تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «من سنَّ في الإسلامِ سنةً حسنةً، كان له أجرُها، وأجرُ من عَمِل بها من بعده، لا ينقص ذلك من أجورِهِم شيئًا، ومن سنَّ في الإسلامِ سنةً سيِّئة، كان عليهِ وزرُها، ووِزْرُ من عمِلَ بها من بعده، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا» أخرجه مسلم في صحيحه.
«والله ما الخيارُ أردتْم لأمةِ محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقِليّة، كلما مات هِرقْل قام هِرَقْل». عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، معترضًا على كتاب بيعة معاوية لابنه يزيد بالحكم من بعده، لما قرأه عامله على المدينة على المنبر.
مبادئ عامة
لأنها من القضايا الشائكة التي قد تثير المنازعات وسوء الظن، سنتفق أولًا على مُسلَّمات لا أظنها محل خلاف:
1. الحكم النهائي على قيمة الأشخاص عند الله، هو في علم الله، والجدال في هذا الشأن الأخروي هو غالبًا علمٌ لا ينفع، وجهلٌ لا يضُر. وبخصوص الآية الكريمة التي صدَّرنا بها المقال، اختلف العلماء كثيرًا في تعيين حدود هؤلاء الموصوفين بالسابقين الأولين، وكذلك من اتبعوهم بإحسان، وفي كل الأحوال، لا يعني، رضى الله عنهم، عصمتهم من الأخطاء وحصانتهم ضد النقد.
2. لا يُعرَف الحق بالرجال، إنما الواجب معرفة الحق ومنه نعرف الرجال.
3. التعظيم والاحترام وما يتبعهما من اقتداء بجيل الصحابة الكرام، لا تنسحب على كل من عاصر الرسول، عليه الصلاة والسلام، لاسيّما المتأخرون الذين لم يشملهم فضل السبق، وطول الملازمة للنبي، فمن بينِ عشرات الآلاف ممن حضروا معه عليه الصلاة والسلام حجة الوداع، ارتدَّ آلافٌ وحاربوا الإسلام بعدها بأشهر بعد وفاته.
4. قولبة الإنسان، خطأ ساذج. فكلٌّ منا هو مزيجٌ متلاطمٌ ومتناقضٌ من أفكار ومشاعر وأحوال شتى، فلا يوجد إنسانٌ دوافعُهُ من الدين فقط أو الأخلاق فقط، أو المال فقط، أو المنزلة والمكانة وحب التصدر فقط.. إلخ، إذ تستوعب النفس الإنسانية الواحدة مزيجًا من كل هذا، ومقدار كل جانب، وطغيان هذا أو ذاك، هو ما يشكل الصورة النهائية لكل إنسان.
5. الحكم على الأشخاص إما بالتقديس والتعظيم، أو في المقابل اللعن والسب والتكفير، يعوزه الكثير من التعقل؛ لأن الندرة النادرة من البشر هم من يستحقون الأحكام البيضاء أو السوداء، فالرمادي بدرجاته هو المعبر الأنسب عن البشر.
لماذا الآن؟
في أيامنا الصعبة الحالية، والتي تنزف فيها الأمة مئات الآلاف من دمائها في طاحونة الطغيان والفساد السياسي، والذي كان أول ما أخلَّ أركانها منذ نهاية جيلها الأول العظيم، تزداد أهمية كل بحث يحاول أن يغوص في أعماق هذه الكارثة، ويحاول اقتلاع جذورها الأولى، لأنه لا خروج لنا من أسفل رحاها المدمر إلا بنقلة فكرية حقيقية، تخلصنا من الحلقات المفرغة من التبرير، وإعادة تدوير الظلم والفساد.
ولأن الإنسان مفطور على الهروب إلى حنين الماضي كلما انسدَّت أبواب الحاضر، فتكون المفارقة الكارثية أن يعود إلى ماضٍ هو أول ما ألقِيَ في طريق مستقبله من أحجار. ولذا فإعادة قراءة التاريخ، والاستفادة من دروسه، لا يقل وجوبًا عن استشراف المستقبل. بل هو مُتَّصَلٌ واحدٌ، لن نصلَ للأخير، إلا إذا عبرنا الأول. فذاكرة الماضي تشغل جانبًا رئيسًا من وعي الحاضر. والخوف من الخوض في بعض القضايا باسم الخوف من إثارة الشبهات وفتنة الناس في دينهم، هو نفسه عينُ الشبهة ومكمن الفتنة الذي يضعفنا أمام كل خصمٍ ناقدٍ بالحق أو الباطل.
لماذا معاوية؟
معاوية بن أبي سفيان، سليل بيتٍ من قريش اشتهر بالزعامة والصدارة. أسلم بعد فتح مكة. ونظرًا لمواهبه في القيادة، تولى إمارة الشام لعشرين عامًا في حكومة عمر وعثمان، رضي الله عنهما. ثم حملته تقلبات الفتنة الكبرى التي كان من كبار أعمدتها إلى عرش الخلافة عشرين عامًا أخرى (٤١هـ – ٦٠ هـ.)
دائمًا ما كان معاوية – وسيظل – مثارًا للجدل، لدوره المركزي في الفتنة الكبرى التي تمخَّض عنها أكبر الانشقاقات التي حدثت للأمة الإسلامية، وهو الانشقاق السني الشيعي الذي يقتل باسمه العشرات يوميًا حتى لحظة كتابة المقال. كما أنه انتقل بالأمة في حكمه من العصر الراشدي الأقرب للنبوة والمثالية، إلى الملك الجبري أو العضوض – بتعبير الحديث النبوي – الأقرب لشريعة الغاب، حيث السيف أصدقُ أنباءً من الفكر والمبادئ. ولا يمكن لقراءة جديدة فعالة لتاريخنا الإسلامي ألا تبدأ بدراسة الفتنة الكبرى وتداعياتها وشخوصها.
ولأن تغطية الأمر كاملًا تحتاج إلى مجلدات، فلا يسعُنا هنا سوى التركيز على بعض النقاط التي تمس حاضرنا، ومحاولة استخلاص ما يفيدنا في سعينا للخروج من واقعنا المأزوم.
بدع معاوية التي ما تزال تقتلنا إلى اليوم
أدت مبالغات الشيعة في تكفير معاوية وسبه بسبب حربه مع علي، كرم الله وجهه، إلى أن تحول الحديث حول فضائل معاوية، واعتبار انتقاده من شبهات أهل البدع والضلال! إلى ركن ركين في كتب المذهب السني وأفكاره. وهذا ما يعنيني قدحه في هذا المقال. فرد الفعل المبالغ في مدحه لمعاوية، أدى إلى التغافل عن أو التقليل من شأن أمور خطيرة ابتدأها معاوية، ما زلنا عالقين في مستنقعاتها إلى الآن.
مما أسهم بشكل كبير في عجز الفكر الإسلامي السني عن إحداث نقلات فكرية في السياسة وتطبيقاتها تعيد الأمة إلى النهج الراشدي الشوري في اختيار الحكام وإدارتهم للأمة. فاكتفى في أحيانٍ كثر، بإضفاء القدسية والشرعية على الأمر الواقع، فأصبح حكم المتغلِّبين بالسيف والدبابة، والمورثينَ أبناءَهم أعناقَ الأمة ومصائرَها، هو الأساس في الدول السنية ولا يزال!
سأركز على بدعتيْن اثنتيْن فقط، لا يختلف اثنان على حدوثهما، وعلى أنه أول من أدخلهما على المسلمين مما يضعه تحت طائلة الحديث الكريم الذي ذكرته في صدر المقال.
أولاهما: توريث الحكم لابنه يزيد، وأخذ البيعة رغبًا ورهبًا من المسلمين في حياته.
فتخيَّلوا معي شخصًا بعضُ ذنبه نصيبٌ من جريرة كل توريث للحكم يحدث على مدار تاريخ هذه الأمة وفي حاضرها ومستقبلها، وما نشأ وينشأ وسينشأ عنها من سفك للدماء، وإهدار للأموال، وإضعاف للأمة، واستباحةٍ لكرامتها، وإهدار لفرائض الله، كالعدل الذي سمى به نفسه، والشورى التي توسطت الصلاة والزكاة «والذينَ استجابوا لربِّهِم وأقاموا الصلاةَ وأمرُهُمْ شورىَ بينَهُم ومما رزقناهُم يُنفقُون». (الشورى- 38).
ويكفينا كمثال، ما فعله يزيد نفسه الذي قتل جنوده الحسين، رضي الله عنه، حفيد الرسول الذي ثار ضده، ورفض مصادرة رأي الأمة. والواقعة النكراء التي أعقبتها بعامين.. وقعة الحرة 63هـ .. التي استباح فيها جيش يزيد مدينة الرسول بعد خمسين عامًا من وفاته عليه الصلاة والسلام، ونكل بأهلها، وقتل منهم المئات، وفيهم الصحابة وأبناؤهم وأحفادهم، وذلك لثورتهم على يزيد. ثم انتقلوا إلى مكة وحاصروا الصحابي الثائر ابن الزبير رضي الله عنه، وضربوا الحرم بالمجانيق عندما تحصَّن فيه!
الثانية: استباحة دماء المعارضين السياسيين لمجرد إظهار المعارضة للحكم، باسم درأ الفتنة.
دائمًا ما كان درأُ الفتنة وحفظ هيبة الدولة حقٌ لا يريدُ به معظم الحكام إلا الباطل. وأول من شرع القتل الاستباقي باسمه في تاريخنا كان معاوية، عندما قتل مجموعة من معارضي العراق بزعامة حجر بن عدي الكندي وهو صحابي أو تابعي. وكان أشد ما قاموا به على أرض الواقع، أن قاطعوا خطبة عامله على العراق زياد بن أبيه (وكان غشومًا قامعًا لأهل العراق) وقذفوه بالحجارة.
للأسف، حاول الكثير من علماء السنة على مدار التاريخ تبرير هذه الجريمة لمعاوية بشتى الطرق والتأويلات، وألقوا باللائمة على الضحية واتهموه بالخروج ووصموه بالفتنة، ووصل الأمر بالبعض في سياق التبرير لاعتبار أن الأصل في قتل الحاكم لأي أحد أنه حق، ومن يدّعي أنه ظلم فعليه أن يأتيَ بالبيِّنة !. مع أن الأصل الأصيل في الإسلام هو عصمة الدماء ابتداءً. كما حاولوا التهوين من شأن الروايات التي نقلت غضب أم المؤمنين عائشة، ومقاطعتها لمعاوية فترةً لما سمعت بهذه الفاجعة. ولا شك أن عدم تشديد الإنكار، بل الأدهى تبرير هذه الفاجعة، فتح أبوابًا لم ولن تنغلقْ لاستباحة الدماء تبعًا لأهواء الحكام، بل وإضفاء الشرعية على تلك الجريمة.
معاوية الذي أنصفه ولا أحبه
ختامًا، الإنصاف هو الحل، وهو ما يُعظّم فائدة النقد التاريخي، ويجنِّبه الحزازات النفسية والعاطفية. ولا يبرر ارتكاب شخصٍ ما لأعمالٍ منكرة، أن نمر بالممحاة على كل فضيلة له.
رغم أنني لا أحب معاوية لما ذكرت وغيره، ولا أرى أنني ملزم بالتعبد بحب أي بشر سوى الأنبياء، والسابقين الأولين من الصحابة الذين ذكرتهم الآية الكريمة، ولا أراه من المشمولين بها. لكنني لا يمكن إلا أن أنصفه كواحد من أقل الحكام المستبدين سوءًا في التاريخ. فمقارنته مع أكثر من خلفوه، بالأخص حكامنا المعاصرين، ستكون في صفه مطلقًا.
فرضي الصحابة به حاكمًا في عام الجماعة (٤١ هـ)ـ بعد تنازل الحسن له، يدل أنه يمتلك حدًّا أدنى من الكفاية الأخلاقية بجانب السياسية والإدارية طبعًا. كما كانت دولته أقوى دول العالم في زمانها، وأكثرها رخاءً وهيبة. ولو قارناه عدالةً وأخلاقًا، مع زعماء مُعَظَّمين في حضاراتٍ أخرى، وأزمنة وأمكنة مختلفة، كالإسكندر الأكبر، ونبوخذ نصر، وإيفان الرهيب، وبطرس الأكبر، ونابليون بونابرت، وتشرشل.. إلخ، لفاق معظمهم بمراحل.
ربنا اكتب لنا بعد الضلالةِ هدى، وبعد العسر يسرا.