تتخذ كلمة مافيا في المجال السياسي سمة ذات دلالة معينة، فهي عادةً ما ترمز إلى مجموعة من الساسة الفاسدين المنتفعين من مناصبهم، إلا أن المافيا كمصطلح يصف الجريمة المنظمة، له مكان هو الآخر في مجالي التاريخ والسياسة، وإن كان لا تصدره الدول في تاريخها الرسمي حتى لا توصم بعار التعامل مع المنظمات الإجرامية.

تستطيع الجمعيات السرية أن تلعب أدواراً متعددة في التاريخ البشري، فالطالب جافريلو برتنزيب عضو جمعية اليد السوداء الصربية مثلاً استطاع أن يشعل حرباً عالمية بعد أن اغتال الأرشيدوق النمساوي فرانتز فرديناند، وجماعات كجماعة الكو كلاكس كلان في الولايات المتحدة لطالما شكلت قوة مناهضة في وجه تمكين السود وإعطائهم حقوقهم في التاريخ الأمريكي، ولم يقُضَ عليها إلا في عهد قريب في الثمانينيات.

وبين هذه الجمعيات، تقف المافيا نسيجاً مختلفاً وحدها، فهي تتميز عنها في نواحٍ كثيرة؛ إذ هي تضم مجموعة عصابات منظمة تفتقد الإشراف المركزي الدقيق، وتنظمها علاقات رخوة جداً، وتتشابه المافيا مع الجمعيات السرية في شدة معاقبتها للخونة والخارجين عن سلطاتها وجعلهم أمثولة وعبرة كما يبدو في شدة تعلق أفرادها بمؤامرة الصمت التي تسمى في عرف المافيا «أوميرتا».

في إيطاليا والولايات المتحدة وكوبا وروسيا وغيرها من البلاد، كان للمافيا كجماعات إجرامية منظمة، حضور في عوالم السياسة، وعقدوا الكثير من الصفقات مع الحكومات، تفيد الحكومة، وتفيدهم هم، وننتقي من تلك التجارب التاريخية أبرزها وأكثرها تأثيراً لنعرضها في مقالنا.

قبضة موسوليني وغواية تمثال الحرية

كانت صقلية جنوب إيطاليا، هي المكان الذي نشأت فيه المافيا، حيث تشير إحدى النظريات المتعلقة بأصول المافيا إلى أن الأعضاء كانوا في البداية من مستأجري الأراضي الأغنياء الذين استغلوا دورهم الوسيط بين الملاك والفلاحين الفقراء لابتزاز الريوع من الطرفين.

إلا أن دييجو جامبيتا عالم الاجتماع الإيطالي له وجهة نظر اقتصادية مغايرة في منشأ المافيا، حيث يرى أن المافيا ظهرت تحديداً في تلك المناطق من إيطاليا الجنوبية التي شهدت نزاعاً اقتصادياً على الأرض، وثروات منقولة وحجماً كبيراً من الصفقات، وشقاقاً سياسياً فيما يتعلق بالتغييرات التي حدثت في طبيعة الدولة الإيطالية بعد توحيد مملكة في دولة واحدة عام 1860م.

بالنسبة إلى جامبيتا، فالأعضاء هم رجال أعمال مغامرون في القطاع الخاص، تمثلت وظيفتهم في توفير الحماية لحقوق الملكية الفردية في مجتمع تفشل فيه الدولة في توفير هذه الخدمة الأساسية، أي إذا خدع أحد طرفي الصفقة من الآخر، يأخذ في العادة شريكه إلى المحكمة في مجتمع حسن التنظيم وخاضع لحكم القانون، لكن حين تكون الدولة فاسدة وغير موثوقة، أو ربما غائبة أصلاً، يجب اللجوء بدلاً منها إلى موفر خاص للحماية وتوكيله بمهمة التهديد بكسر رجلي الطرف الآخر إذا لم يدفع ما عليه، ووفق هذه النظرية تصبح المافيا مجرد منظمة خاصة توفر خدمة مطلوبة تؤديها الدولة عادة، أي استخدام التهديد بالعنف وأحياناً العنف الفعلي لتنفيذ حقوق الملكية.

في كلا الحالتين، قد نشأت المافيا من أسباب اجتماعية تعبر عن جدلية واشتباكات القضايا السياسية والاقتصادية مع المجتمع، لذلك كان من الطبيعي أن تلتحم مع السياسة، وتصبح فاعلاً تاريخياً، منذ يومها الأول.

توضح مرحلة الفاشية في إيطاليا العلاقة العكسية بين قوة الدولة والجريمة المنظمة، حيث إن الفاشية عموماً شكل من أشكال الحكم الاستبدادي أشد بأساً من الحكومات الاستبدادية التقليدية، حيث يشمل حزباً جماهيرياً يحتكر سيطرة الدولة احتكاراً كاملاً، ذو قائد كاريزماتي يقمع المجتمع المدني، وهذا ما حدث مع صعود الدوتشي بينيتو موسوليني إلى الحكم في إيطاليا، لكنه لم يتمكن من اختراق الجنوب وإعادة تنظيم السياسة على أساس جماهيري عريض، إلا أن الفاشية لم تتحمل وجود منافسين في اللعبة العنيفة، لذلك شرعوا في حملة ناجحة لكبح جماح المافيا، لكن شبكاتها لم تتفكك كلية، واختار عديد من زعمائها الانضمام إلى النظام بدلاً من التعرض للقتل أو السجن، ما جعل المافيا تعود للظهور بعد تأسيس نظام ديمقراطي عام 1946م.

قام موسوليني بوضع سيزار موري حاكماً لبالرمو عاصمة صقلية مخولاً إياها سلطة مطلقة، وارتأى هذا الحاكم من البداية أن يهاجم المافيا في أقوى معاقلها في القرى الجبلية التي كانت تتخذها بيوتاً وحصوناً ومخازن للمسروقات، وأخذ ببيع مسروقاتها للعامة بأبخس الأثمان.

في الولايات المتحدة الأمريكية، كان وجود المافيا منذ العام 1890م في شكل منظمة اليد السوداء La Mano Nera التي ظهرت في مدينة نيو أوليانز بولاية لويزيانا، وكان سبب نشوئها كرد فعل إيطالي ضد الحملة الانتقامية التي لحقت بالرعايا الإيطاليين بسبب مقتل مدير شرطة المدينة الذي اتُهم الرعايا الإيطاليون بقتله، وقد تجاوزت تلك المنظمة أهدافها التي قامت من أجلها كرد فعل احتجاجي، إلى فعل الجريمة، إلا أنه سرعان ما تلاشت هوية هذه المنظمة من حيث اندمج غالبية أفرادها في تنظيمات إجرامية أخرى، أبرزها منظمة الاتحاد الصقلي L’UnioneSicilianaالتي نشأت بالأساس لرعاية شئون المهاجرين الإيطاليين الجدد القادمين من جزيرة صقلية، وقد اتسع عدد أفراد تلك المنظمة حتى بلغ أعضاؤها في مدينة شيكاغو وحدها ما يقرب من 400 ألف، وأتاحت فترة تحريم الخمور في أمريكا لتلك المنظمة أن تتخطى دورها الخيري لتشترك في أعمال القتل والخطف والابتزاز وتنظيم البغاء والمقامرة كتبعات للتجارة في الخمور المهربة.

في الحرب العالمية الثانية، التقت المافيا الإيطالية والأمريكية، وبما أن روافد المافيا الأمريكية كانت قد تغذت أساساً بعد فرار المافيا من حكم الدوتشي في إيطاليا، فكانت الروابط والصلات قائمة، تجلت في عملية «العالم السفلي» فما كانت تلك العملية؟

حلفٌ وُلد في الجحيم

في ظهيرة كان من المفترض أن تكون شتوية لأحد أيام فبراير 1942م، اشتعلت الأجواء من دخان حريق سفينة نورماندي الفرنسية في الساحل الغربي لمانهاتن، وكانت سفينة نورماندي سفينة فاخرة ضخمة تم تحويلها إلى وسيلة نقل جنود أمريكية في الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن الشهود أفادوا أن الحريق كان ذاتياً، فقد خشي الكثيرون من إلقاء اللوم على المخربين النازيين، لا سيما في ضوء اعتقال 33 عميلاً ألمانياً قبل بضعة أشهر.

في أعقاب الحريق، أصبح مكتب المخابرات البحرية الأمريكية قلقاً للغاية بشأن جواسيس العدو الذين يعملون على طول الواجهة البحرية لنيويورك، فلجأ إلى حليف غير محتمل في المجهود الحربي، وكان ذلك الحليف هو المافيا.

في مارس 1942م، تم تجنيد جوزيف سوكس لانزا الكادر الإجرامي في المافيا، وملك سوق فولتون للأسماك، وقدم لانزا بطاقات النقابة للوكلاء الذين يعملون متخفين في السوق وعلى متن أساطيل الصيد الساحلية، حيث كانت السلطات قلقة بشكل خاص من أن المتعاطفين المؤيدين لفاشية موسوليني حليف هتلر قد تبعثروا بين المهاجرين الإيطاليين الذين عملوا عمال شحن وتفريغ في نيويورك.

عرض لانزا على رجال المخابرات البحرية أن بإمكانهم التعاون مع رجل العصابات الأخطر في ذلك الوقت والذي كان مودعاً في السجن، تشارلز لوتشيانو «لاكي» حيث كان لا يزال يتمتع بسلطة مطلقة على الأرصفة في الميناء الساحلي، رغم وجوده ما يربو على ست سنوات وراء القضبان، وقد عمل في تلك الصفقة كبير مساعديه ماير لانسكي كوسيط بينه وبين المخابرات، وكان لاكي هو ذراع سلاح البحرية الأمريكية في تأمين الميناء من الجواسيس النازيين.

لم تتوقف مساعدة لوتشيانو عند هذا الحد، فعند الغزو البرمائي لصقلية عام 1943م وفّر لوتشيانو خرائط لموانئ الجزيرة وصور لساحلها وأسماء جهات اتصال موثوقة داخل المافيا الصقلية، الذين كانوا يرغبون في الإطاحة بموسوليني الذي نكل بهم.

كان على لوتشيانو أن يقضي ما بين عشرين إلى أربعين عاماً من عقوبته داخل السجن، وقد قدم التماساً للحصول على الرأفة التنفيذية في 8 مايو 1945م وهو نفس اليوم الذي وضعت فيه الحرب أوزارها، وكان من المفارقات التاريخية أن الرجل الذي قاضى رجل العصابة قبل عقد من الزمن، حاكم نيويورك توماس إي ديوي، هو الذي أصدر عفواً عن لوتشيانو في يناير 1946م بسبب مساعدته في المجهود الحربي وأمر بترحيله إلى موطنه إيطاليا.

الصراع على السيادة

في إيطاليا، أقحمت المافيا الصقلية في ذلك الوقت سالفاتوري جوليانو كوسيط محلي للسلطة السياسية في التعاون مع الحلفاء، واكتسب جوليانو صفته وشهرته حيث كان أشهر قاطع طرق في صقلية أثناء غزو الحلفاء، وكان يُعامل كروبن هود المدينة لاستطاعته توفير الغذاء لفقراء المدينة من خلال سطوته على مقدرات الأغنياء والشركات.

واستطاعت المافيا من خلاله أن تبلور مطالبها لقوات الحلفاء فيما يتعلق بصقلية، حيث كان لها مشروع سياسي يقضي بالمطالبة بفصل جزيرة صقلية عن باقي أنحاء إيطاليا، ليتسنى بذلك للمافيا أن تبسط سيطرتها عليها، ولكن كان ذلك المشروع صعب التنفيذ، إلا أن صقلية عقب التحرير قد حظيت بتشريع استثنائي ينظم ويحترم واقعها المحلي، وكان ذلك التشريع هو الذي جذر المافيا في ممارسة السياسة في إيطاليا بشكل قوي متماسك، حيث أصبحت إيطاليا دولتين غير رسميتين، دولة في الشمال تحكمها الحكومة، ودولة في الجنوب تحكمها المافيا التي سيطرت على مقاولات إعادة بناء كل ما دمره القصف.

في السبعينيات والثمانينيات، كان نفوذ المافيا منتشراً فيما وراء صقلية وأصابت عدواه البلاد برمتها، بسبب نمو تجارة المخدرات العالمية، اندلع النزاع على السيطرة على ميادين البيع في شكل معارك دموية طاحنة بين العائلات المتنافسة في باليرمو وغيرها من مدن الجنوب، وظهر فصيل عنيف على نحو خاص من بلدة كورليوني، وكان الكثير من الساسة الجنوبيين مرتبطين بأفراد من المافيا، وأصبحت العلاقة أكثر انتظاماً ومنهجية مع انضمام محافظ باليرمو السابق سالفو ليما إلى جناح رئيس الوزراء جوليو أندريوتي من الحزب الديمقراطي المسيحي الذي حكم إيطاليا مدة طويلة، وكان دخول ليما ساحة النفوذ الوزاري جالباً معه جميع ارتباطاته الواسعة مع الجريمة المنظمة.

في ذلك الوقت، كان القضاء الإيطالي متمتعاً بجيل من المحامين المثاليين الذين نشطوا في شبابهم خلال الثورات التي اجتاحت أوروبا عام 1968 حالمة بتغيير جيل الحربين وتحالفاته التقليدية، وتجلت استقلالية هذا الجيل بحلول الثمانينيات، حيث أصبح المحامون المثاليون في الستينيات في مناصب تؤهلهم لاستهداف النخبة السياسية المتخندقة في البلاد، وهو ما استهدف بدوره المافيا.

أدت التحقيقات في الثمانينيات والتسعينيات إلى حرب فعلية بين المافيا والأقسام التي لم ينخرها الفساد في الدولة الإيطالية، واغتالت المافيا عدداً من المحامين وممثلي الادعاء في عمليات استقطبت اهتمام وسائل الإعلام، بلغت ذروتها في اغتيال القاضي فالكوني وزوجته وحراسه الشخصيين عام 1992م، ومقتل قائد الشرطة ألبيرتو تشيزا، والمدعي العام غايتانو كوستا، والقاضي روكو تشينيتشي، ما جعل الرأي العام يحتشد تدريجياً لدعم الجهد المبذول لمكافحة الفساد، وذلك التحالف الشعبي القضائي هو الذي أدى للإطاحة بالحزب الديمقراطي المسيحي ظهير المافيا، ما حجم نفوذ المافيا في الجنوب، وأُعيد مرة أخرى إلى الاختباء في الجبال.

تقودنا تلك التجربة التي شهدت تحالفاً بين الحكومة والمافيا، إلى تجربة أخرى شهيرة حدثت في عهد باتسيتا في كوبا.

جزيرة المافيا

الجزء الثاني من فيلم The Godfather يعطينا فكرة عابرة وسريعة عن الأحوال في جزيرة كوبا، عشية قيام حركة 26 يوليو، في أحد المشاهد ينجح الانقلاب العسكري بقيادة كاسترو، ويفر رجال المافيا المجتمعون في أحد الفنادق للاحتفال بليلة رأس السنة من متمردي الانقلاب وكأنهم هم رؤساء الدولة.

لم يكن ذلك مجرد مشهد درامي تخيله ماريو بوزو، ولكنها كانت أحوال كوبا بالفعل، جزيرة تحكمها تحالفات الحكومة بقيادة باتسيتا مع المافيا بقيادة ماير لانسكي اليهودي الروسي وشريك لوتشيانو السابق، كانوا بالفعل رؤساء للدولة.

بدءًا من عام 1930م ازدادت السياحة في كوبا، خاصة من سياح الولايات المتحدة، بدا وكأن كوبا جنة للخمور في فترة حظر الكحوليات في الولايات المتحدة، بمرور الوقت، وبسبب قرب المكان، أصبحت كوبا فناءً خلفياً لمافيا الولايات المتحدة الأمريكية، التي أنشأت أفرعًا صغيرة لها هناك لتدير تجارتها وتهريبها للخمور، وتجارة القمار والفنادق السياحية، إلا أن تلك الأفرع الصغيرة، كانت كبيرة بما يكفي لتسيطر على اقتصاد دولة صغيرة مثل كوبا.

في العام 1933م، ومع نجاح الانقلاب العسكري في كوبا بقيادة الجنرال فولغينسيو باتيستا حصل الاجتماع الرسمي الأول بين الحكومة ورجال المافيا، وفقًا لجوزيف «دوك» ستاتشر، صديق وشريك لانسكي منذ طفولتهما معًا في الجانب الشرقي السفلي من مانهاتن، كان حاضرًا عندما قدم لانسكي لباتيستا عدة حقائب مليئة بالنقود. في اجتماعات لاحقة، مُنح باتيستا ضمانًا يتراوح بين 3 ملايين دولار و5 ملايين دولار سنويًا، كربح شخصي مقابل احتكار المقامرة في الكازينو من قبل المافيا، إلا أن الاتفاق لم يُكتب له أن يرى النور إلا بعد عقدين من الزمان.

كانت كازينوهات كوبا مشهورة بالنسبة للممثلين والمشاهير وحتى الساسة الأمريكيين الذين كان يحبون لعب القمار بها، إلا أنه في فترة الثلاثينيات كانت قد طالتها سمعة الغش في اللعب وخداع اللاعبين ما أثر على السياحة في الكازينوهات في تلك الفترة، عندها استعان باتسيتا في العام 1939م للمرة الأولى بزعيم مافيا مانهاتن ماير لانسكي لإحياء وتنظيف الكازينوهات من الغش والفساد، ما أعطاه لانسكي صلاحيات واسعة بشدة وكأنه حاكم عام، وسرعان ما كان المقامرون الذين كانوا على دراية بالكفاءة المهنية للانسكي جاهزين للسفر مجدداً للعب في هافانا، حيث يمكن أن يحصلوا على أرباحهم بشكل أنيق وبدون غش في اللعب.

لكن باتسيتا كان جنرالاً عسكرياً يحب أن يحكم من الظل، حتى ترشح إلى الرئاسة عام 1940م في فترة رئاسية حتى العام 1944م، ثم انسحب من الحياة السياسية وفضل أن يتجه للعيش في أمريكا في ميامي، وفي تلك الفترة، فسدت حياة الكازينوهات والمقامرة مرة أخرى في كوبا، وتأثرت سمعتها وسياحتها بالتالي، ولكن عام 1952م وفي عقب انقلاب عسكري ناشد صانعوه باتسيتا بالعودة للبلاد وحكمها مرة أخرى، عاد إلى البلاد تلك المرة، خالي الوفاض من حقائب وزارية، ولكن حقائب مليئة بالنقود والتعاقدات مع رجال المافيا.

كان أول ما فعله باتسيتا بعد العودة، أن اتصل بلانسكي مجدداً، وتلك المرة أعطاه راتباً قدره ربع مليون دولار وكأنه وزير قمار رسمي، وفي عام 1955م، أصدرت حكومة باتسيتا قانوناً يمنح رخصة ألعاب قمار لأي شخص استثمر مليون دولار في فندق أو 200 ألف دولار في ملهى ليلي جديد، وكان هذا تسهيلاً كبيراً عكس الرخص التي كانت تمنح في لاس فيغاس بالولايات المتحدة، وقد أعفى هذا الحكم أصحاب رؤوس الأموال من التحقق في خلفيتهم وذمتهم المالية، فكان استثماراً قانونياً توجهت إليه أموال المافيا، التي نظم عمليتها كلها ماير لانسكي، مع إعفاء ضريبي لمدة 10 سنوات، واستيراد المعدات والمفروشات للكازينو معفاة من الرسوم الجمركية.

رغم أن ستار هذا الاتجاه كان خلق فرص عمل جديدة للكوبيين، إلا أن الشعب الكوبي عانى في نفس الفترة فساداً حكومياً مستشرياً، بينما تفشت الدعارة والفقر في شوارع هافانا، وكان الفلاحون يعانون كذلك في الريف، بينما كان باتسيتا يصب أموال الأمة في العاصمة، حيث أعطى رجال العصابات الملايين من الأموال الحكومية لبناء الفنادق، وملايين أخرى لاستعادة العقارات القيمة المطلة على الواجهة البحرية لهافانا.

في تلك الفترة التي شهدت حلف باتسيتا ولانسكي، قام باتسيتا بتحقيق حلمه ببناء فندق الريفيرا بمبلغ تكلف حوالي 18 مليون دولار أمريكي، بالإضافة إلى عدة فنادق أخرى تكلفت ملايين الدولارات، بينما كان ماير لانسكي يتطور لأن يكون بمثابة شريك تجاري لرئيس دولة، كان يلج قصر الرئاسة من باب خاص صنع خصيصاً له ولرجال المافيا للدخول على الرئيس في أي وقت، أصبح ماير لانسكي وعصبته، رمزاً لكل شيء سعت ثورة كاسترو إلى قلبه.

عندما قام كاسترو بتأميم فنادق الكازينوهات في الجزيرة في أكتوبر 1960م وحظر لعب القمار، خسر لانسكي ما يقدر بنحو 7 ملايين دولار، وعاد ليستقر في ميامي، حيث توفي عام 1983م.

قصة المافيا في كوبا لا تنتهي

ستستمر مشاركة المافيا في السياسة الكوبية بشكل آخر، وتلك المرة كحليف تقليدي لجهاز الاستخبارات الأمريكي، عندما كانت وكالة المخابرات المركزية تبحث عن شركاء في الجهود الرامية إلى عزل أو اغتيال فيدل كاسترو، الذي كان حجر عثرة في الحذاء الأمريكي منذ اليوم الأول، بحلفه مع الاتحاد السوفييتي وتركيبه للأسلحة النووية، وانتصاره في معركة خليج الخنازير.

استأجرت وكالة المخابرات المركزية رؤساء مافيا شيكاغو، سام جيانكانا، وجوني روسيلي وسانتو ترافيكانتي الذي كان أبوه زعيماً لفرع عائلة ترافيكانتي الإجرامي في كوبا الذي قضى عليه كاسترو.

كان هؤلاء موكلين بتسيير مجموعة من رجال العصابات الآخرين ذوي الرتب المنخفضة في أنشطة مناهضة لكاسترو داخل كوبا، أو وسط الجالية الكوبية المناهضة لحكم كاسترو في الولايات المتحدة.

وقد ظل هذا التحالف الفاشل قائماً حتى ظهرت أخباره في أوائل السبعينيات في سجلات الاستخبارات الكوبية، التي فضحته، ووصفته بالفعل الشائن الذي لا يمكن لأي دولة أن ترتكبه، فكيف ترتكبه قوة عظمى مثل الولايات المتحدة؟