محمود درويش: محاولة اكتشاف الذات عبر الشعر
في هذا العالم السريع الذي لا يتوقف، حيث يتحول كل شيء إلى رقم في العداد الاستهلاكي، وحيث يمتلئ الهواء بالمشاعر المتأججة المضطربة التي تنطلق كشرارة بسهولة وتندثر بنفس السهولة، تغيب المعاني، ويشعر المرء بالاغتراب عن نفسه وعن عالمه، وبالعجز عن الفعل. في ظل كل هذا، لمست قول محمود درويش: «حاصِر حصارك لا مفر» لأول مرة. لم أره في الحقيقة يتحدث عن الحصار العسكري والسياسيّ فحسب، حصار العدو البارز الذي تراه رأي العين، بل رأيته الحصار الذي يحيط بك في كل مكان حتى وإن لم تكن تراه. وعليك حياله أن «تكون أو لا تكون» كما قال درويش.
في أحد لقاءاته بعد نشر ديوانه «لا تعتذر عما فعلت» (2003)، قال درويش إنه كانت ترافقه منذ الطفولة فكرة حالمة:
يمكنك أن تجد ذلك في شعر محمود درويش؛ ذلك العطاء الشعريّ الممتد من التعبير عن الحق في الأرض والاستماتة في سبيلها، إلى الدفاع عن الإنسان وحقه في العيش الحر الكريم.
لكن لقائي الحقيقي مع محمود درويش بدأ بديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» (2005)، وقد كان لقاء تمخّض عن طرح سؤال الأنا، ذلك السؤال الوجودي الذي يبحث فيه الإنسان عن ذاته ويحاول اكتشاف حقيقتها. يقسم درويش الديوان إلى أربعة عناوين رئيسية: أنت، هو، أنا، هي؛ ثم المنفى.
تحت عنوان «أنت»، نجد قصيدة «الآن في المنفى» التي يُنهيها درويش قائلًا:
في هذه القصيدة، يُخاطب محمود درويش أناه كأنها آخر. وحين قرأتُ القصيدة للمرّة الأولى، شعرتُ أنا الأخرى أنني أقف على حافتي، فعبر ذلك الخروج من الذات والتعامل معها كآخر، يمكن للإنسان أن يكتشف نفسه.
لم تكن تلك المرّة الوحيدة التي خاطب فيها درويش أناه كآخر، بل نجد ذلك، وعلى نحو أوضح، في قصيدته «شخص يطارد نفسه» من ديوان «أثر الفراشة» (2008) التي يقول فيها:
أما تحت عنوان «هو»، فنجد قصيدته «لم ينتظر أحدًا»:
تدفع تلك القصيدة إلى التساؤل عن ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بيننا كبشر، والتشابه بين تواريخنا وتجاربنا على اختلافها. وإن أحد أهم أدوار الشعر هو التعبير الموضوعي عن حالة مررنا أو نمر أو سنمرُّ بها، وأن تُمنح تلك الحالة أبعادًا أخرى في محاولةٍ لتوسيع الواقع، لرؤيته بوضوح أكثر.
فما أشبه ذلك الـ«هُوَ» في تلك القصيدة بذلك الـ«أنت»، وهو التوحد الذي نجده في قصيدة «ما أنا إلا هو» من ديوان «أثر الفراشة» التي ينهيها قائلاً:
أما في مجموعة الـ«أنا»، فواتتني قصيدة «لوصف زهر اللوز»:
هنا، يصل درويش أخيرًا إلى سؤال الهوية عبر ما يمثله زهر اللوز في الهويّة الفلسطينية، فدرويش هو ذلك الصدى للصوت الفلسطيني الحر الذي تُشّع الهوية في كلماته، فقد بدأت مسيرته في الأساس للدفاع عنها، وهي أهم دوافعه الشعرّية.
يقول درويش واصفًا عودته إلى فلسطين بعد التهجير:
فكيف يمكن تحرير تلك الهويّة الحاضرة الغائبة؟ كيف يمكن أن تتجلّى بالشعر كتجلّي زهر اللوز في قصيدة درويش تلك؟
أما في مجموعة الـ«هي»، فواتتني قصيدة «وأنتِ معي»:
على الرغم من أن حبيبةُ درويش الغائبة التي لا تأتي في أغلب قصائده، كما في قصيدة «لم تأتِ»، والتي ينتظرها في قصائد أخرى كـ«درس من كاما سوطرا»، يحاول درويش منح معنًى آخر للحُب من خلال وجودهما معًا في تلك القصيدة. فالحُب لدى درويش هو تحررٌ من ضيق المكان والزمان إلى حُرية الأبدية، فكما يقول درويش في نفس القصيدة: «ولا حُبَّ في الحُبِّ، ولكنه شبق الروح للطيران».
«أثر الفراشة»: اكتشاف الذات في الحياة اليومية
يدعو عنوان «أثر الفراشة»، وهو آخر ديوان نشره درويش في حياته، للتساؤل عنه، إذ ماذا يعني درويش بأثر الفراشة. جعلني ذلك أتجه إلى القصيدة المُسمى باسمها الديوان، حيث يجيب درويش واصفًا أثر الفراشة بأنه «هو خفّةُ الأبديّ في اليومي».
ففي هذا الديون الذي هو عبارة عن يوميات، لا يستهدف درويش الشاعرية التي تمنحُ اللحظة بُعدًا آخر فحسب، بل يُدوّن يومياته، روتينه الخاص، الذي قد يُمثل روتين آخرين أيضًا. أحداثٌ متتالية ومتابعة يرصُدها درويش قد يكونُ لها «أثر الفراشة» فتصنعَ أثرًا عظيماً.
ولكن كيف يكونُ يوم من يعيشون في الحصار؟ على حافة الدمار، كيف يكون أثر الفراشة هناك؟ حيث في كل لحظةٍ موتٌ جديد. يقول دويش في منثورة «أبعد من التماهي»:
مرّة أخرى، أفكر في الفرق بين الأنا والآخر. فدرويش هنا يتماهى مع هويته، فيعبر عن أناسٍ لا يحملون الاسم نفسه لكنهم يحملون الهويّة نفسها، فيموت ويجمع أشلاءه، ويصبح الموت جُزءًا من روتين تلك الحياة، فإن مات أحدٌ فالهوية لا تموت، فسيأتي آخر يحمل نفس الهوية ليُكمل الطريق.
من خلال شعر محمود درويش، خُضت تجربة ارتباط الذات بالآخر عبر الشعر، فلديه القدرة على أن يضمنا جميعًا كأننا نسيج واحد من الهويّة التي تتخذ عنده بُعدًا حُرًا وحاضرًا، والقدرة على أن يمنح اللحظة اليومية بُعدًا أبديًا بالشعر.
حين تقرأ لمحمود درويش ترتسمُ أمامك دروبٌ شعريّة يُمهدها لك، لتصل معه إلى بعض الإجابات، ولتبقى أسئلةٌ أخرى مفتوحة، ستجدُ إجاباتها في دواوين أخرى، وقصائد أخرى، وأحيانًا لن تجد الإجابة، لكن سيبقى شعر محمود درويش قصيدةً لم يُرد لها أن تنتهي، ولم ولن تنتهي.