تصريحات ماكرون والمسلمون المضطهدون
اعتدنا القراءة في شئون الإسلام، واعتدنا سماع خطب الجمعة والدروس الإسلامية، واعتدنا أيضاً أن نهمل كثيراً مما نسمعه، مثلنا مثل الكثيرين من المغلوبين على أمورهم، نؤثر السلامة، فما الداعي لمناقشات ستنتهي غالباً بألفاظ، أسعدني أني لم أعد أسمعها منذ أن انتقلت للحياة في مجتمعات تحترم الرأي الآخر، وكيف تجادل إذا كان الاحتكام للعقل والمنطق مرفوضاً كأساس للبحث في الأمور الإسلامية؟
ولأن عموم الإسلاميين لا يحتكمون للعقل والمنطق، أشعر كثيراً أنه لا طائل من الحوار في الشئون الإسلامية.
واعترف أني كنت من السذج الذين استبشروا خيراً بدعوة شيخ الأزهر لعقد مؤتمر لتجديد الفكر الإسلامي. وتمنيت لو أسعدني الحظ بزيارة للقاهرة لأستمتع بهذا الحوار الذي كان يحلم به الكثيرون منذ أيام الإمام محمد عبده رحمه الله. كنت أحلم أن أستمع للدكتور طه حسين يناقش الدكتور نصر أبو زيد، وأتخيل ابن خلدون يحاور ابن حنبل، وأكاد أرى الشافعي يقرفص رجليه في حضور الرازي. ولكن عطلتني أعمالي عن الذهاب لأرض الأزهر. واكتفيت بالتليفزيون، سعيداً بسماع المعاصرين يفردون آراءهم ويقارنون حُججهم، فجلست جلسة الطفل في انتظار وجبة فكرية ثقافية فلسفية، انتظرتها بلادنا منذ قرون.
ولكن بشرى الخير هذه لم تدم طويلاً، حيث تحوَّل تجديد الفكر الإسلامي لحوار حول قيمة التراث، فالبعض يريد التخلص منه، والآخرون لا يرون النجاة إلا فيه. ولم يستغرق الأمر طويلاً حتى اختتم الإمام الأكبر شيخ الأزهر المؤتمر بشرح أهمية تجميد الفكر الإسلامي لا تجديده. واكتشفنا أن الأمور على ما يرام كما هي، فضرب المرأة تكريم، وزواج القاصرات مسألة تخص ذوق الولي، ورضاعة الكبير ليست فرضاً أبداً ولكن حسب الطلب. والتجديد لا يحتاج منا سوى غسل الملابس القديمة، لأنها أفضل ما يمكن أن نلبسه. فعدنا أدراجنا وقد لبسنا القديم الممزق كما كنا، حتى بدون غسل.
ومرت علينا أشهر معدودة ثم خرج علينا الرئيس الفرنسي في أكتوبر/تشرين الأول 2020 مؤكداً أن الإسلام يمر بأزمة. وألخص رؤية الرئيس ماكرون في ثلاث نقاط:
- وصف الإسلام (المسلمين) بأنه «دين في أزمة».
- استمرار مشكلة إنتاج المسلمين للإرهاب الإسلامي.
- تشكيل الإسلام (المسلمين) لمجتمع موازٍ «انفصالي» عن المجتمعات التي تحويه.
ومن الصعب ألا يغضب المسلمون من كلام الرئيس، خاصة أن الرئيس قرر أن يصنع نسخة فرنسية من الإسلام. ولا أرغب هنا في رصد أخطاء ماكرون، وهي عديدة وتفضح عنصريته ولهثه خلف أصوات اليمين المتطرف. لا أنقده لأن كثيرين غيري انتقدوه وفضحوه. ولكني أهدف لقراءة أعمق للموقف تتجاوز شعور الغضب. فقد كان الرئيس يعبر عن مجتمعه الفرنسي بعد أسبوع فقط من حادثة طعن مواطن باكستاني مسلم لشخصين بالقرب من مكاتب تشارلي إبدو السابقة، في عمل انتقامي بسبب المنشورات التي احتوت رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد.
والحقيقة أن كل من النقاط الثلاث يستحق الفحص بهدوء بعيداً عن الانفعال اللحظي، لأن التصريحات تفضح ما في نفس أحد قادة الغرب المهمين. فهل فعلاً الإسلام في أزمة؟
سيتسرع الكثيرون ويرددون أن الإسلام ليس في أزمة، إن كان هناك أزمة فهي أزمة المسلمين. حسناً، ولكننا اعتدنا لوم المسلمين لقرون دون أن يغير ذلك واقعنا. فظاهرة القتل والاغتيال باسم الإسلام ظاهرة أكثر قدماً حتى من الفتنة الكبرى. ثم منْ الذي يُعلِّم شبابنا إسلاماً إرهابياً؟ شيوخ بلادنا أم كائنات فضائية؟
لقد كان د. عمر عبد الرحمن مفتي تنظيم الجهاد حاصلاً على أعلى شهادة علمية من واحدة من أفضل المؤسسات الإسلامية المعتدلة وأعرقها في العالم. ومثله د. عبد الله عزام، وكثيرون أباحوا وأهدروا دماء سياسيين وكتاب ومفكرين. ثم هل مشكلتنا المعاصرة تنحصر في الإرهاب أم تمتد لمعاملة المرأة، ومفهوم المواطنة، ونظم الحكم، والتعايش مع غير المسلمين، والتعايش حتى مع المسلمين الذين نختلف معهم. الحقيقة يا سيدي أن المسلمين أرض طيبة تُنبِت ما زرعناه فيها.
سيرد البعض مباشرة ويقول أنت تتهم الإسلام إذاً. وهذا رد يُعطِّل دراسة مشاكلنا. فالحقيقة يا سادة أننا لا نعرف ما هو الإسلام على وجه الدقة. وسبيلنا الوحيد فيما هو يبدو أن نستمع لكلام الشيوخ. وأغلب الشيوخ يناقض بعضهم بعضاً.
فكلام شيوخ السلطة عكس كلام شيوخ المعارضة، وكلام المعتذرين يناقض صراحة كلام السلفيين. وعذراً لمن يقول إن الاختلاف رحمة، فبعض هؤلاء المشايخ يُكفِّر البعض الآخر. هذا بالإضافة لتكفير المذاهب الأخرى مثل الاعتقاد بشرك الصوفيين وتسميتهم قبوريين. ناهيك عن ذم الشيعة والدروز، والحكم بكفر الليبراليين والعلمانيين وقائمة المُكفرين بعضهم بعضاً طويلة. فلا أرى هذا الخلاف من نوع خلافات الرحمة على الإطلاق.
لذلك فإن كان لي أن أعدل في كلام الرئيس ماكرون، فلن أقول إن الإسلام في أزمة، ولا المسلمين في أزمة. ولكن، مشايخ المسلمين ورجال الدين في أزمة كبيرة. المؤسسات التعليمية الإسلامية في أزمة كبيرة. والمشكلة أن المسلمين المساكين يتحملون عبء هذه الأزمة. يتحملون العبء عندما تضطهدهم مجتمعاتهم فيعيشوا مهمشين، وعندما يتبعون مشايخهم فينتهوا في السجون، ثم عندما يلومهم المشايخ لعدم فهمهم «الدين الصحيح». لقد عشنا في هذه الدوامة الكارثية لقرون.
أمَّا عن تشكيل الإسلام (المسلمين) لمجتمع موازٍ «انفصالي» عن المجتمعات التي تحويه فهذا أمر عشناه في بلادنا فكيف ننكر حدوثه في فرنسا؟ فقد تكاثر الشيوخ في فتاواهم بتحريم الفوائد البنكية فلم يتمكن أغلب المسلمين من شراء عقارات في أحياء يختلطون فيها مع أطياف المجتمع الفرنسي. وتكدسوا في أحياء فقيرة.
وتتابعت الفتاوى في تحريم أنواع الأعمال فانحصر المسلمون في أعمال الجزارة وعسل النحل وكثرت البطالة وقل السياسيون والمحامون وصارت تجارة المسلمين في نطاق القليل المسموح.
أمَّا عن المعاملات الإنسانية فمباركة مواطن غير مسلم في أعياده أمر رفضه بعض شيوخ المسلمين. ناهيك عن مجالسة غير المسلمين وصداقتهم والخروج معهم فهذا كله مرفوض. فماذا ننتظر من مسلمي فرنسا الذين هم أقلية في مجتمع ذي ثقافة مختلفة؟ إمَّا الانعزال أو ترك الدين. وأنا لا أنكر أن المجتمع والدولة الفرنسية تعاملت مع المسلمين بعنصرية، أنا فقط أركز على حصتنا نحن من اللوم. لنكن صرحاء، إن القيم والمعاملات التي يبثها الشيوخ في شبابنا تقف عائقاً أمام اندماج المسلمين في مجتمعاتهم.
وكما يمكنك أن تتوقع، تسبب كلام الرئيس ماكرون في ردود فعل واسعة غاضبة وسريعة، أختص منها رد الإمام الأكبر شيخ الأزهر ورد أمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وكلا الردين تم في أقل من ٣٦ ساعة بعد تصريحات الرئيس الفرنسي. وسبب اهتمامي بهذين الردين أنهما يأتيان من شخصين مسئولين، ولأن كلاً من الرجلين يحمل علماً وثقافةً وفطنةً يفترض أن تعبر عن أفضل ما ننتظر أن نراه في العالم الإسلامي اليوم.
أما رد الشيخ «علي محيي الدين القره داغي» أمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فقد جاء انفعالياً بدرجة تتناقض مع ما ننتظره من رجل دين في منصبه. خذ مثلاً قول الشيخ داغي:
فإن كان الشيخ داغي يقصد القيادات السياسية في العالم الإسلامي، فربما فاته أن الغرب لا يشتكي من تلك القيادات أبداً. ثم زاد الشيخ داغي بقوله:
والحق أنه ما من عاقل يمكن أن يقتنع أن الرئيس ماكرون يعيش في القرون الوسطى وأن الشيخ علي داغي هو الذي يعيش في الحداثة. فكأن الشيخ داغي أراد أن يلوم الرئيس، فانتهى بأن يلوم نفسه. زد على ذلك تجاهله الواضح لعلمانية الدولة الفرنسية التي قررت من قرون ترك الدين خلفها. ولا يبدو من رد الشيخ داغي أنه على دراية بالخلفيات الثقافية للمجتمع الفرنسي من الأساس.
وأضاف الشيخ داغي:
قرأت هذا وصرت أرتجف، فماذا يقصد بخوفه على مجتمعات تصنع أعداءً لها؟ هل الشيخ داغي يهدد فرنسا بعداوة المسلمين؟ إن كان تهديداً، فالأمر شديد الخطورة. هل يتكلم الشيخ داغي باسم المسلمين؟ منْ الذي فوَّضه ليهدد دولاً؟ هل يتكلم باسم الإسلام؟
الحق أنك لو قارنت حال مسلمي فرنسا، وهم يزيدون على الخمسة الملايين، بحال المسلمين في دول أوروبية أخرى لوجدت مسلمي إنجلترا وألمانيا أكثر اندماجاً وأفضل حالاً. ووجدت لهم تأثيراً سياسياً وإعلامياً وثقافياً. ولكن في فرنسا الأمر مختلف، فالاضطهاد أكثر عمقاً وجذوره تمتد في الدولة الفرنسية كما تمتد في المجتمع الفرنسي بكل أطيافه. كالعادة، انشغل المشايخ كثيراً بالدفاع عن الإسلام ونسوا المسلمين. مسلمي فرنسا أقلية مضطهدة بحاجة لأن نقف معهم، بأن نتحاور مع دولتهم لتُحسِّن أوضاعهم وتزيد الاهتمام بهم وليس بتهديد دولتهم يا فضيلة الشيخ.
أما موقف الإمام الأكبر شيخ الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية فهو موقف شديد التباين بالمقارنة بتصريحات الشيخ داغي. فجاء رد الأزهر شديد الذكاء عندما أكد رفضه لتصريحات الرئيس ماكرون التي تنسف كل الجهود المشتركة بين الرموز الدينية للقضاء على العنصرية والتنمر ضد الأديان. ودعا المجمع إلى ضرورة التخلي عن أساليب الهجوم على الأديان وأضاف رفض خطاب الكراهية، ودعا إلى مجتمع يرسخ للتعايش بين أبنائه ويقضي على التفرقة والعنصرية. فكان رد الإمام الأكبر والمجمع كالبلسم الذي كنا في حاجة إليه.
وأتمنى أن يتابع الأزهر مجهوده بأن يلتقي الرئيس ماكرون ليناقش وسائل وسبلاً عملية لإنصاف المسلمين الفرنسيين.
ببساطة، علينا أن نهتم في الأزمات بحماية الإنسان أكثر من حماية الأفكار. فالأفكار لها مسار تتبعه حتى في أحلك الظروف، أما البشر فيُعذبون ويُقهرون. مسلمو فرنسا بحاجة لنا، فماذا سنفعل؟