في عام 1930 زار «ألبرت أينشتاين» برفقة زوجته «إلسا» مرصد جبل ويلسون. أثناء جولتهما، حاول الفلكيون بالمرصد التفاخر والتباهي أمام إلسا بتلسكوبهم الضخم الذي كان الأضخم على الكوكب، وعن قدرته على وصف بنية الكون. ردّت إلسا التي لم يبدُ عليها الاندهاش، والمعروفة بحبها الجارف لزوجها- قائلة: «إن زوجي يفعل هذا على ظهر مظروف قديم».

ربما بالغت إلسا قليلًا في ردها، وزرعت بعض الإحباط في قلوب فلكيي المرصد، لكنها أصابت أيضًا بعض الحقيقة في ردها. بالتأكيد لم يكن زوجها أو غيره من المنشغلين باستكشاف الكون من حولنا مشعوذين أو مُنجِّمين. وإنما علماء ملتزمون- وربما مُقيدون- بمنهج ينضوي تحته القدرة على تقديم تنبؤات، قادرة على استكشاف عوالم قد تبعد عنّا ملايين الأميال أو تصغر عنا بشكل تعجز عن إدراكه الحواس.

المنهجية العلمية

تبدأ المنهجية العلمية بتقديم فرضية للإجابة عن سؤال ما أو تفسير سلوك معين تم رصده، ثم تنتقل- وهي السمة المميزة للمنهج العلمي- إلى التجربة والاختبار المستمر للفرضية.

في حالات كثيرة- وهو موضوعنا في هذا المقال- تستطيع النظرية التنبؤ بسلوك ما أو كشف ما، كنتيجة منطقية لافتراض صحة النظرية، وذلك من دون أي تجربة أو دليل مادي مباشر على هذا التنبؤ، ثم يمضي العلماء في محاولة لإثبات أو نفي هذه التنبؤات.

نستعرض عزيزي القارئ في رحلة سريعة ثلاثة أمثلة لتنبؤات علمية أثبتت صحتها وأضافت مزيدًا من الصلابة والثقة للنظرية التي نتجت عنها هذه التنبؤات.

نبتون: أن تكتشف كوكبًا بقلم

أثار اكتشاف كوكب أورانوس الاضطراب في أوساط المجتمع العلمي. فمنذ وقت ليس ببعيد تمكن إسحاق نيوتن وهو واقف على أكتاف العظماء ممن سبقوه- على حد تعبيره- من تقديم نموذج متكامل قادر على تفسير تأثير الجاذبية على مدارات الكواكب.

أطلق نيوتن بنموذجه وبقانون الجذب العام رصاصة الرحمة على الميراث الإغريقي القديم لتفسير الحركة والكون باعتبار الأرض مركزًا له، وأتاح للبشر- وللمرة الأولى- نموذجًا رياضيًا متماسكًا للكون-المنظور وقتها- قادر على التنبؤ بدقة بكتل ومدارات وسرعات الكواكب الخمسة المتعارف عليها آن ذاك حول الشمس. ليأتي اكتشاف كوكب أورانوس مُهددًا هذا النموذج.

فمنذ اللحظة الاولى لاكتشاف الكوكب لوحظت التناقضات بين التنبؤات الحسابية التي يقدمها قانون نيوتن للجذب العام والملاحظات الرصدية. حيت يتخذ أورانوس مدارًا مختلفًا تمامًا عن المدار الذي تتنبأ به الحسابات. باختصار وبتعبير بسيط: الكوكب لم يكن حيث توقَّعت رياضيات نيوتن أن يكون، فهل كان قانون نيوتن للجذب العام خطأ أو على أقل تقدير به أوجه قصور؟

ظهرت الاقتراحات عن كون «جاذبية نيوتن تعمل بشكل مختلف على مسافات بعيدة عن الشمس»، ويرجع إلى ذلك سلوك أورانوس الشاذ. لكن على الجانب الآخر قرر «جون آدامز» أن يثق في الرياضيات -مؤمنًا أن الجاذبية تعمل بنفس الشكل في أي مكان بالفضاء- وأقترح أن سبب الاختلاف هذا راجع إلى تأثر أورانوس بجاذبية كوكب غير مرئي يقع في مدار خلفه.

ذكّرني مجددًا: ما الجاذبية؟

يصف قانون الجذب العام كيف تتجاذب الأجسام ذات الكتلة بعضها إلى بعض عن طريق الجاذبية. هذا القانون قاعدة عامة؛ بمعنى أنه ينطبق على جميع الكتل في الكون. وهو ينص- باختصار – على أن: أي جسمين في الكون توجد بينهما قوة تجاذب تتناسب (طرديًا) مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسيًا مع مربع المسافة بينهما.

أي في حالة وجود جسمين وبافتراض عدم وجود أجسام أخرى في محيطهم: فكلما زادت كتلة الجسمين- أو أحدهما- زادت قوة التجاذب بينهما، وكلما قلت المسافة بينهما -أي اقتربًا من بعضهما- زادت قوة التجاذب أيضًا.

بالتالي، وعودةً إلى موضعنا، إذا ثبت وجود جسم بالقرب من كوكب أورانوس وكان ضخمًا بما فيه الكفاية، فهذا كفيل بالتأثير سلبًا على مسار أورانوس حول الشمس، وإحداث خلل في مداره نتيجة قوة التجاذب بينه وبين هذا الجسم الضخم الغامض.

رحلة البحث عن الكوكب المجهول

أثار هذا الاقتراح حماس العالم الفرنسي «أوربان لوفيريي» لمحاولة إيجاد وتحديد موقع الكوكب الغامض بالتزامن مع محاولة «جون آدامز». وبالفعل تمكن لوفيريي بالحسابات الرياضية وعلى الأوراق من تحديد مدار متوقع للكوكب المنشود.

وفي ليلة 24 سبتمبر/أيلول عام 1846، وفي مرصد برلين، تمكن الفلكي «جوهان غال» مُستندًا إلى حسابات لوفيريي من رصد الكوكب للمرة الأولى بفرق درجة واحدة فقط عن حسابات لوفيريي، و12 درجة عن حسابات آدامز كما توضح الصورة التالية.

مقارنة بين الموقع الذي توقعه «لوفيريي» و«أدمز » لكوكب «نبتون» والموقع الحقيقي له

تمت تسمية الكوكب «نبتون»، وبعد أقل من 20 يومًا على اكتشاف نبتون تم اكتشاف قمره «Triton»، وتوالى اكتشاف أقمار نبتون التي يبلغ عددها اليوم أربعة عشر قمرًا.

ما وراء الحدث

كان نبتون أول كوكب يتم اكتشافه عبر المعادلات والتوقع الرياضي بدلًا من الرصد المنتظم، ما دفع البعض القول بأن: Le Verrier had discovered a planet with the point of his pen. (لوفيريي اكتشف كوكبًا برأس قلمه).

كانت لحظة الاكتشاف نقطة فارقة، ليس فقط في حياة قوانين نيوتن التي كانت بالأمس القريب موضع تهديد جرّاء هذا التحدي الصعب، واليوم بتجاوزه انتزعت ثقة الجميع فيها، بل أيضًا نقطة فارقة في تاريخ الجنس البشري؛ فالإنسان اليوم لديه منهج ذا قدرة كبيرة للغاية، ليس فقط على تفسير العالم الملموس المُدرك بالحواس الخمس، وإنما أيضًا بالتنبؤ بما لا يمكن أن يدركه الإنسان بحواسه. ربما كان ذلك من أهم الفصول في حكاية استعادة امتياز تفسير واستكشاف الكون من قبضة الحدس الإنساني والتفكير السحري الأسطوري.

صورة ملتقطة من قبل المركبة فويجر 2 بتاريخ 20 أغسطس لعام 1989 على بعد 7 مليون كيلومتر

لم يتم زيارة كوكب نبتون سوى مرة واحدة فقط بواسطة السفينة الفضائية «فويجر 2»، والتي وصلت إلى الكوكب عام 1989 والتقطت له هذه الصورة على بعد 7 ملايين كيلومتر، والتي- برأيي- تقدم دعوى للتأمل في كيان بحجم كوكب الأرض مضروبًا في 17، اكتشفه إنسان بسن قلمه- ربما- وهو مستلق على سريره.

«مندليف» والفراغات في جدوله

الجدول الدوري هو عبارة عن جدول يتم من خلاله تنظيم وترتيب جميع العناصر الكيميائية الموجودة بالطبيعة بطريقة منسقة من خلال تقسيمه إلى مجموعات وزمر بناءً عن خصائصهم الكيميائية. قدم «ديميتري مندليف» الكيميائي الروسي النسخة الأولى من الجدول الدوري انطلاقًا من مجموعة من الملاحظات:

  • العناصر المتشابهة في خوصها الكيميائية، لها أوزان ذرية متقاربة.
  • إذا رتبت العناصر اعتمادًا على وزنها الذري فإن خصائصها تتكرر دوريًا.
الجدول الدوري لـ «ديمتري مندليف»

بهذه الملاحظات وضع مندليف جدوله الدوري الذي قام فيه بترتيب العناصر تصاعديًا حسب عددها الذري. أتم مندليف الجدول ولكنه خلّف 3 فراغات بين العناصر. دفعت تلك الفراغات مندليف إلى التنبؤ بأنها ستُملأ بعناصر لم تُكتشف بعد. وانطلق مندليف- ومن خلال موقعها الفارغ في جدوله الدوري- لتحديد خواص عناصر لم تُر من قبل، ودعا العلماء إلى البحث عنها.

أشار مندليف إلى تلك العناصر المفترض وجودها باستخدام سوابق (prefixs) مثل إيكا (Eka) والتي تعني «ما بعد» أو «المجاور لـ». وتمكن مندليف من التنبؤ بوجود العنصر:

  • إيكا سيليكون (eka-silicon): وهو العنصر المفترض وجوده بين السليكون والقصدير.
  • إيكا ألمونيوم/ والذي تنبأ مندليف بكثير من خواصه كالكثافة ودرجة الانصهار.
  • إيكا بورون: والذي خمّن مندليف أن تكون كتلته الذرّية بين 40 و48 وحدة كتل ذرية.

رغم ذلك لم يكن هناك أي دليل تجريبي يؤيد ما اقترحه مندليف- وعارضه وقتها كثير من العلماء- سوى ملاحظاته عن تقارب خواص العناصر بتقارب أعدادها الذرية، والافتراض بأن يستمر هذا النمط المنظم في العمل.

الكشف عن العناصر

خلال خمسة عشر عامًا من توقعات مندليف، تم بالفعل اكتشاف العناصر التي تنبأ بها:

  • تم تسمية الـ «إيكا سيليكون» بالـ «جرمانيوم»، والذي يعد اليوم من أكثر المواد استخدامًا في أشباه الموصلات التي تغذي جميع الإلكترونيات.
  • سُمي الـ «إيكا ألمونيوم» بالـ «غاليوم»، وهو عنصر ينصهر في درجة حرارة الغرفة وتُستخدم درجة انصهاره كدرجة قياسية.
  • أمّا الـ «إيكا بورون» فهو الـ «سكانديوم»، والذي نظرًا لندرته في الطبيعة تعد استخداماته التطبيقية قليلة جدًا.

الجدول الدوري اليوم

طرأت تغيرات كثيرة على شكل الجدول الدوري وعدد عناصره منذ نسخة مندليف حتى اليوم. لكن مهما تغيّر وتوسّع الجدول، ستظل عناصر كالـجرمانيوم موجودة دائمًا في الجدول- وربما في جهازك الإلكتروني الذي تقرأ منه هذا المقال الآن- كشاهد قوي على قدرات العلم والمنهجية العلمية في استكشاف الطبيعة اعتمادًا على ورقة من الملاحظات.

موجات الجاذبية: صوت الكون

أكثر من 100 عام مرّت على نشر «ألبرت أينشتاين» ‏ورقته «النسبية العامة» التي قامت بـ«تنقيح» قانون الجذب العام لنيوتن، بتقديم الجاذبية التي رغم رصد نيوتن لتأثيرها بدقة كبيرة عجز عن تحديد ماهيتها على أنها خاصية هندسية للمكان والزمان أو ما أُطلق عليه لاحقًا «الزمكان».

إن فكرة الجاذبية البسيطة القائمة على مبدأ (كلما زادت كتلة الجسم المتحرك، زادت جاذبيته)، طوّرها أينشتاين لتصبح: «كلما زادت كتلة جسم ما، زادت قدرته على خلق انحناء في نسيج المكان والزمان، الذي يوجد به هذا الجسم»، وذلك كما توضح الصورة.

تصور لكوكب الأرض في نسيج الزمكان والإنحناء الذي تُسبّب به كتلة الأرض

بحسب النظرية تنشأ عن هذه الانحناءات مجموعة من الاهتزازات- على شكل موجات- تمامًا كما يحدث عندما تلقي بحجر في بركة من الماء وتراقب انتقال الاهتزازات على شكل موجات بفعل سقوط الحجر. أطلق أينشتاين على هذا الموجات اسم «موجات الجاذبية» أو الأمواج الثقالية.

تأثير إلقاء حجر في بركة ماء والموجات الناتجة عنه والتي تشبه نظريًا موجات الجاذبية في طريقة انتقالها عبر نسيج الكون

توقّع أينشتاين قبل 100 عامًا بأنه إذا تغيرت شدة الجاذبية في مكان ما من الكون بشكل مفاجئ-نتيجة انفجار نجم على سبيل المثال- سيؤدي ذلك إلى انتشار موجات من الجاذبية في طول الكون وعرضه بسرعة الضوء، وهي تُمدِّد وتُقلِّص نسيج الفضاء أثناء حركتها. هذه الأمواج، حسب النظرية، أمواج ضعيفة جدًا؛ مما يجعل من الصعوبة قياسها.

كُثفت جهود العلماء منذ السبعينيات في محاولة لرصد هذه الموجات مرارًا وتكرارًا، لكنهم لم يفلحوا أبدًا. لقياس هذه الموجات لابد من توفر مجسّات فائقة الحساسية، حيث إن هذه الموجات عند وصولها للأرض، تصبح صغيرة جدًا وأصغر ألف مرة من حجم نواة ذرة.

خُمس ثانية

في 11 فبراير/شباط 2016، أعلن علماء من معهد كاليفورنيا للتقنية، ومعهد ماساتشوستس للتقنية، بالتعاون مع مرصد ليغو (LIGO) عن رصد أمواج جاذبية ناتجة عن تصادم ثقبين أسودين يبعدان 1.3 مليار سنة ضوئية عن الأرض. قُدرت كتلة الواحد منهما بأكبر من الشمس 30 مرة. بحسب الإعلان، تحقق هذا الكشف يوم 14 سبتمبر/أيلول 2015، باستخدام جهازيّ قياس ليزر عملاقين في الولايات المتحدة، موجودين في ولايتيّ لويزيانا وواشنطن.

وفي عام 2017، مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء لـ «راينر فايس» و«كيب ثورن» و«باري باريش»، لدورهم في الكشف عن موجات الجاذبية وإنشاء المركز ليغو.

وعلى الرغم من حقيقة فإن الإشارة التي التقطها جهاز الليغو كانت مدتها قصيرة للغاية ولم تتجاوز خُمس الثانية، يظل هذا الرصد اكتشافًا علميًّا عظيمًا، أثبت بشكل مباشر وجود موجات الجاذبية للمرة الأولى، وعُد بمثابة انتصار جديد للنسبية، كما- وبالطبع- للعلم.

خاتمة

في سبيل الرغبة والسعي للتنبؤ بالمستقبل والمجهول، وضع كثير من البشر على مدار التاريخ البشري كثيراً من الأمل في السحر بلا طائل، لكن العلم وحده بمنهجه وقدرته على التنبؤ والاستنباط استطاع أن يحقق هذه الرغبة بنتائجه، ويُكلِّل هذا السعي بتطبيقاته العملية المحيطة بنا من كل صوب وحدب.

ويحفل تاريخ العلم بكثير من هذه الاكتشافات المثيرة للإعجاب والساحرة للعقول في جميع ومختلف المجالات العلمية. لتعيد للذهن مقولة الكاتب الأمريكي «كورت فونيجت»:

العلم هو سحر، ولكنه سحر يعمل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.