سينما ماهر عواد: الضحك في زمن البكاء
عادة ما توصف السينما بأنها مملكة المخرج، مثلما يوصف التليفزيون بأنه مملكة الكاتب. في السينما يسرق المخرج بريق كل شيء، كونه من يصنع التأثير الكلي للفيلم، ومن يمنح الفيلم شكله النهائي. قليل هم الكتاب الذين يلمعون في عالم السينما، بحيث تظل بصمتهم مميزة وصوتهم واضحًا.
ماهر عواد واحد من هؤلاء الكتاب الاستثنائيين الذين نجحوا في فرض وجودهم الخاص وترك بصمة لا تمحى في عالم السينما رغم عدم اكتمال تجربته الإبداعية، فالكلمات التي صدرنا بها هذا المقال والتي تفتتح وتختتم فيلم عواد الخامس «حب في الثلاجة»، تصلح كنبوءة حزينة لما ستؤول إليه مسيرته الإبداعية.
نجح عواد، والذي تخرج من معهد السينما عام 1983، أن يصنع مع المخرج شريف عرفة نوعًا من التوأمة الفنية. تبدو مخيلتا عواد وعرفة مضبوطتين على نفس الموجة الإبداعية كأنهما كائن واحد له رأسان. 4 أفلام هي محصلة هذا القران الإبداعي، يمكن اعتبارها حلقة مكتملة في مسيرة كل منهما، تبدأ بفيلم «الأقزام قادمون» عام 1986، وتنتهي بـ«يا مهلبية يا» عام 1991، مرورًا بفيلمي «الدرجة الثالثة»، و«سمع هووس»
بعد انفصاله عن عرفة، يحاول عواد أن يعيد الكرة ثانية مع سعيد حامد الذي كان مخرجًا مساعدًا لشريف عرفة في أفلامه السابقة، ليصنعًا معا ما يمكن أن نصفه بأنه آخر نصوص عواد الهامة «الحب في الثلاجة» عام 1992. يختفي بعدها عواد لمدة 8 سنوات ليعود مطلع الألفية الجديدة بفيلمي «رشة جريئة»، و«صاحب صاحبه» من إخراج سعيد حامد أيضًا. بدا حضور عواد خلال الفيلمين باهتًا، وكأن سنوات الغياب قد أفقدته بصمته المميزة التي طبعت أفلامه الأولى. بدت فكاهته الساخرة خارج الزمن، وبدا صوته مترددًا وواهنًا كصدى بعيد لعالم يتوارى خلف الظلال.
ملامح العالم السينمائي لماهر عواد
ما يمنح عالم عواد السينمائي بريقه الخاص هي تلك البراعة في المزج بين ما هو واقعي وما هو فانتازي. فنتازيا عواد ليست مغرقة في الغرابة، بل مجرد غلالة شفافة تبعدنا قليلاً عن الصورة، لا تغربنا عن الواقع المعاش بقدر ما تمنحنا إطارًا جديدًا لرؤية الواقع بصورة أوضح.
لذلك نجد الناقد الكبير سمير فريد في مقالته عن فيلم «الدرجة الثالثة» يعد تجربة عواد/عرفة -والتي كانت لا تزال في بدايتها- ضمن ما أسماه «موجة الواقعية الجديدة» في السينما المصرية، رغم إطارها الفانتازي مستعيرًا عنوان كتاب روجيه جارودي: «واقعية بلا ضفاف» والذي يتناول خلاله العوالم الغريبة لمبدعين مثل كافكا، وبيكاسو.
نصوص عواد هي نصوص ثورية وتحريضية إلى أبعد حد، مدارها الوحيد العلاقة بين السلطة وضحاياها، والصراع الحتمي بينهما. وينتصر الخير غالبًا على الشر في سينما عواد.
يقول كاتب السينما في فيلم «يا مهلبية» (والذي يمثل شخصية عواد) لرجل الأعمال الفاسد الذي يستنكر انتصار الخير على الشر في أعماله:
ينتمي أبطال عواد دائمًا إلى عالم البسطاء والمقهورين. بسطاء ومخدوعون في عالم زائف وفاسد ثم يمنحهم عواد لحظة وعي تمكنهم من رؤية الحقيقة. في أفلامه الأولى (الأقزام قادمون، الدرجة الثالثة) هناك نوع من التضامن بين ضحايا السلطة، وهناك نوع من التحرك الجماعي للمهمشين والمقهورين ضد السلطة. بينما في أفلامه التالية (حمص وحلاوة – سمع هس – حب في الثلاجة) نرى أبطاله أكثر وحدة واغترابًا حتى داخل هامش الضحايا الذي ينتمون إليه، الهامش الذي ازداد اتساعًا حتى صار متنًا.
الأقزام قادمون – 1986
يؤسس عواد عبر هذا الفيلم لعالمه الحكائي. لحظة وعي مبكرة تمنح للبطل، شهاب مخرج الإعلانات الشهير، حين يحترق ديسكو قام هو بإدارة حملته الدعائية، فيكتشف زيف العالم الذي يعيشه والبشر الذين يعيش بينهم. ويكتشف أيضًا كيف صار مزيفًا هو الآخر، كيف تغرب عن ذاته وأحلامه البسيطة.
تكتسب رحلة شهاب في الفيلم معادلاً لاستعادة البراءة الضائعة، للبحث عما هو صادق وحقيقي في عالم زائف. «اقترب، وتذوق، وتأكد» هذه الكلمات والتي كانت جزءًا من دعاية مزيفة لمنتج رديء تصير هي نفسها قانون رحلته للبحث عن النقيض. يقترب شهاب من عالم الأقزام الذي يمثل عالم الهامش وضحايا السلطة. يتذوق صدقهم وبساطتهم مدركًا أن هؤلاء هم من ينبغي أن يعيش بينهم. تصير قضيتهم قضيته، وهنا يستعيد شغفه القديم بأن يكون مخرجًا سينمائيًا.
يحكي شهاب لشيكو، أحد جماعة الأقزام الذين يعيش بينهم الآن، أنه طالما حلم بتقديم فيلم عن هذه الحكاية: «حكاية ولد مستني الفرخة تبيض عشان يبيع البيضة ويجيب دوا لأمه المريضة». على نحو ما هذه هي حكاية كل أفلام ماهر عواد، حكاية صراع البطل من أجل استعادة دجاجته المسروقة سواء كانت هذه الدجاجة قطعة أرض، لحنًا لأغنية مبهجة، أو وطنًا بأكمله.
ينتصر الضحايا/الأقزام هنا في إحدى جولات المعركة التي لا تنتهي بين السلطة وضحاياها في سينما عواد، كما لو كانت رحلة شهاب في هذا الفيلم تعادل بحث عواد عن حكايته الضائعة وعن صوته الخاص.
سمع هس – 1991
الفيلم الثالث في مسيرته، والذي يحقق من خلاله عواد وعرفة حلمهما بتقديم فيلم استعراضي غنائي.
دائمًا ما تأتي افتتاحيات نصوص عواد مبهرة على صعيد تأسيس عالمه الفيلمي وتقديم شخصياته. نحن أمام قزمين يتصارعان حول ملكية جلباب يرتديه أحدهما. سكير يحاول أن يفرض مزاجه الشخصي على حمص وحلاوة، ويمنعهما من أداء أغنيتهما، فتقوم حلاوة بقص شاربه. تفاصيل كهذه تضعنا مباشرة في قلب عالمه الفيلمي.
هذا الفيلم هو نضال حمص وحلاوة (ممدوح عبد العليم وليلى علوي) فناني الهامش/أرض الأحلام المكسورة ضد واقع قاسٍ من أجل أن يصل صوتهما للناس. ثم نضالهما من أجل استعادة الحق في لحنهما المسروق من قبل غندور، المطرب الوطني، بعد أن قام بتركيبه على نشيده الوطني المزيف.
«وطني» هي الشارة التي يمنحها عواد لكل لصوص الأحلام بداية من رضوان ملك الهامبورجر في «الأقزام قادمون»، مرورًا بغندور المطرب الوطني في «سمع هس»، وصولاً إلى جماعات النضال الوطني في «يا مهلبية يا». ينتهي الفيلم بعد أن وصل نضال حمص وحلاوة إلى طريق مسدود، ينتهي بهما على عكس الفيلمين السابقين، مهزومين ووحيدين يكاد صوتهما المغني أن يضيع وسط غناء الجموع المحاصرة. أغنية ضد أغنية، أغنية البساطة والصدق ضد أغنية الزيف والطنطنة الفارغة.
هناك بعد شخصي واضح يقدمه عواد من خلال الثنائي حمص وحلاوة، الذي يمثل معادلاً موضوعيًا للمؤلف والمخرج اللذين يحاولان إيصال تجربتهما المختلفة للناس، لكن الواقع السينمائي والعام يواصل إحباطهما. فيلمهما السابق «الدرجة الثالثة» فشل فشلاً ذريعًا على المستوى النقدي والجماهيري. هذا الفيلم هو تأكيد على إيمانهما بتجربتهما المختلفة رغم الهزيمة، مع أمل حالم بالوصول للمكانة المستحقة، وينتهي الفيلم بصرختهما:
يا مهلبية يا – 1991
الفيلم الأخير الذي يجمع عواد برفيقه شريف عرفة، والذي يمكن اعتباره ذروة المنحنى الصاعد لشراكتهما الإبداعية. بناء سردي مركب لفيلم داخل فيلم، يدور أحدهما في تسعينات القرن الماضي والآخر في أربعينات نفس القرن.
يعيد عواد وعرفة تقديم نفسيهما في قلب الحكاية. لم نشاهد أبدًا في السينما شراكة إبداعية بين كاتب ومخرج بهذا القدر من الحميمية والخفة. نضال الكاتب والمخرج من أجل صناعة فيلمهما ضد إرادة رجل أعمال فاسد، تتقاطع مع النضال ضد فساد السلطة الممثلة في الملك فاروق داخل فيلمهما. مثلما يعري عواد فساد السلطة هنا، يعري أيضًا فساد ما يسمى بالنضال الوطني.
تصل تجريبية وثورية عواد هنا إلى ذروتها حين يقوم بتفجير الملك رمز السلطة الفاسدة، وذلك قبل أن يفعلها تارانتينو مع هتلر في فيلمه «أوغاد مجهولون Inglourious Basterds» بما يقارب عقدين من الزمن. ينتصر الحلم في السينما وينكسر في الواقع. فبينما يتم تفجير الملك وقصره داخل الفيلم، يتم القبض على الكاتب والمخرج وطاقم العمل.
حب في الثلاجة – 1992
ثورة الضحايا هنا في تجربة عواد الأولى مع المخرج سعيد حامد، تأخذ طابعًا عدميًا. هنا في مملكة عواد كل شيء فاسد. البطل مهدي وحيد تمامًا، مضطهد ومخذول في زمن الأحلام المؤجلة والوعود الكاذبة. ينسحب إلى الثلاجة إثر أحلامه، لكن الواقع لا يتركه وشأنه. يتم اتهامه بالقتل، ومحاكمته، وأثناء المحاكمه يصير وجوده كله مدانًا. يتم الحكم عليه وإعدامه. هنا تواصل السلطة اضطهاد ضحاياها فيما وراء الموت. هنا تقوم ثورة بين الموتى. ثورة النفس الأخير في المسافة بين ذوبان الثلج الذي يحفظ جثثهم وبين بدء التعفن.
في فيلم للبولندي الكبير رومان بولانسكي بعنوان «المستأجر The Tenant» يحكي عن مجتمع ضاغط يحترف تحويل مواطنيه إلى ضحايا. يزحف البطل/الضحية بجسده المدمى بعد أن ألقى بنفسه من النافذة على الأرضية والسلالم تاركًا دماءه على كل شيء، مخاطبًا جيرانه الذين طالما اضطهدوه: «تريدون موتًا نظيفًا سأمنحكم موتًا قذرًا». هكذا يفعل موتى عواد. يلقون بالقذارة على كل ما هو فاسد ومتسلط كإدانة أخيرة ونهائية.
يقول شارلي شابلن: «الحياة تراجيديا لو نظرنا لها عبر لقطة مقربة، وكوميديا إذا نظرنا لها عبر لقطة بعيدة». سينما ماهر عواد التي تمزج الواقعي بالفانتازي هي سينما اللقطة البعيدة، إذ إن عواد غالبًا ما يفضل الضحك على البكاء حتى إذا كان هذا الضحك مريرًا.