لا الوحشية، ولا القسوة ولا التعذيب ستجعلني أطلب الرحمة، لأنني أفضّل أن أموت ورأسي مرفوع، إيماني لا يتزعزع وبثقة عميقة في مصير بلدي، بدلاً من العيش في ظل الخضوع وتجاهل المبادئ المقدسة.
من رسالة لومومبا إلى زوجته

انظر عزيزي القارئ إلى الصورة في الأعلى، إنها لمظاهرة ترفع اسم رجل أفريقي يدعى لومومبا، لكنها مظاهرة لمجموعة من البيض في سلوفينيا. نعم، لم يعد كثيرون اليوم يعرفون لومومبا، رغم أنهم يعيشون في بلدان كمصر والسودان، غصّت بالمتظاهرين والشاجبين لاغتيال لومومبا، الزعيم الكونغولي المنتخب من قبل شعبه لتحقيق الاستقلال وبناء الديمقراطية على أسس من العدالة الاجتماعية والتنمية. لكن مصير لومومبا كان هو الموت بعد أن سلّمه البلجيكيون والأمريكان إلى خصومه من المتطرفين المحليين والانقلابيين من العملاء في الجيش.

هكذا، كان مصير لومومبا درسًا أدركته كافة الشعوب والمناضلين حول العالم، في أفريقيا وغير أفريقيا، البيض والسود، المسيحيين والمسلمين. إذا أردت الاستقلال، استعادة ثروات بلدك المنهوب، بناء ديمقراطية تحمي حقوق شعبك، فإن مصيرك لن يكون سوى الموت. هذا ما جعل طلاب المدارس في مصر والسودان وسلوفينيا وغيرها، الكُتاب، الثوار، يرون في لومومبا رمزًا لنضالهم، ولجريمة أعداء الحرية المخادعين حول العالم.


بالأيادي المقطوعة: كيف حكمت بلجيكا الكونغو؟

حصلت بلجيكا على وصايتها الاستعمارية في أفريقيا وفقًا لنتائج مؤتمر برلين المنعقد بين عامي 1884 و 1885، ذلك بعد أن أقر المؤتمر بنشأة ما عرف بدولة الكونغو الحرة. في البداية، لم تعتمد بلجيكا على القوة العسكرية لتأسيس إمبراطوريتها في الكونغو، ولكن سعى ليوبولد الثاني إلى السيطرة من خلال أنشطة الجمعيات كالجمعية الأفريقية العالمية ولجنة دراسة الكونغو.

بدلاً من أن تقوم تلك المؤسسات بتطوير القارة ونقل الحضارة والصناعة إليها، سعت إلى استغلال وحشي لموارد وثروة القارة وعلى رأسها سرقة ثروات الكونغو، فقد استمرت بلجيكا وحلفاؤها الغربيون في جني الأرباح من مصانع الكونغو ومزراعها ومناجمها التي أنتجت الألماس والذهب واليورانيوم والنحاس والعاج والمطاط.

بهدف حماية مصالحها الاقتصادية وإجبار السكان المحليين للعمل في المناجم، شكلت جمعيات بلجيكا فرقًا مسلحة من الكونغوليين الموالين لها تحت إشرافها، مارست القتل والترهيب للسكان المحليين للعمل في مجال استخراج الثروات الطبيعية من المناجم وعلى رأسها الألماس والمطاط.

انتهاكات وصور التعذيب التي ابتكرتها تلك الفرق المرتزقة لم تترك طفلا أو شيخًا يرفض العمل، ومارست تلك الفرق سياسات عقاب تنوعت من الاعتقال إلى بتر الأيدي وصولاً إلى مهاجمة وحرق القرى لإجبار المحليين على العمل لساعات أطول. مع نهاية تسعينات القرن التاسع عشر، وجدت سياسات بلجيكا العقابية طريقًا إلى ضغط الرأي العام بعد أن وصل عدد ضحايا تلك السياسة ما يقارب 10 مليون كونغولي.

وسط حالة من الانتقادات العالمية لسياسة بلجيكا في الكونغو، و بعد 23 عامًا من الوصاية، تحديدًا في عام 1908، وافق البرلمان البلجيكي على ضم الكونغو رسميًا لبلجيكا واعتبارها مستعمرة خاضعة لإدارتها.

اقرأ أيضًا:ألماس الدم والصراعات: كيف صار الألماس لعنة أفريقيا؟


وحيدًا: كيف سار لومومبا نحو الاستقلال؟

في كل نضالي من أجل استقلال بلدي، لم أشكّ لحظة واحدة في الانتصار النهائي للقضية المقدسة التي كرّس أصحابي وأنا ، كل حياتنا من أجلها. ولكن ما كنا نتمناه لبلدنا، من حقه في الحياة الكريمة والكرامة غير الملوثة، إلى الاستقلال دون قيود لم يكن مرغوبًا فيه من قبل الإمبرياليين البلجيكيين وحلفائهم الغربيين.

لم يكن نضال لومومبا المولود في 2 يوليو/تموز 1925 لأسرة كاثوليكية متدينة، هو النشاط الأول المقاوم للاستعمار البلجيكي. كانت أول حركة تمرد ضد الحكم البلجيكي قد قامت بها جماعة «كيتياوالا»، وهي جماعة من المتدينين الأفارقة، ويرجع تاريخ تلك الحركة المقاومة إلى عام 1921. عرفت تلك الحركة بكراهية الرجل الأبيض، ونجحت السلطات البلجيكية في وأدها مبكرًا.

باتريس لومومبا يدلي بحديث صحفي أثناء أزمة استقلال الكونغو

خلال أحد عشر عامًا من العمل في الإدارة الاستعمارية، بدأت مواقف لومومبا المناهضة للاستعمار تتشكل في ذهنه وتدفعه إلى التمرد على الممارسات الاستعمارية القاسية. التحق في سنوات نضاله الأولى بـ «الحزب الليبرالي البلجيكي»، وناضل في سبيل الاندماج والمساواة بين البلجيكيين والكونغوليين مؤمنًا بالوحدة الأفريقية.

لكن الانعطاف الأقوى في نشاطه حدث في أكتوبر/تشرين 1958، حينما بادر إلى تأسيس الحركة الوطنية الكونغولية، وهي حركة سلمية تقوم على اللا عنف في مقاومة الاستعمار، والتمرد في سبيل الحصول على الاستقلال، وتأسس نشاط الحركة بين العمال والفلاحين والفقراء. دعت الحركة إلى إقامة دولة وطنية موحدة ذات حكومة مركزية قوية تقوم على أساس من التوزيع العادل للدخول.

لخّص لومومبا رؤيته ومناهضته للاستعمار على المستوى الخارجي، حينما هتف بعد خطابه الحماسي في مؤتمر الشعوب الأفريقية بغانا: «يحيا استقلال الكونغو، تحيا أفريقيا مستقلة، فلتسقط الإمبريالية، فلتسقط العنصرية والقبلية»، مؤسسًا مبدأه في تبني الحياد الإيجابي، والبعد عن تكتلات المصالح الاستعمارية.

دعت بلجيكا عام 1959 إلى إجراء انتخابات عامة في البلاد تهدئة لحركة المقاومة ضدها، ولكن أصر لومومبا وحركته على نيل الاستقلال ورفض الانتخابات، وهو ما أدى إلى اعتقاله وتعذيبه. في تلك الأثناء تولدت ثورة عنيفة بين محتجين كونغوليين وسلطات الاستعمار في أعقاب رفض السلطات البلجيكية اجتماع لمنظمة «الأباكو» المطالبة بالاستقلال.

بالرغم من الإمدادات العسكرية الضخمة في مواجهة الثورة السلمية، وفي ظل مظاهر القمع والعنف، أصدر الملك بودوان بيانًا يتعهد فيه بمنح الكونغو استقلالها. سعت بلجيكا إلى الالتفاف حول تعهد الملك، ولكن استمرار التمرد دفعها إلى الإفراج عن لولومبا وعقد مؤتمر منح استقلال الكونغو في يوليو/تموز 1960.


لماذا كان الاغتيال ضروريًا؟

لماذا تآمرت أمريكا وبلجيكا لقتل شاب واحد؟ سؤال يطرح كثيرًا من علامات الغموض والدهشة، ولكنها لعبة المصالح الاقتصادية والتجارية. لمدة تزيد عن 126 سنة، لعبت الولايات المتحدة وبلجيكا أدوارًا رئيسية في تشكيل مصير الكونغو. في أبريل/نيسان 1884، أصبحت الولايات المتحدة أول بلد في العالم يعترف بسيطرة الملك البلجيكي ليوبولد الثاني على أراضي حوض الكونغو.

عندما أدت الجرائم والفظائع البشعة المرتبطة بالاستغلال الاقتصادي الوحشي في ولاية ليوبولد الحرة الكونغولية إلى سقوط ملايين القتلى، انضمت الولايات المتحدة إلى قوى عالمية أخرى لدفع بلجيكا للاستيلاء على البلاد كمستعمرة عادية، تقاسمت أمريكا وبلجيكا الحصة الإستراتيجية في الثروة الطبيعية الهائلة للكونغو، فقد استخدمت اليورانيوم المستخرج من المناجم الكونغولية في تصنيع الأسلحة النووية المستخدمة في هيروشيما وناجازاكي.

مع اندلاع الحرب الباردة، ومع تنامي ثورات التحرير ضد الاستعمار الأجنبي، سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون إلى عدم السماح للكونغوليين بالسيطرة الفعالة على المواد الخام الإستراتيجية، خشية سقوط هذه في أيدي المعسكر السوفييتي، لذا وظفت كل من الولايات المتحدة وبلجيكا كافة الأدوات والموارد المتاحة لهما، بما في ذلك أجهزة الأمم المتحدة، لشراء ولاء داعمين لها من المنافسين الكونغوليين للومومبا والتخطيط لاغتياله.


الدم والنار: كيف تم اغتياله؟

باتريس لومومبا
https://youtu.be/qxNgdrsA86U

سعى لولومبا خلال توليه رئاسة الحكومة إلى المضي قدمًا في تحقيق جلاء القوات البلجيكية من الكونغو وفقًا لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. قام بإصدار قرار يلغي فيه معاهدة الصداقة مع بلجيكا، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها، غير أن الأخيرة رفضت سحب قواتها قبل استقرار الأوضاع في كافة الكونغو.

باتريس لومومبا أثناء توليه الحكومة الكونغولية

أصدر رئیس الجمهوریة جوزیف كازافوبو، قرارًا بعزل لومومبا بعد ساعات من قراره قطع العلاقات مع بلجيكا، ولكن مجلس الشيوخ الكونغولي المنتخب أعطى لرئيس وزراء الحكومة سلطات حل المشكلة مع رئيس الجمهورية، وهو ما لم يكن مقبولاً لدى الطرفين. سعى لولومبا وفقًا لنص دستوري إلى إقالة كازافوبو.

بعد أسبوع من الصراع السياسي الدائر، قام الجنرال موبوتو سيسي بانقلاب عسكري للإطاحة بحكومة لومومبا واعتقله. في ديسمبر/كانون الأول 1960، أودع لومومبا في سجن تیسیفیل، وحين أدرك موبوتو تأثيره على الجنود والضباط في معسكر السجن، تم نقله وتسليمه إلى مويس تشومبي، وهو سياسي كونغولي حاول استغلال استقلال الكونغو ليعلن استقلال مقاطعة كاتانجا، وقد تصدى له لومومبا، وصار تشومبي ألد أعدائه. في 17 يناير/كانون الثاني 1961، نفس يوم ترحيله، تم تنفيذ عملية الاغتيال لومومبا ورفاقه إلى غابة حيث كانت تنتظر فرقة الإعدام، فانهمر عليهم وابل من الرصاص.

كان تسليم لومومبا إلى تشومبي حيلة وجدت السلطات البلجيكية وحلفاؤها فيها وسيلة أفضل لاغتيال لومومبا تزيل عنهم أصابع الاتهام المباشرة في عملية الاغتيال، وكان هو اغتياله بتسليمه إلى أشد أعدائه من الكونغوليين. وبعد تنفيذ عملية الاغتيال، اتهمت الأمم المتحدة موريس تشومبي بقتل لومومبا.

بعد أن تم تشكيل لجنة تحقيق برئاسة جيرت فيرسنيك، وفي محاولة معالجة علاقاتها مع مستعمراتها فبراير/شباط 2002،اعتذر وزير الخارجية البلجيكي لويس ميشيل عن دور بلاده في اغتيال لومومبا، وعرض إنشاء صندوق بقيمة 3،25 مليون دولار باسم لومومبا لتعزيز الديمقراطية في الكونغو.

أفادت بعد ذلك مذكرات وكلاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية « CIA» في الكونغو، أن إدارة الرئيس الأمريكي أيزنهاور قد خططت لاغتيال لومومبا. قامت الولايات المتحدة وبلجيكا بدعم مخطط يقوم على اغتيال لومومبا بوضع سم على فرشاة الأسنان التي يستخدمها. تم بناء على ذلك إرسال سيدني غوتليب، أكبر خبير في السموم في الوكالة، وهو الذي أصدر أوامر قال إنها تمت الموافقة عليها من قبل الرئيس أيزنهاور لقتل لومومبا.