السيدات والسادة، أنتم الآن مساء يوم الجمعة 3 مارس/آذار من عام 1975، وفي تمام الساعة التاسعة ونصف، حيث تبدأ حلقة جديدة من برنامج «فصلات» الذي يعرض على التلفزيون الفرنسي الرسمي، أشهر البرامج الثقافية الأوروبية، وبعد حلقة مهمة سابقة كان ضيفها السياسي الشهير «فرانسوا ميتران» الذي سيصبح رئيساً لفرنسا لاحقاً، تأتي حلقة الليلة التي سيشاهدها أكثر من 3.5 مليون مشاهد حول العالم.

امتلأت مقاهي وحانات العاصمة الفرنسية لمتابعة موضوع الليلة المثير والشائك والخطير في أوروبا والغرب عموماً، والآن يظهر على الشاشة شابان مصريان يتحدثان الفرنسية بطلاقة والغريب أن لهما اسماً واحداً هو «محمود حسين»، يجلسان في مواجهة مؤرخ «إسرائيلي» عتيد في مبارزة ثقافية هي الأولى من نوعها على شاشات التلفزيون تدور حول قضية فلسطين.

في ذلك الوقت، كانت هناك نظرة شائعة لما يحدث في فلسطين يمكن اختصارها في التالي: «هناك شعب يهودي يتم اضطهاده من قبل العرب الأشرار بقيادة جمال عبد الناصر، بعد نجاتهم من الاضطهاد والمحرقة النازية». ربما كانت تلك النظرة قد تغيرت قليلاً بعد حرب 1967، أو بالأحرى تشوشت، فجاء هذان الشابان ليعمقا نقد تلك النظرة.

تحدث الثنائي حسين بالمنطق الغربي المتمحور حول حقوق الإنسان، «حقوق الشعب الفلسطيني» الذي يتم قتله وطرده من أرضه عبر مذابح على يد الصهاينة بلغة هادئة وحجة علمية وتاريخية ثابتة، في مواجهة ادعاءات الحق التاريخي لليهود في فلسطين التي كانت تتلخص في المقولة الصهيونية المؤسسة: «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب».

خرج الثنائي على العالم بالجذور الحقيقية للصراع، شعب أصيل يعيش على أرضه منذ مئات وربما آلاف السنين، هو الشعب الفلسطيني، يتمسك بحقه في أرضه وفي الحياة والبقاء عليها. في المقابل، احتلال صهيوني هو الأخير من نوعه في العالم، أقيم بدعم ومساعدة احتلال إنجليزي سابق وقوى استعمارية كبرى لاحقاً.

قبل تلك الحلقة، ولسنوات خمس امتدت من 1968 وحتى 1972، نشط هذان الشابان في مناصرة قضية فلسطين، وارتبطا ارتباطاً عضوياً بالثورة الفلسطينية، وبحركة فتح بوجه خاص، وكانا جزءاً أصيلاً من حراك استمر طوال تلك السنوات داخل أوروبا: ندوات، ومظاهرات، ومنشورات، وفاعليات، لدعم الثورة. فأصدرا جريدتين واحدة بالعربية، والأخرى بالفرنسية هما «المسيرة» و«فدائيين» تشرحان ما يحدث من مواقف من وجهة نظر فلسطين.

مصر: مولد اليسار الجديد

لنعد بالزمن إلى الوراء من جديد، تحديداً في عام 1955، عندما التقى بهجت النادي، الشاب الذي لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد، والقادم من محافظة دمياط، بمن سيصبح رفيق عمره، إيدي ليفي، القادم من الإسكندرية ويصغره بعام ونصف تقريباً، وإيدي هو من سيسمي نفسه لاحقاً «عادل رفعت» بعد أن يشهر إسلامه.

قبل حرب أكتوبر 1973، رفضنا مثل هذه الحوارات والمناظرات، لكن بعد الانتصار – رغم كل ما شابه – شعرنا بأن مصر كسرت طوقاً كبيراً، وأن الجندي المصري اكتسب موقعاً مهماً في العالم، وعاد إلينا الإحساس بالكرامة، وشعرنا بأننا أصبحنا أنداداً حقيقيين ونستطيع أخذ زمام المبادرة، بخاصة وأنه كان هناك ما يشبه الرفض الغربي للحديث عن «الشعب الفلسطيني»، وكانت تلك الحلقة مثل مباريات كرة القدم، نظمت المدن الجامعية تجمعات لمشاهدتها، تجمعات عربية وأخرى يهودية، وبعد أن كسبنا الجولة، وخرجنا من الأستوديو وسط توتر شديد بعد أنباء عن تهديدات بالاغتيال فوجئنا بمن يوقفنا ويهنئنا على الأداء المشرف، وظل هذا الموقف يتكرر يومياً لشهور طويلة في كل أرجاء باريس.

انضم الصديقان إلى تنظيم «وحدة الشيوعيين» الذي أسسه إبراهيم فتحي، الملقب بعميد المثقفين الشيوعيين، وسيدخلان بسبب هذا التنظيم المعتقل حيث ستتوطد علاقتهما الشخصية والفكرية ويبدآن كتابة الفصول الأولى لكتابهم الأول والأهم الذي سيصدر في باريس بعد أن وصلاها عام 1966، ويحققان هناك تلك الشهرة الواسعة.

«صراع الطبقات في مصر من 1945 إلى 1968» كان هذا كتابهما الأول الذي سيصبح واحداً من المراجع التاريخية في الاقتصاد السياسي المصري، وهو محاولة شديدة الأهمية لتحليل طبيعة النظام المصري والاقتصاد السياسي الذي ساد خلال تلك الفترة الشائكة، وهو الكتاب الذي تصدر المبيعات في فرنسا وحصد إشادات واسعة وإعجاب أعلام الثقافة والفكر دولياً مثل جان بول سارتر وميشيل فوكو اللذين سيصبحان أصدقاءهما المقربين لاحقاً.

اعتبر ذلك الكتاب الأول في التاريخ الذي يتحدث عن آليات الطبقات والصراع والحياة الاقتصادية في مصر، ويحلل علاقات الإنتاج وطبيعة النظام السائد بعيدًا عن الرواية الناصرية الرسمية، ويطرح مباشرة فكرة أن الشعب المصري هو من يكتب التاريخ وليس عبد الناصر، ويطلقان لأول مرة وصف «رأسمالية الدولة» على النظام عوضاً عن صفة «الاشتراكية» التي وصف بها النظام الناصري نفسه.

أحدث الكتاب وطرحه تحولات كبيرة داخل اليسار حول العالم وبخاصة في العالم العربي بعد إصدار ترجمته العربية التي أحدثت دوياً شديداً على المستوى الفكري، حيث بلور صورة قوية ومتماسكة لما سمي لاحقاً «اليسار الجديد» الذي تخطى مفاهيم اليسار السوفيتية. وعلى المستوى السياسي، مثّل أساساً فكرياً لأحزاب وقوى سياسية جديدة في أنحاء العالم العربي حتى كان الفيلسوف الشهير ميشيل فوكو يضحك معهما حول مبيعات هذا الكتاب التي فاقت مبيعات كثير من كتبه، على الرغم من أنه حمل اسماً مجهولاً ومستعاراً.

اليونيسكو والنضال ضد الإسلاموفوبيا

مرحلتهم التالية كانت داخل أروقة منظمة «اليونسكو» وجاءت بفضل تلك الحلقة التلفزيونية الشهيرة حيث وصل اسمهما إلى مسامع المثقف الشهير أحمد مختار أمبو، أول أفريقي وأول مسلم يتقلد منصب مدير عام منظمة اليونيسكو. من خلال بعض المعارف، وصل أمبو إليهما وطلب أن يكون أحدهما مستشاراً له، إلا أن طلبه قوبل بالرفض لأنهما لا يقبلان أن يعمل أحدهما من دون الآخر.

«رغم الظروف المالية الصعبة، ورغم ذلك العرض المغري الذي كان سيحل أزمتنا المادية بشكل جذري، فإنه عز علينا أن يعمل أحدنا ويبقى الآخر من دون عمل»، هكذا يصفان لي تلك الحادثة بعد خمسة وأربعين عاماً على مرورها.

بعد عام، عاد أمبو إليهما من جديد ليبشرهما بحل المشكلة حيث استطاع بعد جهد كبير أن يوفر وظيفتين لهما ليعملا معاً كمستشارين له لمدة عشر سنوات، ثم يصبحان لاحقاً ولمدة عشر سنوات أخرى رئيسين لتحرير مجلة «رسالة اليونيسكو» التي أعادوا تأسيسها من جديد لتصبح واحدة من أهم المجلات ثقافية وأوسعها انتشاراً، حيث كانت تصدر بثلاثين لغة، وتوزع في 120 دولة حول العالم.

في مارس/آذار عام 2005، سطع من جديد اسم «محمود حسين»، بشكل مختلف تماماً في هذه المرة: ففي خضم حالة الهيستريا المعادية للإسلام والمسلمين حول العالم التي عرفت بـ«الإسلاموفوبيا» عقب أحداث سبتمبر 2001، ظهر كتاب يحمل عنوان «السيرة: نبي الإسلام في رواية أصحابه»، ليتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا وأوروبا لشهور طويلة، ليس لموضوعه فقط وإنما أيضاً لأنه كان فريداً في لغته ومنهجه.

كان كتاب «السيرة» أول مخطوط يعيد كتابة سيرة الرسول بمنهج حديث عصري، ولم يكن يشبه كتب السيرة الصادرة حديثاً التي لا تعدو كونها مختصرات وتأليفات جديدة بين كتب السيرة القديمة، وإنما كان عبارة عن مونتاج وتلخيص وإعادة تنسيق في نص سردي منساب لأهم خمسة كتب مرجعية في السيرة النبوية.

عملنا سنين طويلة على هذا الكتاب. كنا نريد أن نقدم شكلاً جديداً لنصوص التراث الأصيلة، شكلاً مناسباً للعصر ليس مقدماً للعالم فحسب وإنما للمسلمين أيضاً، حيث نادراً ما  تجد من قرأ كل تلك المراجع مثلما قرأناها. ومن خلال البحث والتدقيق، خرجنا بذلك المخطوط الذي تميز بنقطتين مهمتين هما: توضيح أن النبي محمد كان بشراً، إنساناً كأي إنسان، ولكن كانت له صفات عظيمة واستثنائية بكل المقاييس. والجانب الثاني كان البعد والسياق الزماني والمكاني في القرآن، حيث رأينا أن الفهم الصحيح لبعض الآيات والمواقف والأحداث لا يحدث إلا في سياقها الزماني والمكاني، وأخرجنا السيرة كسيناريو تم مونتاجه وفق التسلسل الزمني، ثم قمنا بترجمة ذلك المخطوط إلى الفرنسية وهو ما استغرق ثلاث سنوات كي نخرجه بلغة أدبية مناسبة لزمن النبوة.

لم يتوقعا موافقة أي دار نشر على إصدار ذلك الكتاب، ولكن لم تكد تصل مخطوطته إلى واحدة من أهم دور النشر الفرنسية حتى سرعان ما اتصل مديرها بهما بعد أقل من أسبوع طالباً مقابلتهما، حيث سيظل لمدة ثلاث ساعة يمدح تلك المخطوطة العظيمة.

صدر الكتاب عن دار جراسيه المرموقة التي كانت تنشر للمرة الأولى كتاباً عن الإسلام، ويتصدر الكتاب المبيعات لشهور طويلة ويطبع خمس طبعات بأحجام وأشكال مختلفة، منها كتيبات للجيب وأغلفة مزخرفة وغيرها، بجانب عشرات المحاضرات حول العالم لشرحه والمناقشة حوله.

لم يكن اهتمام محمود حسين بالكتابة في التاريخ الإسلامي وليد تلك اللحظة، ولم يكن هذا الكتاب أول إنجازاتهما في هذا الطريق، ففي تسعينيات القرن الماضي، قاما بإنتاج مسلسل بالفرنسية من 10 حلقات عن «العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية» عرض على القناة الفرنسية الرسمية، كان يتناول إسهامات الفلاسفة والأطباء والعلماء العرب والمسلمين.

ثورة يناير: تغيير أعمق من أن يرى

لم تكن تلك آخر إسهاماتهما، فقد عادا من جديد بكتاب «ثوار النيل» الذي جاء ليتوج فكرتهما الأولى والأصيلة التي برزت من أول إسهام وهي «إن الشعب هو البطل الحقيقي، وهؤلاء المحكومون هم من يكتبون ويسيرون التاريخ وليس الحكام». وعبر تتبع انتفاضات وثورات المصريين تاريخياً حتى الوصول إلى ثورة يناير، يرى محمود حسين أن الثورة رغم هزي فقد غيرت كل شيء في الثقافة السياسية، وصنعت تغييراً جوهرياً في وجدان المحكومين أدى إلى نظرة جديدة للحاكم.

رغم هزيمة عرابي، لكن الشعب المصري خلق وقتها معنى أن تكون مصرياً. ورغم أن ثورة 1919 لم تحرر البلاد، لكنها بلورت الضمير الوطني المصري الديمقراطي. أما ثورة يناير، حتى وإن نسي شبابها وأبطالها أهميتها، فقد خلقت ما نسميه «الضمير المواطني»، وجعلت الناس يدركون حقيقة ما كان يبدو كصفات مقدسة للحاكم. وعندما قرروا أن مبارك يجب أن يرحل، فرحيله بأمرهم هم، ليس بمساومة، ولا اتفاق، بأمر من الميدان، من الناس، من الشعب، ليس بأمر أحد آخر.

عزيزي القارئ، إنني كنت -في الغالب- مثلك، لا أعرف شيئاً عن تلك الأسطورة التي لا تزال بيننا الآن حتى التقيتها بنفسي مؤخراً، الأسطورة المصرية التي لم تأخذ شيئاً من حقها بقدر إسهامها في الثقافة والمعرفة وإسهاماتها السياسية وغيرها، ذلك الكائن الأسطوري المسمى «محمود حسين» الذي تفرد في التاريخ بأن كان اسماً لرجلين قررا أن تصبح صداقتهما أسطورة تاريخية، حتى أنهما حصلا على الدكتوراه في رسالة واحدة ومناقشة واحدة من إحدى أهم جامعات العالم في مشهد ربما لم يتكرر في التاريخ.

تلك الأسطورة كانت محل إعجاب وتقدير كثير من فلاسفة ومثقفي العالم، وقال عنها صديقهما الحميم المفكر الإسلامي خالد محمد خالد، إن «محمود حسين» سيظلان أسطورة تاريخية ليس لأعمالهما فقط، ولكن لصداقتهما الاستثنائية.