كيف تناول محمود درويش مأساة شعبه؟
بعد محاولة لقوات الاحتلال الإسرائيلي اقتحام مخيم جنين، وقبل أن تنقلب الدنيا عقب السابع من أكتوبر وما تلاه، ظهرت الاقتباسات عن محمود درويش مرة أخرى، مما يؤكد حضوره في أذهان المقاومة والمهتمين بالقضية الفلسطينية والأدب الفلسطيني. حملق درويش في مأسآة شعبه وقلّب وجهها؛ فاستطاع بجدارة أن يعبر عنها وأن يقدم حكمته ومواساته بشأن جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الوجود الفلسطيني.
يعبر الكاتب والصحفي غانم زريقات عن مكانة درويش في الأدب الفلسطيني؛ بقوله «محمود أكبر هدية قدمناها للعالم، ومحمود قدم لنا ما لم تقدمه كل الفصائل، رجل وضع قضية شعبه على خريطة العالم»؛ فكيف استطاع درويش الشاعر أن يضع قضية شعبه على طاولة العالم؟ نحاول في هذه المقالة أن نقدم إجابة عن تساؤل كيف تناول محمود درويش المأساة الفلسطينية؟ وعرف العالم بها، وكيف أسهمت رمزية درويش في ذلك؟
بحسب درويش:
سنتناول في هذا المقال الحديث عن ثلاث قصائد لمحمود درويش، ويأتي ترتيبهم من الناحية التاريخية على النحو التالي: «أزهار الدم، أحمد الزعتر، ضباب كثيف على الجسر» ونحاول أن نرى كيف قام درويش بأعباء هذه المهمات الصعبة؟ وذلك من خلال ثلاثة عناصر نرى أنها مهمة لفهم درويش.
العين الأسطورية
لمحمود درويش عينٌ تغرق في تفاصيل الحدث يرى بها الأشياء، عينٌ ترى في الوجود شعراً ومجازاً، لا يعبر درويش عن المعنى المراد بشكل وصفي؛ لكنه يعبر عنه بشكل تأملي، بعد أن يعطي التفاصيل صورة أخرى بعينه الأسطورية التي يرى بها الحدث، كما في قصيدته ضباب كثيف على الجسر التي كتبها تعبيراً عن تجربته لعشرات المرات المرور من خلال جسر أريحا على نهر الأردن للعبور من فلسطين إلى عمان.
حتى ساعات الانتظار داخل المعبر لم يعبر عنها درويش بأنها كانت ساعات ثقيلة أو بطيئة كما قال امرؤ القيس «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي» لكنه يعبر عن المشهد بإعطائه بعداً رمزياً/ سريالياً (أمشي ولا أستطيع الدخول ولا أستطيع الخروج…. أدور كزهرة عباد شمسٍ) أما في قصيدته أحمد العربي التي كتبها على إثر مجزرة تل الزعتر يبدأ القصيدة بمشهد يتأمل فيه درويش المكان والزمان ويعبر عنهما بأسطورية (مضت الغيوم وشردتني) هنا يشير درويش إلى انعدام الاستقرار للاجئ كما الغيم الذي يمضي ولا يستقر (ورمت معاطفها الجبال وخبأتني) ربما يشير إلى جغرافيا جبلية (وكانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد) مرة أخرى جغرافيا المكان ساحلية والبحر برقته منفصلاً عن مدنٍ أحرقتها القذائف وأصبحت من رماد.
المنفى والاغتراب
يقول الشاعر الجاهلي المعروف بالشنفرى:
لكن الشنفرى لم يختبر تجربة اللجوء أو النفي لعله حينها ضيق إطلاقه شيئاً ما كما فعل الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدته «يا نائىَ الدار»:
للمنفى والاغتراب نصيب كبير في شعر درويش الذي هُجّر صغيراً إلى لبنان عام 48 وعاش أغلب حياته في العواصم العربية والأوروبية في منفى عن بلده فلسطين. في قصيدة «ضباب كثيف على الجسر» يصور درويش حياة اللاجئ أو المنفي بالسير على جسرٍ بين مكانين أو بلدين أحدهما الوطن وما يشكله من هوية وبين بلد آخر عاش فيها اللاجئ قرب الحياة على حد وصف شاعرنا.
في القصيدة يدور الحوار بين درويش وذاته كما في قول الشاعر الضليل «قفا نبكِ». لكن كيف تعثر الحواس على موطئ للبديهة؟ في الوطن حيث أنت من «المكان» لا تتفاجأ كثيراً أو بعبارة أخرى تتكرر الأشياء وتعرفها بحيث لا تصبح المفاجأة أمر وارد إلا على خلاف العادة. الوطن أو المكان هو استعمالنا للبديهة حيث المزحة مفهومة ولا تضطر إلى تفسيرها أو إلى شرحها لأولئك الغرباء.
في القصيدة يتأرجح تعبير درويش بين كلمة «الغرباء» وما توحي به من عمومية و«نا الجماعة» وما تعبر عنه من خصوصية للفلسطيني. المنفى كحادثة أثرت على الشعب الفلسطيني يشترك فيها الفلسطيني مع آلاف أو ملايين المنفيين من بلاد أخرى أو بين الملايين من المصابين بالاغتراب داخل مجتمعاتهم:
ينتقل درويش إلى سؤال الهوية الذي يربك ذواتنا ونحن هنا لسنا أمام هويتين أحدهما مؤكدة والأخرى ملغاة لكننا أمام انفصام للهوية، كلتا الهويتين اللتين يتأرجح بينهما المنفي ثابتة والشعور نحوهما قوي «أيّ الشَّتِيتَيْنِ منا أَنا؟».
هذا الانفصام تعرض له سميح القاسم -وهو أحد الثلاثة الكبار في الشعر الفلسطيني بجانب درويش وتوفيق زياد:
تناول دوريش يجعل من الذات شيء يتشظى، فهو يشير إلى انفصام الهوية كحادثة ذاتية يقف أمامها اللاجئ أو المنفي مشتتاً أو «واحداً يتشظى إلى اثنين» أو بتعبير آخر ليست المشكلة خارجية كما هو الحال عند سميح القاسم-يفرقنا، يجمعنا- بقدر ما هي مشكلة ذاتية أو داخل المنفي ذاته.
كذلك الحال في أحمد العربي «عشرين عاماً كان يسأل عشرين عاماً كان يرحل» عشرون عاماً أو عمرنا كله نحن كأحمد نسأل ونرحل ولم نكتف بالولادة ومكانها هويةً لنا «لم تلده أمه إلا دقائق في إناء الموز وانسحبت» «أنا أحمد العربي قال» يتغير المتحدث هنا ويصبح المتكلم أحمد نفسه ليعبر عن عروبته، العروبة التي «تركت شوارعها» و«أتت إليه لتقتله». اغتراب أحمد الزعتر ابتدأ مع رحلته في «القطارات التي تمضي» الرحلة من الوطن إلى المخيم وهى رحلة تشبه سعينا الحثيث نحو بلوغ المكانة أو السعادة وما تحويه هذه الرحلة من لحظات انكسارٍ وسؤالٍ عن الجدوى أو محاولة اكتشاف الذات.
أبطال لا ضحايا
أحمد الزعتر كما الحال بالنسبة لشهداء المقاومة كلهم الذين خلد ذكراهم درويش لم يُرسموا في لوحات درويش على أنهم ضحايا أو قتلى بالتالي يعلو النحيب والعويل على موتهم بل هم أبطال يعيد درويش نسج بطولاتهم بعينه التي تؤكد أنه «لم تأت أغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق… هو أحمد الكوني في هذا الصفيح الضيق المتمزق الحالم».
أحمد الزعتر هو الأسطوري والعادي في فلسطين هو البطل الفاعل وليس مفعولاً به محروقاً وننثر عليه الأزرق كي نواسي أنفسنا في مصابنا بل هو الكوني؛ لكن ما الكوني في أحمد؟ نرجع هنا لبدايات القصيدة «كان اكتشاف الذات في العربات» الكوني أو العالمي في قصائد درويش وفي شخصياته هو المأساة وهي ما يشترك فيه الفلسطينيون وكثير ممن يقرؤون درويش حتى من غير العرب.
كما يتساءل الكاتب محمود هدهود:
على الرغم من ذلك يرفض درويش ترميز شخصياته ترميزاً دولتياً وأن يصبح البطل غير «عادي» لاحظ هنا أن أحمد الكوني هو هو أحمد العادي في النهاية؛ وهو ما يساعد في إعطاء قصائد درويش الكونية أو العالمية إضافة إلى ذلك فإن شخصيات درويش تقدم السلام والتعايش دائماً خياراً بديلاً عن محو الآخر نجد ذلك في مفارقة البنفسج والقذيفة «لا ترسموا دمه وسام فهو البنفسج في قذيفة».
أما في «أزهار الدم» التي كتبت عن مذبحة كفر قاسم فالضحية لا تموت ومن مات هو القاتل!
ثم يخاطب درويش في آخر قصيدته الوجود الفلسطيني في مقطع يتضح فيه الفرق والتطور الكبير الذي لحق بكتابة درويش فالمقطع الآتي من قصيدة «أزهار الدم» كُتب في خمسينيات القرن الماضي وقد تطورت كتابة محمود درويش في تناولها لمأساة الشعب الفلسطيني من ضيق المباشَرة إلى سعة الرمز.
يقترب هذا المقطع من شعر فاروق زياد الذي اتسم بالمباشرة ويستهدف في أغلب أحواله التعبئة الجماهيرية ففي قصيدة «هل أتاك حديث الملاحم» التي كتبها على إثر مذبحة كفر قاسم أيضاً جاءت القصيدة مباشرة خالية من أي صورة رمزية بعيدة عن تناول الجمهور.
أغرق محمود درويش شعره بالرمزية التي جعلته يتعالى عن التناول الحسي لقضيته، إذ حملق درويش في مأساة شعبه حتى تعالى عنها، وجعل من القضية الفلسطينية أمر ترنسندالي -على حد وصف كانط- متعالي عن المظاهر الخارجية الحسية.
درويش المسكون بالقضية الفلسطينية في كل ألوان قصيدته جعل من القضية الفلسطينية أمر ذهني يتناولها في أبسط الأشياء وفي أبعدها، حتى وإن كنت وحدك «مع الجريدة جالسٌ… لا، لَسْتَ وحدَك. نِصْفُ كأسك فارغٌ… والشمسُ تملأ نصفها الثاني».