في قطاع غزة أينما وليت وجهك شمالًا في بيت حانون أو جنوبًا في رفح، ثمَّة جرح ينزف، وأنين لا ينضب، بالأمس ذُبحَ الثائرون للحرية والعودة في وضح النهار على إثر خروجهم في مسيرات سلمية منددين بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، ومطالبين بحقهم في العودة إلى أراضيهم المحتلة منذ 70 عامًا.

59 شهيدًا وأكثر قد رحلوا في بضعِ ساعات من النهار، في جريمة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي لم تُحرك دماؤهم ساكنًا لدى أي من الدول العربية أو الأوروبية ممن يدّعون احترام الإنسان وحقوقه في العيش بحرية وكرامة، ولم يتخذ أحد موقفًا جديًّا مناصرًا لقطاع غزة الذي وقف شبابه ونساؤه وأطفاله وحيدين عراة الصدور أمام الترسانة العسكرية الإسرائيلية، ولعلنا تستثني من ذلك بعض التصريحات المنددة واستدعاءات السفراء.

على طول الحدود الشرقية مع الأراضي المحتلة عام 48، كان الرصاص المتفجر وقنابل الغاز السام سبيل الاحتلال ليُنهي تدفق السيول البشرية الآتية من كل المحافظات الجنوبية نحوهم، أولئك لم يُرهبهم الرصاص فتدفق دم الشهداء بلا هوادة.

بينما في القدس المحتلة والضفة الغربية رفع الاحتلال حالة الاستنفار الأمني وقام بعدد من الاعتقالات وفرض الطوق الأمني على المدن والطرق المؤدية إلى القدس؛ وذلك لإحباط أي تحركات مُخطط لها، فلم تُنظم مسيرات العودة لتتزامن مع مسيرات غزة واقتصرت ردود الفعل الغاضبة على محاولة كسر الطوق الأمني، وأعلنت منظمة التحرير الحداد على أرواح الشهداء، بينما وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس السفارة في القدس بأنها «مستوطنة أمريكية».

بقيّ وحده قطاع غزة، المُنهك حصارًا وتطويقًا من الاحتلال والعالم العربي، واجه الإسرائيليين ودافع بدمه الثائر عن حقه وحق كل فلسطيني في الشتات بالعودة وبالقدس عاصمة أبدية لفلسطين.

هناك على مد حدود الالتحام مع الاحتلال تناثرت الدماء ملونة الأرض والسماء بلونها القاني. تلكم الدماء فجّرت في حنايا أرواح ذوي الشهداء حزنًا لا ينضب، وأجرت الدمع سيولًا في مآقي الدم، تكتشف ذلك حين تُحدثهم يُبكونك قسرًا، فترى أن الموت قد أحسن الاختيار، وتُيقن من سيرهم أنهم زرعوا بذور الود في نفوس من عرفوا، فأزهرت في مآتمهم وجع ومرارة فقدهم، فترفض أن يتحدث العالم الظالم عنهم كـ «أرقام»، فهم أصحاب الحق وصناع الكرامة، هم حكايات الوطن السليب ودموع الغضب.


أحدهم «شاهر المدهون»، ابن حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، هو أب انتظر أن يُولد ابنه «عبد الله» تسع سنوات، وحين اختاره القدر للرحيل الأبدي كانت الذكرى الأولى لميلاده، سيكبُر الطفل يتيمًا بلا أب، وستُكمل شريكة روحه حياتها وحيدة مع ألم انتظار لقائه في جنّة الله.

والآخر «موسى أبو حسنين»، النقيب في جهاز الدفاع المدني، ذلك الرجل ورغم إصاباته المتعددة في كل عدوان يشنه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فإنّه لم يمل من تقديم واجبه الوطني والإنساني تجاه المصابين، بالأمس كان في مخيمات العودة شرق غزة، وبينما يقوم بعمله باغتهم الاحتلال بقصف عنيف، الجميع تراجع خطوات، لكنه وحده ومجموعة من فريقه اقتربوا من السلك الزائل بعزم، ليُخرجوا من خلفه من سقطوا مصابين بفعل القصف، يقول شقيقه أبو أسامة:

تلك الجرأة أرهبت الاحتلال، فعاجلهم بقصف مباشر استشهد على إثره موسى.

والثالث «فادي أبو صلاح»، شابٌ يجول الأرض طولًا وعرضًا على كرسيه المتحرك بعد أن بٌترت قدماه جراء إصابته بصاروخ طائرة استطلاع إسرائيلية في حرب 2008، منذ اندلاع مسيرات العودة في نهاية مارس/آذار الماضي لم يعزف يومًا عن المشاركة فيها حتى ارتقى شهيدًا برصاصة مباشرة على رأسه، ترك فادي خلفه خمسة أطفال كبيرهم لم يُجاوز عمره السبعة أعوام.

والرابع «معتصم أبو لولي»، الشهيد المبتسم، هو من رفح جنوب قطاع غزة، ابن العشرين عامًا، الذي اختار أن يُشارك يوميًا في فعاليات مسيرات العودة الكبرى إيمانًا منه بأن العودة حق والقدس حق والشهادة في سبيلهما شرف عظيم، قبل ساعاتٍ من استشهاده كتب مودعًا أصحابه على صفحته الخاصة على موقع الفيسبوك:

إلى اللقاء يا أحباب بنشوفكم في بلادنا إن شاء الله.
ولم يلبث أن احتضن أرضه ورحل.

كانت هذه الإصابة الثانية التي تعرض لها «أبو لولي» أثناء مسيرات العودة، فإصابته الأولى كانت قبل أسبوعين في جمعة عمال فلسطين التي وافقت الرابع من مايو/آيار، كان جسورًا مقدامًا لا يخشى المواجهة مع الاحتلال المُدجج بالسلاح. ترك خلفه أمه وأهله يبكونه بحرقة.

والخامس «إبراهيم الزرقة»، الفتى الخلوق، رغم استعداده الحثيث لخوض امتحانات الثانوية العامة بعد أيام فإنه آثر خوض معركة الحرية والكرامة أولًا، معلنًا أنّه لن يتنازل عن حقه في العودة، خرج بعد أن صلى الظهر مقبلًا إلى الحدود الشرقية لغزة، وما عاد إلا محمولًا على الأكتاف، تفوح منه رائحة مسك تُبشر بمنزلته في جنة السماء – كما تقول شقيقته ريم.

والسادس غير بعيد هو «سعيد أبو الخير»، في سنوات عمره الـ 16 كان بهجة والده لكنه اختار الرحيل فجأة موجعًا قلبه، شهدته وهو يودعه:

ما بدي شهر رمضان يجي من دونك، قوم يابا يا سعيد، قوم يا بني.

لكن سعيد حُمل على أكتاف رفاقه إلى حيث المستقر الأخير، يبدو أنه وجد راحته هناك، ويبدو أيضًا أنه ما ترك سبيلًا إلا وقد سلكه للوصول إلى غايته، فهو لم يغادر مخيمات العودة منذ أن انطلقت إلا لحظة استشهاده.

وسابعهم «أحمد الشوا»، الذي استعجل اللحاق بجده لأمه «أكرم أبو جرادة»، فما إن لحده في مثواه الأخير حتى انطلق مسرعًا لمسيرات العودة شرق مدينة غزة، لم يلتئم جرح أمه بعد ولم يجف دمع مآقيها على والدها، فعالجها الاحتلال بفقد فلذة كبدها شهيدًا قبل أن يحل المساء، لم تحترق دموعها حزنًا بل فخرًا بصنيع نجلها الذي لم يمنعه موت جده من المشاركة في المسيرة، قالت ودمع العين يسبقها:

ابني شهيد القدس والعودة.

تلكم الشهداء وحكاياهم لم تكن وحيًا من خيال أو مشهد درامي في فيلم مُرشح لجائزة عالمية، بل حقيقة واقعة كل يوم في قطاع غزة. حقيقة يغض الطرف عنها العرب والعالم أجمع، لن يدري أولئك المتغافلون حجم وجع أمهات الشهداء وجميع أهلهم، لن يروا وسائدهم المبللة بالدموع عند الصباح ولن يشعروا باختناقات صدورهم حين يجاهدون في حبس دمعة وهم يسألون عبثًا كيف ومتى ولماذا حدث الفقد الموجع وانتهى بلمح البصر؟! لن يعرف أحد قسوة تلك الحرب في النفوس التي لم تهدأ صدمتها، ولن يفقه أبدًا معنى الانتظار مع الوحدة لحين اللقاء الأخير.