عن دوره المرسوم.

المخرج الأمريكي ألفريد هيتشكوك

يقول كوبريك عندما سُئل عن جوهر سينماه واستراتيجية عمله، إن مركزية الرعب في عالمه ليست قسوة العالم أو روعته، إنما كون العالم غير مُبالٍ بنا كبشر، لا توجد خطة لهذا العالم، ولا رحمة ولا وعود بالخلاص، لذلك يصطنع كوبريك سينماه وديكتاتوريته كحيلة دفاعية لاستعادة السيطرة في كون فوضوي ولو على حكاية فيلمه، يلعب كوبريك دور الرب في عالم بلا إله، إله قاسٍ مُروض لكل عناصر الفوضى في فيلمه لتخرج خطته كما هي، تكشف فلسفة كوبريك في قلبها عن خوف عميق من الفوضى يتمظهر بكل صور الهوس بالسيطرة والتحكم.

نجد الخوف نفسه في قلب سيكولوجية هيتشكوك، السمة الأساسية لسينماه هي التشويق suspense، اللحظات المُعذبة للمتلقين ونحن لا ندرك هل سينجح القاتل في جريمته؟ هل ستنفجر القنبلة بينما يتحدث الأبطال في غفلة؟ 

ينبع التشويق من طفولة هيتشكوك نفسها عندما أرسله والده وهو ابن خمس سنوات لقسم الشرطة، مع ورقة تطلب من المأمور حبسه لدقائق كعقاب للأطفال السيئين، لم يعلم هيتشكوك وقتها أنها مجرد دقائق، أيقن ببراءة طفولته أنه سيظل سجينًا للأبد. تلك الدقائق رسمت حياة كوبريك ومعالم سينماه، تلك الدقائق جعلت منه مُخرجًا عبقريًّا يرتعد من رموز السلطة كالشرطة، لكنه يدرك أنه لو حبس ممثليه في سجن مخاوفهم ولو لدقائق فسيظفر باللقطة المثالية.

أمام الكاميرا تبدو السينما سحرًا، ولكن خلفها، بعيون كُتابها ومُخرجيها، تبدو أداة ديكتاتورية لخلق السيطرة في عالم بلا خطة، يقول «كوبريك» إن تلك العبثية التي تحكم العالم هي التي تخلق الحاجة للسينما كرغبة جمالية من البشر في خلق المعنى والسيطرة عليه بالفن.

في عام 2006 قدمت «كاملة أبو ذكري» فيلم «ملك وكتابة»، الذي يدور حول المُفارقة نفسها بين السينما كحكاية تدور أمام الكاميرا، وبين السينما خلفها، عبر قصة حياة أستاذ تمثيل يُجبره خروج قاسٍ على النص للخروج من الجنة والنظام الذي خططه بصرامة لحياته كنص سينمائي مُحكم لفوضى الواقع الحقيقي، سينمائي تجرد من أداته وديكتاتور هبط من عرشه وعليه أن يعيش الحياة كحكاية حقيقية دون أن يرويها.

السينما انعكاس كاذب للواقع

الشكل والمضمون وجهان لعُملة واحدة.
ملك وكتابة

يظهر البطل «محمود عبد السلام» منذ البداية كأستاذ مُتزمت في معهد فنون مسرحية، قيوم على قص أجنحة تلاميذه لتناسب أفكارهم دومًا كتابه الجامعي ولا تخرج عنها.

تقدم «كاملة أبو ذكري» حياة بطلها في تتابع لقطات مع تعليق صوتي، تبدو كحياة مضبوطة على إيقاع الساعة، يفتخر محمود لكونه يمتلك إيقاعًا مُنظمًا لحياته، موعد لدروسه، موعد لنومه، موعد حتى لأكثر التجارب عفوية وحميمية، مُمارسته الجنس الأسبوعي مع زوجته، والذي يظهر كطقس ميكانيكي بلا روح.

يقول كونديرا في روايته «الهوية» إن كل مهنة تصيغ ذهنية صاحبها فتصير بعد مُمارستها طويلًا مجازًا عن رؤيته للعالم بأكمله.

محمود حميدة من فيلم ملك وكتابة

ندرك أن الإيقاع المُحكم الذي يُنظم للبطل حياته ينبع من عشقه لتدريس التمثيل، لتصير الحياة بالخارج امتدادًا لهذا الفن، الحياة نص سينمائي، وكل الشخوص بداخلها مؤدين للنص، مُخلصين لرؤيته، خلال مُحاضرة يزجر الأستاذ الجامعي تلميذه لأنه قدم بحثًا خارج المنهج الذي وضعه، لنرى كيف يتعامل البطل بصرامة مع كل خروج عن النص، يؤمن «محمود» أنه في نهاية هذا الإيقاع توجد لقطة مثالية، تكمن المشكلة أنه لا أحد يرى تلك اللقطة سواه.

يمتلك طلابه دُعابة أساسية بشأنه وهي ترديده المُمل لعبارة:

الشكل والمضمون وجهان لعُملة واحدة.

لا يُفلح أي منهم أبدًا في تفسير ما يعنيه، يرى محمود أن الحياة مُطابقة للنص السينمائي الذي اصطنعه في عقله لتلك الحياة، كلاهما وجهان لعُملة واحدة، متى حدث هذا التطابق يطمئن لامتلاكه السيطرة على عالمه، ومتى تهددت تلك السيطرة ولو بطالب يخرج خطوة واحدة عن منهجه، سيستخدم سلطته كاملة في إخضاعه واستعادة التطابق.

السينما كحيلة نفسية

أفضل طريقة لتعليم السينما هي أن تصنع فيلمًا.
كوبريك

يُخبرنا محمود منذ البداية أنه رغم عشقه للتمثيل لم يقف يومًا أمام الكاميرا، لم يكتب، لم يخرج، لم يُمثل فيلمًا أبدًا، وهو ما يتبدى في مشاهد تعليمه لتلاميذه فصلًا من «هاملت»، لتخرج طريقته التعليمية ملفقة وكاريكاتورية فتنفجر قهقهات تلاميذه، أداء خرج بالكامل من كتب صفراء قديمة قدسها البطل باعتبارها تعاليم فن التمثيل.

محمود حميدة من فيلم ملك وكتابة

لا ينتمي بطل الحكاية لعوالم كوبريك وهيتشكوك وأرباب السينما في براعتهم، إنما ينتمي لهم في السيكولوجية الكامنة خلف تلك البراعة، رغبة البشر منذ قديم الأزل في ترويض واقع لا سيطرة لهم عليه بخلق حكاية مُحكمة عنه ينتصرون في نهايتها. لا يظهر محمود كقيوم على هذا الفن من حيث هو فن، إنما من حيث هو أداة تُخفي جماليتها وإبداعها اللامحدود رغبة بشرية تواقة للسيطرة، لإخضاع العالم خارجنا لصورة العالم بداخلنا، تبدو السينما لمحمود حيلة نفسية دفاعية لإخضاع الواقع.

محمود حميدة من فيلم ملك وكتابة

يتذكر كيف بدأ حُبه للسينما، عندما قضى طفولته كابن لقاضٍ أجبره عمله على الترحال من مُحافظة لأخرى، لم يخلق الطفل محمود لنفسه جذورًا أبدًا، أصدقاء، ذكريات، لذلك جاءت السينما كمهرب، عشق الأفلام التي تُسيطر على مقادير أبطالها في حكاية قصيرة، بدلًا من طفولة طويلة لا سيطرة له فيها على شيء، إنما ينتقل كقطعة أثاث من بلد لآخر حسب ظروف عمل أبيه. يظهر ذلك في ذوق الأفلام التي يشاهدها حتى في كبره، أفلام مثل «سينما باراديسو» التي تؤطر النوستالجيا والحنين للسينما كأداة تربط رجلًا ناضجًا بطفولته

وبينما أفرزت السينما كحيلة نفسية للسيطرة فنًّا رفيعًا لدى كوبريك وهيتشكوك ومُخرجين كُثر، اكتفى بها البطل كذهنية يُمكن بها أن يخلق إيقاعًا مُحكمًا لحياته، لكن ماذا لو تحطم هذا الإيقاع؟

الخروج عن النص

تنقلب حياة محمود رأسًا على عقب عندما يخرج أحد مؤديه عن النص، يتغير روتينه في يوم بعينه ليعود لمنزله في غير موعده المُقدس ليشهد خيانة زوجته له، توثق «كاملة أبو ذكري» بذكاء انهيار البطل لا باعتباره جرح كبرياء ذكوري، لا يتمظهر انهيار محمود في صورة غضب أو عنف موجه نحو زوجته إنما نوبة هلع لإله فقد مقاليد السيطرة على عالمه، مُخرج خرج أبطاله عن النص وأفسدوا مسرحيته. يوجه محمود غضبه من خيانة زوجته في مشهد تالٍ للطالب الذي قدم له يومًا بحثًا خارج المنهج، لأن الطالب وزوجته يمثلان الفكرة نفسها، الخروج عن النص الذي يقذف حياته كاملة من أمان النظام والمعنى للفوضى، الشكل والمضمون وجهان لعُملة واحدة، خيانة زوجته، وتفكير طالبه خارج صندوقه، وجهان للجريمة نفسها.

محمود حميدة من فيلم ملك وكتابة

لذلك يُنهي الفيلم بذكاء دور الزوجة بعد لقطة الخيانة. مونتاج قاسٍ محاها من الحكاية، لأن الخيانة في عالم محمود تعني خروجًا عن النص عليه معه أن يُعيد ترتيب وخلق حكايته بأكملها وطرد عنصر الفوضى منها.

يُحاول محمود ترتيب حياته من جديد ليكتشف أنه لم يعد طفلًا يشاهد الأفلام لتعويض ارتحالات أبيه، ولم يعد شابًّا اختار زوجة أكاديمية يضبط على مواعيد حياتها العملية مواقيت عمله، إنما هو رجل في خريف عُمره. بلا خطة، وبلا نص.

يتأنق ويذهب إلى المقهى، بحثًا عن جُمهور لا يعرفه، يُقدم نفسه في صورة أستاذ تمثيل عملاق خرج من تحت يده كل نجوم السينما.

من فيلم ملك وكتابة – إخراج كاملة أبو ذكري

 يُدرك محمود أنه بشكل واعٍ يصطنع فيلمًا جديدًا عن نفسه، يتولى فيه السيطرة، يقول:

دا الحل أروح مكان جديد فيه ناس لا أعرفهم ولا يعرفوني، أقول اللي أنا عاوزه وأرسم الصورة اللي اخترتها للدكتور محمود.

لكن تفسد التجربة عندما يسأله أحد رواد المقهى ببداهة شعبية، إن كان معلمًا عظيمًا لكل هؤلاء فلماذا لم يُمثل يومًا؟

الممثل خارج أمان النص

تظهر شخصية هند التي تُمثل نقيض عالم محمود ورمزًا لمخاوفه، فتاة تمتهن التمثيل دون خطة أو دراسة أكاديمية، يتهدد محمود بوجودها ليقينه أن نجاح الممثل دون مُعلم يعني أن رسالة حياته كلها بلا قيمة. لذلك يتعمد في البداية إهانتها بشدة لا تناسب تعبيرها عن رأيها في تدريسه لأنه يعلم أن حضورها يُهدد بشكل خفي كل ما هو عليه.

تتطور العلاقة بين الطرفين لتقدم انعكاسًا لعلاقة نجيب الريحاني الشهيرة بليلى مراد في «غزل البنات»، الصفقة الجمالية بين رجل في خريف العمر يقدم حكمته لفتاة تحتاجها بينما هي تُقدم حيوية وحُبًّا افتقده في حياته دومًا.

محمود حميدة وهند صبري من فيلم ملك وكتابة – إخراج كاملة أبو ذكري

عاش محمود حياته بأكملها مُدربًا للتمثيل، لكنه يستسلم لهند بعد فقدان نصه السينمائي المُحكم لتكون هي مُدربة له على الحياة بلا نص، تصطحبه لاستوديوهات التصوير، ليرى السحر وقت صناعته، السحر الذي قام بتدريسه لعقود وارتعد دومًا من شهوده.

محمود حميدة وطارق التلمساني من فيلم ملك وكتابة

 بينما يُقدم محمود لها الشخصية الأبوية المتقبلة التي افتقدتها بموت أبيها وهي في سن صغيرة، وبينما حبيبها يرفض أن يغير إيقاع حياته لأجلها، تجد في محمود شخصية تنصاع لإرادتها في التغيير. جسد كل واحد منهما ما يحتاجه الآخر في لحظة بعينها من رحلة العُمر. 

ملك وكتابة، الحياة عملة بوجهين

المشكلة إني اكتشفت إن كل حاجة عملتها في حياتي بدافع الخوف سمتها حاجة تانية، رعبي من التمثيل سميته رسالة التمثيل المقدسة، فشلي في التعامل مع الدنيا اللي بتتغير نظام، المشاعر المزيفة بيني وبين مراتي سمتها حب، فشلت، فشلت في كل حاجة في حياتي عشان خايف.
ملك وكتابة

تأتي اللحظة الفارقة في رحلة محمود الجديدة عندما يُسند له اضطرارًا دور كومبارس، وبخبرته كأستاذ تمثيل يتوقع الجميع أن يؤديه محمود في دقائق، لكن يتعثر البطل في أدائه معنويًّا وحرفيًّا بسقوطه أرضًا ويُعيد المشهد مرات حتى يجعل من ذاته أضحوكة.

يمثل ذلك المشهد الفارق بين الفنان وصانع السينما، بين كوبريك ومُمثليه، بين الهالة التي رسمتها المُخيلة لرهافة الفنان وجنون المُخرج، خلف الكاميرا يؤدي المُخرج دور الرب، يرسم الحدود ويكتب النصوص ويؤطر زوايا شهود الحدث، أمام الكاميرا يؤدي كل ممثل الشق الإيماني، الاستسلام لإرادة المخرج ولفيض الموهبة بداخله وخلق وفاق بين القوتين.

من فيلم ملك وكتابة – إخراج كاملة أبو ذكري

لم يتعلم محمود الإيمان يومًا، لأن الإيمان قوامه التسليم بوجود الفوضى والتصديق في جمال يقبع خلفها ويمكن اقتناصه، ومحمود اعتنق التمثيل هربًا من الفوضى، لذلك يصل للجذر الذي يُخفي هوسه بالسينما، الزنزانة الكئيبة التي قضى فيها هيتشكوك دقائقه المرعبة، القلق الوجودي الذي يعصف بنفس كوبريك، يتعرف محمود أخيرًا على غريزة الخوف، بحر الفوضى الذي يقبع أسفل كل محاولاته للسيطرة. والذي طفا على السطح فظهر كشخص يرتعد من دقائق أمام الكاميرا.

لم تكن حياة محمود حياة إله يغزل من العيش نصًّا سينمائيًّا مُحكمًا إنما حياة خائف يرتعد ويختبئ بخوفه من الخروج للعالم خلف مسميات براقة. وبينما نجح كوبريك وهيتشكوك وكل مخرجي السينما في تحويل مخاوفهم وعُصابهم لفنون، وجد محمود أنه لم يغزل من خوفه شيئًا سوى واجهة هشة انهارت عندما خرج ممثل واحد في حياته عن النص.

يدرك محمود في تلك اللحظة أن الشكل والمضمون ليسا وجهين لعُملة واحدة، وأن الحياة أقرب للملك والكتابة، تلك اللعبة شديدة البدائية والعبقرية في آن واحد، والتي تُخبرك دومًا أن كل اختيار يُخفي وجهًا آخر، وأنه لو ظن يومًا أنه الملك في حكايته، فربما هو رهين كتابة مشوشة لا أكثر لنص ظن به أنه يسيطر على عالمه، بينما هو يبني حصونًا لخوفه.

الحكايات سجوننا، ومفتاح حريتنا 

الاختبار الأكثر صدقًا لأصالة العمل الفني، هو كيف أثر فينا شعوريًّا؟ وليس قدرتنا على شرح كيف كان العمل جيدًا.
هيتشكوك

يلخص هيتشكوك سينماه في جانبين: المعرفي وهو القدرة على خلق حبكة مُحكمة وذكية، والشعوري وهو القدرة على توظيف مساحات التشويق والخوف والقلق لتتحول الحكاية من لغز بوليسي لتجربة مروعة تترك أثرًا في نفوس مُتلقيه لا يزول، يراهن هيتشكوك ليس على حل اللغز الذي يفقد بعده الفيلم بريق غموضه، إنما بصمة المشاعر التي ستجعل المرء يشاهد أفلامه مرة تلو الأخرى.

يقف محمود في مفترق طرق أخير، بين حياة قديمة لم يعد يملك نصًّا للعودة لها، وحياة جديدة تُطالبه بالتخلي عن ألوهيته السينمائية لنص متخيل، على قبول الحياة كفيض، على الانكشاف بحقيقته حتى لو بدت حقيقة متواضعة.

يتغلب محمود على تجربته السابقة ويقف مجددًا أمام الكاميرا لأجل مشهد صغير، تتسم قصة محمود بغياب الحدود بين واقعه والسينما، فهو يحيا قصته بذهنية السينما لذلك تتغير الأدوار وتضع السينما حياته السابقة موضع مُساءلة عندما يُمثل دور زوج تعرض للخيانة.

من فيلم ملك وكتابة – إخراج كاملة أبو ذكري

يؤدي محمود مشهدًا مثاليًّا يُجمد كل من حوله، وينال الثناء، لكن تكمن قوة المشهد في كونه خرج عن النص، تخلى عن الدور المكتوب، وتحدث بالعبارات التي تمنى يومًا أن يُخبر بها زوجته:

متخافيش أنا مش هعملك حاجة، أنا بس كنت عايز أعرف أنا ليه كنت مصدق إن إحنا قريبين، مكنتش شايف ولا كنت خايف أشوف.

يعترف محمود أن الخيانة ليست خطأ زوجته وحسب، إنما خطؤه لأنه لم يرَها أبدًا سوى أداة من أدوات اكتمال نصه، مؤدٍّ مُطيع لدور رسمه هو، أداة للسيطرة في حكاية قوامها الخوف.

يمثل «ملك وكتابة» الوجه الآخر للسينما، ديكتاتورية الحكايات التي نصنعها لنُسيطر باستبداد على واقع فوضويته ترعبنا.

 كيف يتمظهر الخوف رغم كونه عاطفة هشة في أكثر صور العيش قسوة، وهي ارتهان الجميع في قوالب أدوار لا تُشبههم، لكنها تمنح الأمان لشخص يملك سلطة كتابة الحكاية له ولمن حوله، سواء كان مُخرجًا أو مُعلمًا أو أبًا أو أيًا من يمتلك سلطة على أفراد ليصيروا ديكورًا لحكايته. ولد محمود من رحم حكاية كان فيها ديكورًا لمهنة أبيه ليجعل العالم بأكمله ديكورًا لحكاية سينمائية تدور في عقله.

يعترف محمود في تعليقه الصوتي لنا بحبه لهند، حب أصيل وحقيقي لكنه لا يُشبه حبه السابق لزوجته وشخوص عالمه، حب لا يأسر صاحبه في دور أو سجن، إنما يمنحها حريتها ويساعدها على العودة لحبيبها، يمتن لكونها من حرره من سجنها برفضه أن يصطنع من حبه سجنًا جديدًا لها، يصمت محمود أخيرًا في محرابه الأثير، قاعة التدريس ويسمح للطلبة بالسؤال، بالخروج عن المنهج.

خالد أبو النجا، هند صبري ومحمود حميدة من فيلم ملك وكتابة

يتحرر محمود من الوجه المُظلم للسينما عندما يتقبل الحياة كفيض، عندما يخرج من الظلام خلف الكاميرا للأضواء أمام الكاميرا، يترك تعاليمه ونصوصه وإرشادات الأمان جانبًا، ويُعبر لأول مرة عن نفسه كما هي. حققت السينما له سجنه وفي لحظة بعينها منحته حريته.