ماكرون: «الحصان الأبيض» القادر على هزيمة لوبان
من الواضح أنّ الجنون هو السمة الأبرز لسياسات العالم اليوم، الأمر الذي ظهر جليًا في وصول دونالد ترامب إلى رأس السلطة في دولة «الحلم الأمريكي»، وستكشف لنا الأيام القادمةُ ما إذا كانت حُمى الجنون قد طالت فرنسا أم لا؟! فلا تخفى قوة مارين لوبان، اليمينيّة المُتطرفة، والتي يُمكن أن تُشكل مع ترامب كماشةً على العديد من القضايا التي تمس العرب والمُسلمين، كدولٍ نامية أو كمهاجرين ولاجئين وأقليّات.
إلا أن صوتًا عاقلًا – هكذا يبدو لنا حتى الآن – قادمًا من الخلف قد قلبَ الموازين، وساهم في تغيير خريطة الموقف الفرنسي، بصورةٍ تبث بعض الطمأنينة في نفوس العامة، سواء كانوا فرنسيّين أو غير فرنسيين، لكنه في القت ذاته يُمثل كابوسًا لليمين واليسار، إنْه «إيمانويل ماكرون».
إيمانويل «بروتس»
بدأ الأمر من أغسطس/آب 2016، عندما تقدم وزير الاقتصاد إيمانويل ماكرون باستقالةٍ غير واضحة الأسباب أو المُلابسات إلى الرئيس «فرانسوا أولاند»، وأعلن أمام موظفيه أنّه سيُغادر الحكومة نهائيًا.
وعلى الرغم من الضبابية التي شابت تلك الاستقالة، إلا أنّه بالنظر إلى الوراء قليلًا، الخميس 14 يوليو/تموز 2016 نجد تهديدًا صريحًا من الرئيس أولاند بأنّه سيُقيل «وزير الاقتصاد إيمانويل ماكرون إذا لم يحترم الإجماع الحكومي ولم يتخل عن طموحاته الشخصية بالرئاسة».
صرّح أيضًا في مقابلة تلفزيونية تلت اجتماعه مع ماكرون: «في الحكومة لا يمكن أن تكون هناك تطلعات شخصية، أو بالأحرى رئاسية، احترام هذه الأصول يعني البقاء في الحكومة، عدم احترامها يعني الرحيل عنها».
وقال: «القاعدة الأولى هي التضامن، هي روح الفريق، هي الدفاع عن الحصيلة، هي تكريس كل الوقت للعمل، وهذه قاعدة عليه أن يحترمها». وأضاف: «من ثم هناك قاعدةٌ ثانيةٌ في الحكومة؛ لا توجد تطلعات شخصية أو بالأحرى رئاسية، هناك فقط أن تخدم وأن تخدم حتى النهاية». ومن هنا اشتدت التكهنات حول «إيمانويل ماكرون مُرشح الرئاسة الفرنسية».
سرعان ما وصفه اليمين الفرنسي بـ«العميل» الذي قد يُعرقل وصول فيون إلى الحكم، أما الحزب الاشتراكي فيرى أن ماكرون قد بدأ اللُعبة الرئاسية بشكل غير شريف، إذ يرون أنه خان فرانسوا أولاند الذي عيّنه وزيرًا للاقتصاد عام 2014، وبعد أن عمل مستشارا اقتصاديا له عام 2012. وصفه الحزب بـ«بروتس» نسبةً إلى السياسي الفيلسوف الذي شارك في قتل الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر عام 44 قبل ميلاد المسيح، رغم أنه هو الذي صقل مسيرته ومنحه كل الإنجازات».
وهو ما يحمل ضمنيًا شهادةَ تكريم لـ«ماكرون» على إنجازاته، وهو ما لم ينكره أولاند، بل أقرّه قائًلا: «إيمانويل ماكرون يرافقني منذ 2012 كمستشار ومن ثم كوزير للاقتصاد. أجرى إصلاحات ولا يزال يقوم بذلك».
انتقاء أصعب السبل
لمحنا في بداية الحديث أنّنا أمام شخصية مُغايرةٍ لما تعودناه على الساحات الساسية العالمية، لاسيما في الآونة الأخيرة؛ تجلى ذلك في برنامج ماكرون الانتخابي، وتصريحاته المُتتابعة، ولكن ما يُثبت أن الأمر أكبرَ من تصريحات مُنتقاة بعناية، هى الأفعال والخطوات التي مشاها ماكرون ثقيلةً من أجل التحول من مُرشحٍ يُذكر اسمه كإحصاء لعدد المُرشحين، إلى أحد الأربعة الكبار الذين وصلوا إلى النهاية، وثاني اثنين قد يصلان إلى الإليزيه.
اختار ماكرون الطريق الأصعب للدخول في المُنافسة، فرفض أولًا عرض الحزب الاشتراكي بالدخول في انتخاباته التمهديّة مُعللًا: «اليسار مقصى من الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية منذ 18 شهرًا. لا يوجد هناك مرشح سيتأهل إلى الدورة الثانية». فيما تساءل: «هل تعتقد مثلًا أن فالس سيُساند أرنو مونتبورغ في حال خسر الانتخابات التمهيدية؟ وهل تعتقد أن أرنو مونتبورغ وبنوا هامون سيُساندان مانويل فالس في حال فاز بالانتخابات التمهيدية؟».
جاء ذلك العرض ولم يكن ماكرون قد تحصل بعد على جميع التوقيعات اللازمة للترشح، و دعا كل المواطنين مهما كانت ميولاتهم السياسية إلى الالتحاق به من أجل إدخال فرنسا في القرن الحادي والعشرين». وخص بالذكر كل الذين آمنوا بمشروع فرانسوا أولاند الذي لم يتحقق حسب تعبيره وكل التقدميين الذين يؤمنون بالتغيير وبمستقبل زاهر.
وآتت تلك الدعوةُ أكلها حيث عمل ماكرون في الظل، بعيدًا عن أنظار الإعلام حتى تأسيس حركته «إلى الأمام» واستقطب إليها عشرات الآلاف من المساندين، غالبيتهم من الشباب الذين يرون فيه رجلًا سياسيًا نظيفًا جاء بأفكار حديثة ويتحدث لغة أخرى غير لغة السياسيين التقليديين؛ إذ يعتمد ماكرون في خطاباته على كلمات عادية يستخدمها الجميع.
ماكرون: عدّو اليمين واليسار
لا يُمكن تصنيف إيمانويل ماكرون في خانة ما، فهو لا ينتمي لليسار ولا اليمين. ورغم أنّه كان وزيرًا للاقتصاد في حكومة يسارية، فإنّه لم يعلن ولو لمرة واحدة أنه يدعم التوجه اليساري أو الحزب الاشتراكي. وفي برنامجه الانتخابي يُؤكد على أنّه «لا يمين ولا يسار» حيث ندد بتطلعات فيون الشبيهة برئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر وبـالانطوائية التي تدعو إليها مارين لوبان.
ويرى اليسار في ماكرون عدوًا له لأنّه رفض الانضمام إليهم كما أسلفنا الذكر، مما قد يفتت أصوات اليسار ويسمح لمُرشحة اليمين المُتطرف مارين لوبان فرصة في الفوز، حتى إن أولاند انتقد ترشحه بشكلٍ غير صريح قائلًا: «رهان (انتخابات 2017) هو رص للصفوف واللُحمة، ولا يُمكن لليسار خوض الانتخابات الرئاسية إذا لم يكن موحدًا».
أما اليمين فيقولُ: «ليضع الفرنسيون مصيرهم في يد شخص ليست لديه خبرة»، إشارةً إلى حداثة سنه (39 عامًا)، وعدم دخوله مُعتركًا سياسيًا سوى العمل الاقتصادي، حيث بدأ كمُفتشٍ ماليٍ، ثم مصرفي استثماري في بنك روتشيلد أندرس.
أما اليمين المُتطرف، وعنه لوبان فقالت وسط تجمع لمُؤيديها 15 نيسان/أبريل 2017 إنّه «من الأهمية بمكان أن يدرك الفرنسيون أنه في حال انتُخب – تقصد ماكرون – لسوء الحظ رئيسًا، فإن ماكرون سيسرع وتيرة غرق المجتمع الفرنسي في انحراف التعددية الثقافية أكثر وأكثر»، وأضافت أنّه «اندفاعةً للنزعة الإسلامية». واشتدت في مُهاجمته قائلةٌ: «لا أعتقد أن مرشحي البنوك يمكن أن يمثلوا التجديد».
ومن الجدير ذكره أنّه على الرغم من ذلك،فإن الأنباء تتواتر عن دعمٍ لماكرون من الجناح اليميني للحزب الاشتراكي ومن بعض السياسيين من اليمين والوسط، آخرهم فرانسوا بايرو، رئيس حزب الحركة الديمقراطية. هل تُنبئ هذه العداوة المُزدوجة أنّنا أمام شخصٍ فريد، وتجربة جديدة؟ وهنا تأتي الإجابة من عدة مُحاور:
أولُها وأهمها، البرنامج الانتخابي «لا يمين ولا يسار»؛ إذ يؤكد ماكرون في كل تجمع انتخابي شعبي على ضرورة ألا يكون هناك منبوذون ومنسيون في فرنسا، وضرورة تحسين القدرة الشرائية للمواطنين، ويُؤكد أنّه سيتبنى مشروعًا مُتناغمًا يقوم على رؤية شاملة. كما تعهد بإصلاح نظام التقاعد مع تطبيق القواعد نفسها على موظفي القطاعين الخاص والعام لكن دون تأخير سن التقاعد.
كذلك تعهد بتوظيف عشرة آلاف شرطي في وقت شهدت فيه فرنسا في العامين الأخيرين اعتداءات غير مسبوقة. وتعهد أيضًا بعدم المساس بالتغطية الاجتماعية، والدفاع عن أوروبا أفضل.
اقترح ماكرون إصدار تشريع يحدد قواعد أخلاقية للحياة السياسية، ويمنع النواب خصوصًا من توظيف أقارب لوضع حد للمفاضلة، وذلك تماشيًا مع مطالب حليفه الجديد من الوسط فرانسوا بايرو، بالإضافة إلى المزيد من التعهدّات الأخرى.
ولكن المحور الثاني – وهو ما يهم القاريء العربي – كيف سيتعامل مع المُهاجرين؟ ما سيكون وضع اللاجئين؟ الأزمة في سوريا؟ إلى آخر تلك الأسئلة المشروعة، خاصةً وأن القوى الفرنسية المُنافسة لماكرون تتعهد لمُؤيديها بمزيدٍ من الحصار للعالم العربي، وترك الأزمة السورية للأيام.
يُمكن استقرُاء موقف ماكرون تجاه سوريا من رد فعله على مجزرة استخدام غاز السارين حيث صرّح – قبل يوم من الضربة العسكرية الأمريكيّة – «بأنه مؤيد لتدخل عسكري في سوريا» وأضاف مُعلقًا على الهجوم الكيميائي: «إنه لأمر خطير للغاية فيما لو تم التأكد مما جرى، لذلك نعم،نحن بحاجة إلى تدخل عسكري» يهدف إلى معاقبة من قام بذلك.
ويعتقد ماكرون في الوقت نفسه أن من الضروري الحديث مع بشار الأسد وإقناعه بالرحيل عن السلطة. صباح يوم الجمعة وبعد الضربة الأمريكية قال ماكرون إنه يأمل أن يكون هناك خطة عمل منسقة دوليًا انتقامًا من نظام بشار الأسد والجرائم التي ارتكبت.
أما بخصوص الهجرة، فقد دعا ماكرون أوروبا إلى الاستعداد لمواجهة المزيد من المُهاجرين، وقال في تصريح سابق، إن السياسة الأوروبية الحالية بشأن اللاجئين، «فاشلة على نحو شامل»، حيث أشاد في مناسبات عدة بسياسة الهجرة واللجوء اللتين انتهجتهما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مضيفًا أن ألمانيا تنتهج سياسة تتوافق مع القيم الأوروبية، وأن هذه السياسة أنقذت كرامة أوروبا.
ويتوقع ماكرون أن أوروبا ستشهد خلال العقود القادمة، إضافة للهجرات الناجمة عن الصراعات السياسية القائمة حاليًا، هجراتٍ مناخيةً نتيجة الكوارث الطبيعية الناجمة عن التغير المناخي الذي يمر به كوكبنا. وانتقد معارضوه تلك السياسة التي سموها سياسة «الحضن المفتوح»، قائلين إنّها ستودي بفرنسا وثقافتها.
اعتذار للجزائريين وتوعّد للخليجيين!
شغلت هذه الدول الثلاث جانبًا خاصًا من اهتمام وحديث ماكرون، حيث وعد بأن ينهي، في حال فوزه، «الاتفاقات التي تخدم مصلحة قطر في فرنسا»، مشيرًا إلى أنه سيكون لديه مطالب كثيرة إزاء قطر والسعودية. وأضاف، «أعتقد أنه كان هناك كثير من التساهل، وخصوصًا خلال ولاية (الرئيس السابق) نيكولا ساركوزي (2007-2012)».
أما بخصوص الجزائر، فقد فجّر مُفاجأةً بحديثه لقناة الشروق الخاصة والذي جاء فيه على لسانه «إن الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي. إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات».
التصريحات لم يرها المُنافسون بريئةً بقدر ما تبدو؛ فاليميني جان بيار رافاران يقول: «إيجاد تعارض بين الفرنسيين وإخراج هذه القصص بغرض التقسيم أو إعادة التعبئة، أرى وراء ذلك أغراضًا انتخابية. ليس جديرا برئيس دولة أن ينبش جراحًا لا تزال مؤلمة جدًا». أما واليران دو سان جوست، المسؤول في الجبهة الوطنية فقد اتهم ماكرون بطعن فرنسا من الخلف!.
في الأخير، في عالم السياسة يكون من السذاجة الحلم بـ«حصان أبيض» يحمل السلام للجميع، أو يُقدم مصلحة الشعوب الأخرى على مصلحة الأصوات التي أتت به إلى سُدة الحُكم، إلا أن شدة التطرف تجعل الرغبة في «قليلٍ من التطرف» حُلمًا؛ وعلّ الأيام القادمة تُثبت أو تنفي خطأ الصورة التي رسمها ماكرون في أذهان الجميع. إلى ذلك الحين نأمل أن تكون صحيحةً.