«النهضة» وقودها «العفن»: لا كرامة لِابن نبي في وطنه
يُعدُّ المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي، واحدًا من أهم رموز الفكر الإسلامي، ولِمَ لا وهو صاحب أطروحات تفرّدت من نوعها، وقت طرحها، ببحث جذور النهضة، وسُبُل وصول العالم الإسلامي إليها، وكيفية تجاوز نكبته التي بات يعيشها وتفصله عن الحضارة الغربية التي تبعد عنها جغرافيًا عدة كيلومترات، لكنها واقعيًا تسبقه بآلاف السنوات الضوئية.
وعلى الرغم الإسهام الكبير الذي قدّمه الرجل في سعيه لانتشال أمّته العربية من الهوة العميقة التي سقطت فيها، فإن هذه الجهود لم تُقابل أبدًا بالعرفان، وظلّت أطروحاته حبيسة الأدراج طوال فترات طرحها وحتى الآن، وهي أحد أشكال العلاقة المتأزمة التي عكست حجم عدم الود المتبادل الذي جمع بين ابن نبي ومواطنيه.
أثار انشغال ابن نبي الدائم ببحث أسباب التأخر الحضاري والفكري لأهله مُقارنة بجيرانه الأوروبيين في نفسه كثيرًا من الأسى والسخط على أبناء مِلته، بعد ما كانت كفتهم تخسر كل مُقارنة منطقية يضعهم فيها ابن نبي مع سكان الشمال، وهو الأمر الذي أكسب كثيرًا من كتاباته نزعة نقدية عنيفة جلدت العرب والمسلمين كلما حانت له الفرصة، وكان الرد على ذلك محاولات تسخيف وتسفيه لأعمال المفكر البارز، تحوّلت لاحقًا إلى تجاهل وتهميش لم تنتهِ حتى اليوم.
تقول فوزية بريون في كتابها «مالك بن نبي: عصره وحياته ونظريته في الحضارة»، إنه وُلد في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1905م في مدينة قسنطينة بالجزائر، وكان أخًا لثلاث شقيقات.
عمل والده في المدرسة الرسمية التي كانت تدرس باللغتين العربية والفرنسية، وإليه يعود الفضل في تشجيع ابنه على الدراسة في فرنسا، وتزويده بالمال طوال هذه المدة برغم ظروفه بالغة الصعوبة، أما جده، فكان من الجماعات التي أفزعها قانون التجنيد الإجباري الذي أصدرته فرنسا عام 1908 فهاجر ليبيا، دون أن يصحب أسرته معه.
فبقي والد مالك مع زوجته يعانيان من ضيق الحال حتى أن الأم اضطرت للعمل خيّاطة، وعاشت الأسرة في فقرٍ مُدقع حتى أنهم يومًا فشلوا في تدبير رسوم الكتّاب الزهيدة ومنحوا للفقيه بدلاً من المال سريرًا خشبيًِا!
عندما نجح ابن نبي في المرحلة الابتدائية لم يسلم من التمييز العنصري، فلم يُمنح الأفضلية رغم حصوله على أعلى الدرجات وإنما مُنحت لزميله الفرنسي، وفي عام 1921م، التحق بما يُسمّى المدرسة الفرنسية الإسلامية، التي أنشأتها باريس لتزويد إدارتها بطبقة من الموظفين التكنوقراط الجزائريين حيث درس باللغتين العربية والفرنسية الآداب الأوروبية وعلوم الاجتماع وقسطًا من الفلسفة وعلوم الدين.
زادت الأمور عقب اشتعال الحرب العالمية الأولى، والتي خلّفت تغيرات قاسية على المجتمع الجزائري وأدت إلى تفكك مفاصله؛ انهارت الطبقة الوسطى، وظهرت طبقات هجينة جديدة، وانتشرت القروض الربوية على يد الجالية اليهودية والتي وصلت فيه قيمة الفائدة أحيانًا إلى 60%، وعندما كان المُقترض يعجز عن الدفع يُحجز على ممتلكاته، وهو ما أدّى إلى انتقال مساحات واسعة من الأراضي والعقارات إلى أيدي المستعمرين، واعتبر ابن نبي الجالية اليهودية مسؤولة بشكل رئيسي عن هذا التردي الاقتصادي.
رحلة اكتشاف العقل
في عام 1932م، كان ابن مالك طالبًا مغاربيًا ضمن زُمرة من أبناء الجزائر الذين وفدوا على فرنسا لنيل العلوم التي حُرمت منها بلادهم، وهذه الرحلة تحديدًا كانت سبب النعمة/ النقمة التي غيّرت حياة الرجل، وحوّلت دفته من الاكتفاء بدراسة الهندسة إلى التعمّق في بحث الإشكاليات التي أوهنت روح الأمة الإسلامية، لعل وعسى يجد لها حلاًّ يفيق أولئك النائمين الذين أسكرتهم الأوهام من المحيط إلى الخليج.
وفي هذه الفترة كانت الجزائر واقعة حتى الثمالة تحت القبضة الفرنسية، بعد ما مرَّ قرنٌ من الزمان على احتلال البلاد عسكريًا، كان كفيلاً بانتشار الثقافة الفرانكفونية في ربوع البلاد العربية، في إطار مساعي فرنسا المستميتة لاستئصال الهوية الجزائرية من نفوس أهلها، تمهيدًا لـ«فرنست» الجزائر بشكل نهائي.
يقول الباحثان نايت قاسي وحسين عبدالستار في دراستهما «واقع الجزائر فيما بين 1927 و1930»، إن هذه الفترة شهدت تأزمًا في الوضع الاقتصادي كنتيجة لآثار الكساد العالمي سنة 1929م، وزيادة في حالات التوتر الاجتماعي المتزايد بين السكان، وحيوية نسبية في الحياة الثقافية بفضل جهود ما عُرفوا بلقب «علماء الإصلاح».
في فرنسا، تلقّى الشاب الجزائري الجرعة القاسية للصدمة الحضارية كما يجب، وفور أن وطئت قدماه الأراضي الأوروبية لم يتوقف عقله عن عقد المقارنات بين شباب الجالية الجزائرية اللاهين في باريس بلا هدفٍ ولا هوية، ورفاقه الأوروبيين المسيحيين ذوي الهمة والجد في العلم والعمل وحتى في لحظات الترفيه.
كان غريبًا أن يكون أكثر مكان يشعر فيه ابن نبي بالاغتراب هو بين أبناء وطنه الذين أثارت سلوكياتهم الامتعاض في نفسه، يحكي في مذكراته أنه اكتسب عزلة وسط الآخرين، أعرب عن فخره بها!
حاول الالتحاق بمعهد اللغات الشرقية فرُفض طلبه لـ«مقاييس سياسية»، فالتحق بمعهد الهندسة الكهربائية، والذي كان البوابة التي فتحت الباب أمام ابن نبي للتعرف على علوم الحضارة الغربية عن كثب.
حينما عمل ابن نبي على كتابة مذكراته الشخصية حمل كل سطرٍ فيها مرارة العلقم التي قاساها طيلة حياته تقريبًا، إذ يقول: ما أضعه بين دفات هذه الصفحات خلاصة ما يختلج في نفسٍ أريد لها التحطيم عبر الإكرام الجسدي والسم المعنوية، ولقد استهوتني عناوين كثيرة أُسمُّ بأحدها هذا الكتاب، غير أنّي اخترت عنوانًا يُلخّصها جميعًا: العفن.
اعتبر ابن نبي في كتابه أن ذهابه إلى باريس «هذَّب وجوده، ومكَّنه من اكتشاف عقله» وحجم الأزمة التي غرق فيها وطنه. يقول: «كنت أستغرق في مُطالعة البرامج الجامعية فتسرح مخيلتي في تأمل عميق عن كل ما يفصل بين العالمين الإسلامي والعربي من فروق، وكانت هذه المطالعة تمنحني فكرة مخيفة عن هذا البون الذي أحاول قياسه، وكان الإحساس بتخلفنا الرهيب يحطُّ من نفسي ويجعلني أحسُّ بالإهانة الكبيرة».
كما يحكي، أنه منذ وجوده في باريس، أحسَّ بمدى اختلافه عن «إخوانه المسلمين»، فحتى اهتماماته في المجال الديني لم تكن تأملية فحسب بل أخذت تتطبَّع بالشكل العلمي، ويضيف «أصبحتُ ذلك العقل البراجماتي والعلمي الذي لا يُمكن لواقعيته ودقته إلا أن تفاجئ عقولاً تعودَتْ على عدم الدقة وغياب الواقعية».
قارَن، مثلاً، بين مدير مدرسته الذي كان يعتبره «قديس علم» تبحّر في العديد من العلوم، ورغم ذلك، فإنه لا يخجل من الاعتراف بأنه لا يعرف كل شيء، والعلماء الجزائريين المتحذلقين الذين كانوا يُجمِّعون الناس حولهم، يجيبونهم في كل المسائل، ولم يعرف واحدًا منهم يُقرُّ بجهله ويعترف بقصور علمه في أي مسألة مهما كان مجالها.
دفعته هذه الصدمة المبكرة إلى البحث سريعًا عن جذوره، وفي جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا ألقى محاضرة على أقرانه حملت عنوان «لماذا نحن عرب؟» لاقت إعجاب كثيرين، حتى أن محمد الفاسي رئيس الجمعية، حينها والمفكر المغربي الكبير لاحقًا، وصفه بأنه «حامل عقيدة وحدة شمال أفريقيا».
المثير في الأمر هو أن أكثر المعترضين على هذه المحاضرة كان جماعة الطلبة الجزائريين التي وصفها بأنها «الأكثر خسة»، وممثلهم حينها بومنجل، الذي اعتبر أن الأطروحة غارقة في التاريخ، ولا يُمكن الاعتماد عليه للاستدلال عل المستقبل.
وهنا يجب التنويه إلى حجم الاضطراب الذي كانت تعيشه الجزائر وشعبها الباحث عن هويته في ذلك التوقيت، والذي بلغ ذروته عندما نبت في أرضها فرع عربي الأصل فرنسي الهوَى يُنكر وجود هوية جزائرية بالأساس، أبرزهم السياسي الجزائري الشهير فرحات عباس (صديق بومنجل)، والذي كتب في عام 1936م مقالة في جريدة «الجمهورية الجزائرية»، أعلن فيها أن «التاريخ لم يكشف عن وجود أمة جزائرية»!
وهو ما يُوضّح حجم التحدِّي الذي كان على ابن نبي أن يخوضه وهو في بداية رحلته العلمية والفكرية، بعد ما قرّر السعي لإفاقة شعب تُنكر بعض أطيافه وجوده أصلاً!
رغم الاعتراض الجزائري الخافت على كلمات ابن الجزائر، لاقت نشاطاته صدى لدى بقية الطلاب المغاربة في فرنسا، وهنا أنا أقصد بكلمة «المغاربة» مدلولاتها الواسعة التي تشمل الدول العربية الخمسة التي تحتلُّ الزاوية الشمالية من أفريقيا. على كلٍّ، صادَف ابن مالك قبولاً واسعًا قادَه للحصول على منصب نائب رئيس الجمعية، هو الحدث الذي أثار اهتمام رجال المكتب الثاني (المخابرات الفرنسية) فوُضِع تحت الرقابة، وخضع لبعض التحقيقات البسيطة من قِبَل رجال الشرطة عن مصادر أمواله واهتماماته التعليمية.
الطريق إلى الإسلام من النادي المسيحي
من المفارقات المدهشة في حياة ابن مالك، أن تأسيسه الأول كداعية إسلامي مُعتبر كان في «نادي اتحاد الشبان المسيحيين»، فبعد ما عزف عن مخالطة إخوانه العرب والمسلمين كثُرت جلساته في هذا النادي، الذي يكفل له وجبة غذاء ساخنة ومُخالطة بعددٍ كبير من زملائه الأوروبيين المتنورين، الذين غرسوا في نفسِ ابن مالك كثيراً من القواعد الفكرية المنطقية، والتي جعلته يُقبل على الإسلام بعقلٍ مختلف قاده للإعراب عمّا سماه «إسلاماً جديداً»، يختلف عن الإسلام الذي يعرضه الآخرون المنسحقون تحت وطأة الحضارة الفرنسية».
شيئًا فشيئًا، بدأ ابن نبي بالخروج بـ«إسلامه الجديد» من حيِّز النادي المُغلق إلى الحي اللاتيني في باريس، مستقر العصبة الجزائرية التي وصفها بأنها سقطت في «غياب وعي تام عن الماضي والحاضر والمستقبل»، ولهذا كانت النتيجة المتوقعة أن واجه ابن نبي رفضًا تامًا من مواطنيه.
يقول: لم ألمس لدى أي مسلم في الحي اللاتيني أضعف انشغال بالقيام بحصيلة مقارنة بين الحضارة العربية والحضارة الغربية في وضعهما الحالي، ومحاولة فهم العلاقة الحقيقية بين المُستعمِر والمُستعمَر، وأنا أعي الآن لماذا أنظر إلى المسألة الجزائرية، على الخصوص، من زاوية الحضارة بدلاً من زاوية السياسة.
يعتبر ابن نبي، أنه خرج من الاجتماعات بـ«الشباب المسيحيين» بمكسبين عظيمين؛ وعي بالعلم الغربي ووعي بالروح المسيحية، وفي كلتا المسألتين كان المجتمع الإسلامي شديد التأخر، هذا الوعي المزدوج غيّر من طباعه ودفعه للسعي لتطوير عقله لمحاولة استيعاب كل علوم الغرب والقيم الروحية في المسيحية، يحكي أنه خلال السنة الدراسية الباريسية 1932-1933 سعى لتعلم دروس علوم الميكانيكا والكهرباء والكيمياء وغيرها.
معتمدًا على الحوالة الشهرية التي كان يُرسلها له أبوه من الجزائر، انهمك في التحصيل لدرجة أنه يحكي أنه لم يكن يغادر البيت مطلقًا إلا لتلقي الدروس عدا في أيام السبت التي كانت تُصرُّ عليه زوجته الخروج فيها لتنشيط عقله وصحته.
وكان ابن نبي قد تزوَّج، بعيدًا عن أهله، بالسيدة بوليت فيليبون paulette philipon التي أسلمت وسُميت «خديجة» تيمنًا بالسيدة خديجة بنت خويلد زوجة الرسول، وعانت معه معاناة شديدة بسبب مواقفه.
هذه الخروجات لم تُفد ابن نبي كما تمنّت زوجته، لأنه كان يقضيها في مقهى يرتاده الجزائريون بالحي اللاتيني، حيث يجد «أنواع النميمية والتفاهات وتنقاضات الحياة الجزائرية وبشاعتها وعفونتها، ووجه الإنسان القادم من شمال أفريقيا الذي يترك نفسه في مهبِّ ريح الحياة على الطريقة الباريسية».
فلنحارب الاستعمار، ولكن كيف؟
خلال سنوات الدراسة، ألّف ابن نبي مسرحية «المدير الساذج» والتي حضرها الطلبة الجزائريون، وانتقد فيها استعمار فرنسا بلاده بشكل ما ورائي متدثرًا بحكاية جمعت بين عنزة وراعي ماعز، انتهت المسرحية بجُملة مؤثرة تقول «لا يتطلب الأمر شهادة دراسية حتى يُصبح المرء راعيًا للماعز».
أشعلت هذه المسرحية الحماس في نفوس الحضور، وتتالت الخطابات الحماسية ضد الفرنسيين، حتى وقف أحد الحضور وهتف متحدثًا عن الاستعمار: والله سأجندله بضربة رأس، فلن يُرى أبدًا!
لم يشعر ابن نبي بالسعادة لردود الأفعال تلك، لأنها عكست المشكلة الحقيقية التي يعاني منها الجزائريون في حربهم ضد الاستعمار، وهي الاعتماد الأساسي على العنتريات والخُطَب، فيما كان يؤمن ابن نبي بأن أي سياسة تحرير لا تبدأ ببناء الإنسان وتنشيط ذكائه ووعيه ليست إلا «نطحة» ضد حائط صلب.
في ذات عام صدور المسرحية، أصدرت فرنسا «مقرر ميشال» الشهير، والذي يفرض سيطرتها على كافة مساجد الجزائر ويمنحها الحق في تحديد علماء كل مسجد، وهو القرار الذي أثار ضجيجًا كبيرًا فتداول عدد من رجال الدين رسائل تعترض على هذا القرار.
من باريس، قاد ابن نبي حربًا ضروسًا ضد هذا القرار؛ نشر رسالة مفتوحة في جريدة «الدفاع La Defanse» ينتقد فيها فرض أئمة بعينهم على مساجد الجزائر، وأرسل خطابات مفتوحة بذات المعنى لعددٍ من رموز المجتمع الفرنسي؛ برلمانيين وكتّاب وصحفيين.
بذل ابن نبي هذه الجهود لضمان عدم تحكم الفرنسيين في عصب الإسلام داخل الجزائر، وليس دفاعًا عن شيوخ المنابر الذين قال عنهم «كان علماؤنا دومًا على قدرٍ من الجهل يحجبهم عن إدراك الأفكار، وعلى قدرٍ من الجُبن لتطبيقها إذا كانت ثمة بعض الأخطار، إنهم يُحبِّون الجنة طبعًا، لكن على شرط وصولها بتأنٍّ وببطن شبعان وبفكرٍ خاوٍ».
يحكي ابن نبي، أنه عندما كان يُمعن عقله في تحليل حجم «الفقر الخلقي والفكري» الذي يعاني منه العالم الإسلامي، يتعاظم بداخله فراغ رهيب، ويشعر بأنه الوحيد الذي يهتمُّ بهذه الأمور، فحتى علماء الدين كانوا أبعد ما يكونون عن النظر إلى الأشياء بعُمق، لأن جوهر المسائل الدنيوية كان غائبًا عنهم تمامًا.
وعندما كتب السياسي الجزائري فرحات عباس مقاله الأشهر «فرنسا هي أنا»، والذي أنكر فيه بشكلٍ تام وجود «أمة جزائرية»، مدعيًا أنه «بحث في كل مكان، حتى في رماد المقابر دون أن يعثر على شهادةٍ بوجودها»، ردَّ عليه ابن نبي بمقالٍ من نار بعنوان «مثقفون أم مثيقفون»، كانت لهجته عنيفة حارقة لدرجة وصفه ابن نبي معها بأنه كان كـ«بصقة في وجه فرحات عباس».
هذه الجهود، وغيرها، أدَّت لاحقًا لاعتبار أن ابن نبي هو «العقل الأخطر»، الذي يُمكن أن يتجلّى لدى واحدٍ من سكان مستعمرات شمال أفريقيا، عقلٌ لو قُدِّر له النجاح، سيُغيِّر كثيرًا من قواعد اللعبة.
المبخرة التي أحرقت الجزائر
في زيارة سريعة للجزائر، لم يكفَّ ابن نبي عن إعلان امتعاضه من كل شيءٍ في بلاده، وكان أكثر ما يؤلمه هو الغياب التام للروح الجماعية في الجزائر، يحكي: كان البرجوازي يقفل عائدًا في المساء إلى منزله المريح دون أن يتأثر بتاتًا بالطفل الذي يكون قد صادفه في طريقه وهو في الشارع نائم تحت حائط، ولطالما كنت أتساءل: كيف أخلق هذه الروح الجماعية؟ كيف أحقق طموحاتي الكبيرة بوسائل بشرية بسيطة؟
طرأت على ذهنه فكرة، وهي توزيع منشورات توعوية برفقة عددٍ من أصدقائه، وزعها على أكبر قدرٍ ممكن من الجزائريين، تحت اسم «رفقاء الإسلام».
حين انفجرت اضطرابات 5 أغسطس/ أوت 1934 في مسقط رأس ابن نبي ببلدة قسنطينة، والتي وصفها بصاعقة انتشرت في كامل مناطق المقاطعة ومنها إلى كافة ربوع الوطن بل وتجاوزته إلى الخارج.
وعلى الرغم من أطروحاته الفكرية المناوئة لليهود، الذين اعتبرهم يُسيطرون على أوروبا ويستعملون المسيحية كأداة لتحقيق مآربهم، فإنه يحكي أنه رفض المساس بالأقلية اليهودية التي تعيش في قسنطينة خلال المظاهرات، حتى أنه ورفاقه الثائرين عيّنوا حراسة خاصة على بعض بيوتهم.
اعتبر ابن نبي، أن هذه الأحداث أفرزت في الجزائر أثرًا سياسيًا كبيرًا، لكنه كالمعتاد ينتقد قيادات الجزائر حينها، فاعتبر الشيخ العربي التبسي، أحد أبرز شيوخ الإصلاح في الجزائر، بأنه «لا يفقه شيئًا في الصراع الفكري».
أما الدكتور ابن جلول، السياسي البازر حينها، فلقد اعتبر ابن نبي أن سياسته أفقدت الجزائر وعيها وقادتها إلى طريقٍ غامض، يحكي أنه حرص على مقابلته فأصيب بخيبة أمل كبرى، فلقد كان الرجل عاديًا في تفكيره وحركاته، واعتبره أكثر المثقفين فظاظة الذين رآهم في حياته، خرج ابن نبي من هذا اللقاء بانطباعٍ بأنه لن يرى «مستقبلاً سعيدًا للجزائر».
تسارعت الأحداث في الجزائر عام 1936م، وشهدت انعقاد المؤتمر الإسلامي (التنظيم السياسي الأبرز في الجزائر)، وهو الحديث الذي ترقبه ابن نبي، لكنه خيّب آماله بعد ما لم يتبنَ خطة صريحة لمواجهة الاستعمار، وهو ما تجسّد في مقولة ابن جلون في حوارٍ لصحيفة «صباح مرسيليا»، قال فيه: «لولا فرنسا، لكنت مجرد سماش (عاطل عن العمل باللهجة المحلية الجزائرية)»، وهو الموقف ذاته الذي دار في فلكه معظم علماء هذه الآونة.
فهم ابن نبي سريعًا، أن الحركة الجزائرية تنتكس، لذا اعتبر أن سنة 1936م شكلت منعطفًا خسرت فيه الجزائر عشرات السنوات من الجهود المضنية لمقاومة الاستعمار.
عندما فرغ من دراسته في فرنسا طمح ابن نبي في السفر إلى السعودية للعمل بها، بسبب ميوله الفكرية الوهابية في ذلك الحين، لكنه مُنع من دخول مصر لأسباب بيروقراطية قحة، وعبثًا حاول إقناع ممثلي الملك فاروق بالسماح له بدخول مصر ومنها إلى السعودية فرفضا واضطر للعودة بزوجته مُجددًا إلى فرنسا.
وخلال هذه الفترة كانت ضغوطات الحياة لا تتوقف على ظهر ابن نبي، ومُنع من نيل أي وظيفة تناسب شهادة الهندسة التي نالها في فرنسا، كما بدأ يتعرض لضغوطٍ أمنية من المخابرات الفرنسية هو وكافة أفراد عائلته، بعد ما حُرم والده من عمله رغم الوساطات الكثيرة التي بذلها في هذا الشأن.
توصَّل ابن نبي لقناعة بأن النظام الفرنسي بأسره لن يسمح لأحدٍ من سُكان المستعمرات باكتساب معرفة تقنية كاملة من خلال التعليم والتوظيف، لذا فإنه لن يسمح لهم بالعمل المنتظم أبدًا في مهنة معرفية تمنحه علومًا من الخطر نقلها إلى بني وطنه ذات يوم.
حاول العودة عام 1937 إلى الجزائر للعمل في مهنة «وكيل قضائي»، فرُفض طلبه أيضًا! لكنه في النهاية نجح في العودة إليها أواخر يوليو/ تموز من نفس العام، ليجدها تعيش فوضى عارمة؛ فالإصلاح فرَّ هاربًا ومعه بذرة المستقبل التي كان يحملها، يقول ابن نبي: مسكت النخبة الجزائرية المبخرة التي أحرقت فيها الجزائر!
شبّه ابن نبي ما يجري في الجزائر بأن بلاده أصبحت «سوق سلع رخيصة»، يقول: كانوا يحدثونهم عن الحقوق ويكلمونهم عن الانتخابات، وكنت أكلمهم عن العمل، فحتمًا لم يسمعني أحد. لم أقل للناس انتخبوني وناموا في سلام، على العكس، كنت أقول لهم لا تنتخبوا أحدًا، أفيقوا وانهضوا من سباتكم.
كلما كان ابن نبي يُعلن عن معارضته لسياسات ابن جلون، كان العلماء يُخبرونه بأنه لا بديل له، وهو التبرير الذي كان يثير غيظه، يقول: الهوس بـ«الرجل الأوحد»، فكرة مشتركة لدى العلماء الجزائريين، وهو ما يُوحي بأن الدراسة في الأزهر بمصر أو الزيتونة بتونس أصابت عقولهم بعاهة أصيلة، كم ستبتهج الإدارة الاستعمارية بوجود هؤلاء المتحمسين لإقناع الشعب الجزائري بأنه عقيم ولا يمكن أن يلد رجالاً.
لهذا لم يكن غريبًا أن تثور ثائرة علماء الدين على انتقادات ابن نبي، فوصفه الشيخ العربي يومًا بـ«الابن الملعون»، وعندما ترشّح يومًا لانتخابات المجلس العام استُبعد فورًا.
يقول ابن نبي: تبيّنت أنه لم يبقَ شيء صافٍ في الجزائر، لا شيء يُبارك فيه الله تعالى وينميه.
لم يدم هذا الحال السيئ به طويلاً، فقرّر العودة إلى فرنسا مجددًا، وفي 1938م غادر إلى مرسيليا التي تقيم فيها كتلة كبيرة من الجالية المسلمة، ولم يكن حالها يختلف كثيرًا عمّا تُكابده الجزائر، ووصفها ابن نبي في مذكراته بأنها «مستنقعٌ آس من الجهل».
في أحد الأيام، صادَف ابن نبي موقفًا صادمًا لخّص كل «العفن» الذي بات يُطالعه في شتى أنحاء العالم الإسلامي. يحكي أنه ذات يوم التقى شابًا يحمل الحقائب والأمتعة، سأله عن اسمه فأجابه «ابن تاشفين»!
أثار الاسم انتباه ابن نبي بالطبع، ولما سأله إن كان يعرف أي شيء عن دلالة هذا الاسم فأجابه بالنفي، هنا يقول: شعرت بعجلة التاريخ تعود بي عدة قرون إلى الوراء في زمن المرابطين، وبرزت أمامي مأساة الحضارة الإسلامية بلحمها ودمها في جلد حمّال كان جده أحد أكبر قادة الإسلام.
وضعه هذا الموقف على أول طريق اليقين بأن علاج مشاكل أمتنا لن تتمثل في سياسات اقتصادية وإنما في الحضارة، وبدأ بالفعل في تحرير دراسة تحمل اسم «مشكلة الحضارة»، وكانت البداية لطريقه الطويل والثري في دراسات النهضة التي تفرّدت في مجالها ومآلاتها.
أيام أخيرة صعبة
تقول ابنته في حوارٍ صحفي عن والدها، إن والدها أصيب في أواخر حياته باليأس من مدى استيعاب الناس لأطروحاته، حتى أنه كان يقول لزوجته، إن الناس لن يفهموه إلا بعد 30 عامًا، وأنه كان يبكي من فرط الحصار الذي ضُرب حوله. وتضيف أنه عاش أيامه الأخيرة في ضنك حتى أنه لم يعد يملك مالاً يكفي حتى لشراء أوراق الكتابة.
على الرغم من الإسهام النهضوي الكبير الذي قدَّمه مالك بن نبي لأمته فإن علاقته بها لم تنصلح أبدًا حتى مات سنة 1973م، وشُيِّع في جنازة هزيلة، قالت عنها زوجته «لم تحضر لا السلطات ولا ممثلون من وزارة الثقافة».
تعرّض في أيامه الأخيرة لبعض الملاحقات الأمنية جعلته يستعين بتلامذته لحماية داره، وبعد موته مُنعت ابنته رحمة من إقامة مؤسسة تحمل اسمه، وهو التقصير الجزائري الذي اعترفت به وزيرة الثقافة السابقة مليكة بن دودة، والتي صرّحت بأن «مالك بن نبي يستحق منا الاعتراف بالتقصير في حقه».
عندما دشنت جمعية ثقافية مكتبة في الهواء الطلق تحمل اسمه حطّمها مجهولون وخرّبوا محتوياتها، أما منزله الذي تقاعست الحكومة عن تحويله إلى متحف حوّله أشخاص خارجون عن القانون إلى «وكر للدعارة»! ليبدو أن ابن نبي سيظل على خصامٍ وسيبقى بلا كرامة في وطنه لفترة ليست بالقصيرة.