التيار الحقوقي في مصر: تاريخ موجز
تتزايد الاتهامات يوميا من قِبل النظام الحاكم وأجهزته الأمنية والإعلامية ضد منظمات المجتمع المدني، وأصبح المنع من السفر والاعتقال ومداهمة مقرات المنظمات والتشويه الإعلامي هو عنوان لاستراتيجية الحكومة في مواجهة تلك التنظيمات. تأتي هذه الاستراتيجية في ظل تصاعد دور تلك المنظمات محليا حتى باتت تسد فراغ غياب أحزاب المعارضة وأصبحت أقرب إلى تيار سياسي ذي توجهات مستقلة متعددة، لا يمكن للنظام السياسي السيطرة عليه. فكيف نشأ هذا التيار؟ وهل يحمل طابعا أيديولوجيا؟ للوقوف على ذلك لابد من المرور على أجيال الحركة الحقوقية.
الجيل الأول: الغرب مرجعًا
الإرهاصات الأولى للحركة الحقوقية في مصر والوطن العربي بدأت مع عودة جيل النهضة العربية من أوروبا على يد رفاعة الطهطاوي ومن تبعه من مفكرين إسلاميين وحداثيين تناولوا تقديم رؤية جديدة للنهضة العربية تأثرت بالتحرر الغربي وحاولت أقلمة أفكارها مع مبادئ التدين الإسلامي، وهو ما أدى أحيانا إلى صدام حضاري وفكري بين تيار العلمانية المستحدث في الوطن العربي والتيار الإسلامي الذي بدأ يتشكل هو الآخر تنظيميا، ردا على صعود الأول. تأثرت أيضا الحركة الحقوقية بقضايا الاستعمار والحركة الوطنية فبدأت تتشكل في بدايات القرن العشرين حركة تطالب بتقرير حق المصير الذي أقرته عصبة الأمم 1918، وعليه فقد ارتبطت الحركة الحقوقية بالحركة التحريرية والتفاوضية للحصول على الاستقلال الوطني، فالحركة النسائية والطلابية اندمجتا بالحركة التحريرية بالرغم من وجود مطالب حقوقية أخرى خاصة بها ونتيجة ضياع حقوقها. المرأة كانت حاضرة منذ البداية في الحركة الحقوقية فكانت الكتابات التحريرية من القيود المجتمعية للمرأة والدعوة إلى تعليمها وإلى حرية عملها أهم الحقوق التي طالب بها منظري النهضة الحديثة أمثال رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وسلامة موسى وغيرهم، وقد لعبت المرأة المصرية دورا بارزا في المطالبة بالتحرير الوطني والاستقلال ودعم القضايا العربية من خلال الاتحاد النسائي أو من خلال الصالونات الثقافية والمؤتمرات الخارجية. بالإضافة إلى التأثر بالغرب والحركة التحريرية – كانت التطورات الخارجية على الصعيد التشريعي – إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 الدور الأكبر في انتشار الحركة الحقوقية، وما أن صدر هذا الإعلان حتى حل الجدل بين الإسلاميين والعلمانيين حوله ومدى أسبقية الإسلام لإقرار هذه الحقوق وعلاقتها بالردة والإلحاد، وبالرغم من تراجع الحركة الحقوقية في مصر في الأربعينيات وبداية الخمسينيات إلا أن ثورة 23 يوليو/تموز مثلت نقطة تحول رسمية في مجال الحقوق والحريات وفي مسار الحركة الحقوقية بشكل كامل. يبقى أن الحركة الحقوقية آنذاك لم تكن في إطار تنظيمي موحد أو إطار قانوني تشريعي حتى كانت البداية الأولى على يد الصحفي محمود عزمي مؤسس أول منظمة لحقوق الإنسان في 1931 تحت مسمى «الشعبة المصرية لحقوق الإنسان» مستفيدا بما جاء في دستور 1923 من سماح بحرية التجمع وتأسيس جمعيات أهلية.
الجيل الثاني: الثورة مناصرة وعدائية
دستور 1956
تظهر ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 في ظاهرها بكونها حركة حقوقية حاولت من خلال مبادئها الستة والتأكيد على احترامها حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وجاء دستور 1956 ليؤكد ضمانه للحريات العامة وهو ما عبرت عنه ديباجته وما عبر عنه من ضمان للحقوق والواجبات في الباب الثالث تحت عنوان «الحقوق والواجبات». نتيجة توجه الدولة الناصرية إلى الاهتمام بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل وتبني مبادئ الاشتراكية كأسس للدولة المصرية، أدى إلى بروز قضايا حقوقية جديدة مثل حقوق العمال والفلاحين وحريات التعددية الحزبية نتيجة سيطرة الحزب الواحد على الحياة السياسية، وبالرغم من مشاركة المرأة في الحياة البرلمانية إبان الحكم الناصري إلا أن قضايا تحرير المرأة وتعليمها وعملها ظلا مقومات الخطاب الحقوقي. ولكن سرعان ما تحول النظام إلى أداة لإغلاق المجال أمام حريات التجمع والتعبير وذلك في أعقاب صدامه مع جماعة الإخوان المسلمين والشيوعيين ومن ثم أصدر قانون رقم 32 لسنة 1964 والذي قيد فيه حرية تكوين وتأسيس جمعيات المجتمع المدني وفرض رقابة على أنشطة تلك الجمعيات وتمويلها، وأعطى للحكومة حق حل تلك التنظيمات وهيئاتها التنفيذية.
الجيل الثالث: اليسار مؤسسا
صراع النظام مع جماعة الإخوان المسلمين أدى إلى تراجع الحريات والحقوق السياسية والقضائية للعديد من الطوائف السياسية مثل الإخوان والشيوعيين، ومن ثم ظهرت دعوات فردية غير منظمة لإقرار الحريات وخاصة حرية التعبير، ولكن كان الشكل التنظيمي للحركة الحقوقية غائبا. في ظل سياسة الانفتاح التي تبناها النظام المصري فى عهد السادات أدت إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وهو ما أدى إلى انتفاضة الخبز في 1976 ، بالإضافة إلى أن توجه النظام الساداتي إلى الانفتاح على الغرب وتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، دفعت هذه العوامل إلى تحفيز اليساريين المتوارثين للقومية ولمبادئ ثورة يوليو/تموز إلى إعادة الحياة مرة أخرى للحركة الحقوقية ولكن هذه المرة تطور الخطاب الحقوقي فشمل الدفاع عن حرية الفكر والعقيدة والدفاع عن المتهمين في قضايا فكرية وسياسية، بالإضافة إلى الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين.
ويشار في تلك الحقبة إلى الدور التاريخي الذي لعبه أحمد نبيل الهلالي قديس اليسار المصري في الدفاع عن الحقوق والحريات فهو وإن كان يختلف مع الإسلاميين فكريا يدافع عنهم في الثمانينات والتسعينات فيما عرف بمرافعة القرن 1993 عندما دافع عن متهمي اغتيال رفعت المحجوب وفيها اتهم الدولة، كما سجل الهلالي تعاطفه مع التيار الإسلامي في كتابه حرية الفكر والعقيدة. أسس الهلالي، وعايدة سيف الدولة، وهاني شكرالله، ومحمد السيد سعيد، وغيرهم، أول منظمة معاصرة لحقوق الإنسان في مصر 1985 وهي «المنظمة المصرية لحقوق الإنسان».
وقد أعقبها فيما بعد تأسيس كلا من اليساريين أحمد سيف الإسلام، وهشام مبارك «مكتب المساعدة القانونية لحقوق الإنسان». وبعد وفاة مبارك، أسس سيف الإسلام مركزا مستقلا هو مركز «هشام مبارك للقانون». كما تزامن مع ذلك تأسيس مركز «النديم لتأهيل ضحايا التعذيب»، تزامنا مع تأسيس «مركز القاهرة لحقوق الإنسان» 1993، ولحقتها «جمعية حقوق الإنسان لمساعدة السجناء» 1998، ومؤسسة المرأة الجديدة، ومركز قضايا المرأة المصرية، ومركز الأرض لحقوق الإنسان والذي تأسس في أعقاب احتجاجات الفلاحين بعد صدور قانون المالك والمستأجر. امتاز الخطاب الحقوقي في هذا التوقيت بالدفاع عن حقوق السجناء والمعتقلين سياسيا والمتظاهرين وتقديم الدعم القانوني والنفسي لضحايا التعذيب والاستغلال الجنسي، والدفاع عن حقوق الفلاحين، كما استخدمت تلك المنظمات بجوار خطابها الحقوقي آليات الدعم والمناصرة القانونية.
ظل قانون 32 لسنة 1964 يحدد شرعية عمل تلك التنظيمات، حتى صدور قانون 153 لسنة 1999 في أعقاب الضغوط الدولية والإقليمية على النظام المصري لفتح المجال أمام المجتمع المدني، ولكن يبدو أن النظام أراد الاحتيال بإعادة إنتاج قانون لا يختلف كثيرا مع قانون 1964 وهو ما دفع بالمحكمة الدستورية إلى الحكم بعدم دستوريته.
الجيل الرابع: تزاوج الخطاب الجديد بالقديم
اتسم خطاب هذا الجيل بالتوسع في المجالات التي تناولها وقد مر وفقا للسياقات الزمنية والسياسية بموجتين مترابطتين هما كالآتي:
الموجة الأولى: الحريات الليبرالية
مع بداية الألفية الجديدة بدأ يتشكل جيل جديد من الحقوقيين والمنظمات الحقوقية بخطاب إصلاحي وحداثي واسع وشامل، فلم تعد هناك حدود للخطاب في ظل العولمة المتصاعدة والاتصال بين الشرق والغرب وتوظيف التكنولوجيا في خدمة القضايا الاقتصادية والاجتماعية. الخطاب الحداثي للحركة الحقوقية اتسع ليشمل الحديث عن الحقوق الشخصية والحريات الجنسية والدينية وحرية الفكر والتعبير وحرية تداول المعلومات وحرية الإنترنت وضمان الحريات الأكاديمية والدفاع عن حقوق المرأة من التعذيب الأسري والجنسي والاستغلال الاقتصادي وتوثيق ورصد انتهاكات الشرطة، فيما تراجعت في الموجة الأولى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال والفلاحين. فقد تأسست في الموجة الأولى عددا من المؤسسات تحت قانون 84 لسنة 2002 منها والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية 2002 والشبكة العربية لحقوق الإنسان 2004، ومؤسسة حرية الرأي والتعبير في 2006، ومركز نظرة للدراسات النسوية.
الموجة الثانية: عودة قيادة اليسار
بدأت الموجة الثانية طور التشكل في 2005 في أعقاب توجه النظام نحو الانفتاح السياسي والتعددية السياسية والدعوة للانتخابات البرلمانية والرئاسية نتيجة الضغوط الدولية التي نادت بتطبيق الديمقراطية في الوطن العربي، كما تزامن مع ذلك صعود نخبة رجال الأعمال للسلطة وتزاوج المال والسلطة وصعود نجم جمال مبارك إعلاميا وسياسيا، الأمر الذي أدى إلى مزيد من حالات إرضاء النخبة الجديدة بسياسات مالية واقتصادية جديدة فتوجهت الدولة نحو الخصخصة. أدت سياسات الخصخصة والاهتمام بالجانب السياسي على تدهور الجانب الاقتصادي إلى مزيد من حالات الاحتقان أدت إلى انتفاضة العمال في أكثر من مناسبة بدءا من 2006 واستمر الوضع حتى تفاقم بانتفاضة المحلة 2008 وهو الأمر الذي أدى إلى تأسيس منظمات جديدة تحمل خطابا مدافعا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال والفلاحين، فظهر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومركز المحروسة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. مثلت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية عاملا رئيسيا في إعادة تدوير دور اليسار المصري الذي بدأ يتفاعل مع تلك القضايا بدعم قانوني أو سياسي من خلال حملات الدعم والمناصرة وشبكات التضامن ومركز الدراسات الاشتراكية.