محمود المليجي: ومضات من النقاء التمثيلي
شاشة مظلمة، تتردد كلمات محمود المليجي على شريط الصوت «التمثيل كان في دمي». ماذا لو تخيلنا حياة هذا الممثل الاستثنائي كشريط سينمائي؟ ماذا يمكن أن تكون لقطة البداية؟
مشهد (1):
ليل خارجي/ شارع عماد الدين- شارع الفن آنذاك. نرى المليجي صبيًا يتردد على مسارح شارع الفن. يراقب من بعيد دخول الممثلين وخروجهم. كان يراهم آنذاك أقرب لملائكة أو كائنات من جنس آخر.
منذ ذلك الوقت المبكر من عمر المليجي، صار التمثيل همه الوحيد. ترك الدراسة بعد المرحلة الثانوية ليبدأ طريق احتراف التمثيل وهو الطريق الذي يمتد إلى نهاية حياته. كان يحكي أنه يمرض حين يتوقف عن ممارسة التمثيل.
يمكنك أن تعتبر هذا المقال في أغلبه كتعليق صوتي لفيلم متخيل، دع لمخيلتك شريط الصورة حين تصير الشاشة مظلمة.
صدى بعيد لموهبة عظيمة
في تاريخ فن التمثيل، وُجد دائمًا ممثلون أكبر من أدوارهم. براندو مثلاً، ليس بالإمكان أبدًا إنكار موهبته الكبيرة، لكن عدد الأداءات العظيمة التي قدمها لا تتناسب أبدًا مع حجم موهبته ولا امتداد مسيرته. المليجى أيضًا واحد من هؤلاء. عبر مسيرة طويلة تمتد لأكثر من نصف قرن، قليلة هي الأداءات التي يمكننا من خلالها أن نلمس عظمة موهبته، قليلة للدرجة التي تجعل منه مثالًا صارخًا لموهبة عظيمة مهدرة. استهلكته أدوار الشر النمطية التي تفتقد إلى أي عمق أو أصالة ومع ذلك منحها دائمًا شيئًا من ألقه. يحق لنا أن نرى أن كل ما قدمه المليجي ليس سوى ومضات خاطفة وصدى بعيد لموهبة شديدة الاستثنائية. وحده يوسف شاهين، ومن بعده كمال الشيخ بدرجة أقل، من منح المليجي مساحة لإطلاق كوامن طاقته التعبيرية الهائلة خلال أفلامه معهما.
فلسفة التمثيل عند محمود المليجي
هذه الكلمات التي يمنحها المليجي للصحفي والممثل سعيد عبد الغني تنم عن فهم عميق لجوهر فن التمثيل وهو الذي لم يدرس فن التمثيل على الإطلاق، تكاد تكون تعبيرًا موازيًا للمقولة الشهيرة (The less is more).
الحقيقة وبعد تتبع العديد من مقولات المليجي في عدد غير قليل من حواراته يمكننا أن نقول إنه يمتلك فهمًا فطريًا لما يجب أن يكون عليه التمثيل، فهم يتجاوز كثيرًا زمنه ويدرك الفروق الدقيقة بين وسائط التعبير المختلفة التي أخذ يتنقل بينها بسلاسة مدهشة من المسرح إلى الإذاعة ومن السينما إلى التليفزيون.
يؤمن المليجي أن لكل شخصية ثوبها الخاص ورغم ما يوحي به لفظ الثوب من برانية فإنه يقصد روح الشخصية، زيها النفسي المتفرد فيقول: «أتجرد تمامًا من حاجه اسمها محمود المليجي» مثلما يرى أن عليه أن يعطل الحكم الأخلاقي على الشخصية التي يؤديها. فالشر والخير مجرد أقنعة وهو يريد أن ينفذ إلى الإنسان خلفهما ما منحه الدور إلى ذلك سبيلاً.
هناك هذه الحكاية المتداولة والتي تعود إلى وقت صناعة فيلم (غروب وشروق) الذي كتب له السيناريو والحوار رأفت الميهي وأخرجه كمال الشيخ، يقرر الشيخ والميهي حذف مشهد النهاية الذي يودع فيه عزمي باشا/ المليجي ابنته وبيته بعد القبض عليه، وفي عينيه شيء من الانكسار والحزن. خشي الشيخ والميهي أن يواجه فيلمهما عنتًا من الرقابة، إذ قد يرى البعض أن هناك تعاطفًا مع شخصية عزمي باشا وزمنه وهو الذي يؤدي في الفيلم دور رئيس البوليس السياسي زمن الملكية.
في المشهد الذي يسبق المشهد المحذوف، داخل الفيلا حين يحتضن عزمي باشا ابنته مودعًا يتحاشى «الشيخ» تصويره في لقطات قريبة من الأمام ويكتفي بتصويره من الخلف في لقطات بعيدة ومتوسطة وكأنه خائف مما قد تقوله عينا المليجي في هذا المشهد الذي يتحول فيه رجل السلطة إلى مجرد أب.
كان من عادة يوسف شاهين أن يخبر ممثليه أن ينظروا في عينيه ليأخذوا من أدائه لكن المليجي واحد من قلة من الممثلين الذين أفلتوا مما وقع فيه أغلب الممثلين الذين عملوا مع شاهين. ينجح المليجي في فرض بصمته الخاصة مع مخرج مهووس بممثليه ويرغب دائمًا في جعلهم امتدادًا لذاته أو محاكاة لها.
هذه فلسفة المليجي في التمثيل منذ البداية حتى مع أستاذه الأول عزيز عيد، كان عزير أيضًا كمخرج مسرحي يطلب من ممثليه أن يحاكوا طريقته في الأداء إلا أن المليجي كان يرفض ذلك: «سأمنحك نفس العاطفة التي تريدها لكن على طريقتي الخاصة».
عن عيني المليجي مرة ثانية!
حين يتعلق الأمر بالتمثيل، فإن كل شيء يتعلق بحقيقية العواطف وصدق الانفعالات، أن ينسى الجمهور أنك مجرد طيف على شاشة بيضاء وأن يصدق ما يراه وإلا سيتحول الأمر إلى مجرد محاكاة أو تظاهر. في كتابه (التمثيل في الأفلام- Acting in film) يشير مايكل كين أنه في السينما تحديدًا من بين كل الوسائط الأخرى ليس بإمكان الممثل أن يكذب، فأي افتعال ستفضحه الكاميرا من خلال عيني الممثل. إذا كان الممثل يشعر داخليًا بهذه العواطف فإن هذا سيظهر عبر عينيه أما إذا كان ذلك مجرد أداء خارجي فستخونك عيناك.
يمتلك محمود المليجي عينين تشعان بصدق نادر، لا مثيل لهما من حيث قدرتهما على نقل مختلف حالات التعبير والتنقل بينها بسلاسة. لديه قدرة هائلة على تحويل الذهني إلى عاطفة في زمن قياسي لايتجاوز ثواني معدودة، في أحد مشاهد غروب وشروق يكتشف زوج ابنته امرأته في فراش صديقه يجرها بقميص نومها في الشارع إلى بيت والدها ليخبره باكتشافه ويرحل. عبر وجه المليجي نشاهد تحولات التعبير بين الصدمة والفزع من اكتشاف ما حدث وأثره على منصبه ثم التفكير فيما يمكن أن يفعله لينتهي بشبح ابتسامة حين يهديه تفكيره إلى حل لهذا المأزق. هذا الانتقال بين انفعالات مختلفة يأتي بمنتهى السلاسة وفي زمن قياسي.
عن هالة الممثل وحضوره
يحكي المخرج كمال الشيخ في حوار تليفزيوني معه أن كان يفكر قبل الشروع في العمل على فيلمه الأول (المنزل رقم 13) أنه لا يوجد سوى ممثل واحد فقط بإمكانه أن يؤدي شخصية الطبيب النفسي في فيلمه، حيث يسيطر هذا الطبيب تمامًا على ضحاياه عبر التنويم المغناطيسي بواسطة عينيه مجبرًا إياهم على التصرف وفق إرادته. على الرغم من غرابة الفكرة كان الشيخ يرى أن المليجي وحده قادر على إقناع الجمهور بذلك. ما يشير إليه كمال الشيخ هنا هو شيء أبعد من الموهبة، إنه هالة الممثل، ثقل حضوره على الشاشة. إن هالة الممثل هي ثقل الروح التي تحاول الاتصال بالجمهور عبر صيغة جسدية، وعلى المخرج أن يعرف كيف يستطيع الاستفادة من هذه الهالة. كل ممثل لديه ثقل محدد على الشاشة وأمام الجمهور والمليجي كان يمتلك هالة استثنائية قادرة على إقناع الجمهور بأي شيء.
يمتلك المليجى نوعًا من المغناطيسية الجاذبة لعين الكاميرا وعيون المشاهدين، في فيلم شاهين “العصفور” يجسد المليجي شخصية توفيق الشهير بجوني، الأب السكير والحاضر الغائب، وهو نمط متكرر للأبوة في سينما شاهين. نشاهد جوني طيلة الفيلم يتحرك كشبح، حضور خفيف ومرح، إنه في خلفية المشهد غارق في سكره وسباته في خلفية مشهد سياسي ووجودي شديد الاشتعال والاضطراب لكن في اللحظة المناسبة، لحظة الهزيمة وخطاب التنحي يأتي من الخلف ليسرق المشهد دون أية مبالغة ليصير التماع الدموع في عينية ونظرة الحزن على وجهه هما أقسى تعبير عن صدمة الهزيمة، الهزيمة التي أيقظت السكران.
ومضات النقاء التمثيلي في فيلم (الأرض)
لدى كل ممثل بعض الإيماءات، الحركات والوضعيات التي تخصه كإنسان يصعب عليه التخلص منها خلال الشخصيات التي يجسدها وأحيانًا يستثمر الممثل بعض السمات الجسدية والنفسية في أغلب أداءاته لأنها صارت جزءًا من البرسونا (تعني في هذا السياق صورته المعتادة على الشاشة) الخاصة بها كنجم. تجد ذلك لدى نجوم كبار مثل همفري بوجارت، جون واين وعادل إمام، إنهم نجوم يمتلكون شخصية طاغية على الشاشة.
المليجي أيضًا يمتلك بلا شك هذه الشخصية الطاغية التي يستثمرها طول الوقت خاصة مع الشخصيات النمطية الغالبة على مسيرته، لكن مع الشخصيات الأصيلة التي تمتلك عمقًا وملامح واضحة فإن المليجي ينجح في التخلص من البرسونا الخاصة به إلى حد بعيد وهو ما يبلغ ذروته في فيلم الأرض مع شاهين. إنه درسه البليغ فيما يمكن تسميته نقاء الأداء التمثيلي.
الطريقة التي يتحدث بها، يضحك بها ويبكي بها متجردة تمامًا من برسونا المليجي/ صورته على الشاشة ولدى جماهيره. عادة ما يتم الإشارة إلى ذلك المشهد الخطابي الذي يردد فيه المليجي أبو سويلم: عشان كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة على أنه قمة الأداء التمثيلي في الفيلم بينما يأتي أبدع ما قدمه المليجي ممثلاً في تلك البورتريهات الصامتة التي تعكس في بلاغة تعبيرية مدهشة انكسار روحه القوية تحت وطأة السلطة الغاشمة. مشهد السجن بعد حلاقة شاربه، مشهد عودته للبلد بعد ذلك أو تعبيراته في تتابع النهاية حين أيقن أن هزيمته نهائية.
أحيانًا تصنع الحياة مجازات داخل حكاياتنا يصعب تجاهلها ومشهد النهاية في فيلم المليجي يخلق مجاز حكايته الخاصة، مات الرجل داخل أحد مواقع تصوير فيلمه أيوب وهو يمثل. يشرب قهوته مع عمر الشريف والمخرج هاني لاشين والمنتج ممدوح الليثي بينما يخبرهم:
مشهد أخير
ليل خارجي- شارع عماد الدين. يقف الصبي محمود المليجي أمام مخرج أحد المسارح وعيناه معلقتان بباب الخروج. يخرج المليجي عجوزًا. يلتقي العجوز والصبي في نظرة طويلة. يخرج العجوز علبة سجائره، يضع سيجارة في فمه. يبحث عن ولاعة في جيبة فلا يجد. ينظر للصبي فيرتبك قليلًا قبل أن يناوله ولاعته الخاصة. يسحب نفسًا عميقًا من سيجارته. يلتقيان مجددًا في نظرة طويلة قبل أن يمضيا معًا في ليل الشارع الطويل. ظلام.