لوكاس توريرا: أقصر من اللازم وأروع من اللازم أيضًا
السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ملعب كرافن كوتيج في العاصمة لندن، أرسنال في طريقه لإضافة هدف خامس في مرمى مضيفه فولهام، فيما يغني جمهوره فرحًا بأهداف الثنائي المتألق «ألكسندر لاكازيت» و«أوباميانج»، وبالرجل الذي يقود قاطرة فريقهم بخطوات ثابتة «أوناي إيمري». وبينما تصاعد إيقاع الأغاني، تنبه أحدهم أن شخصًا آخر يستحق أيضًا الغناء، فصاح في مدرجات الجانرز قائلًا «هيا، لنغني الآن لتوريرا».هذا الرجل هو على الأرجح أحد رواد برنامج ArsenalFanTV الشهير. وربما ظهر ذات مرة بعد أحد إخفاقات أرسنال الغريبة متحدثًا بغضب وسخط على «أرسين فينجر» وعلى «ستان كرونكي»، وعلى «ثيو والكوت» طبعًا. وظل، حاله كحال كل الذي يتواجد معهم الآن، يحلم بأرسنال مختلف عن ذلك التقليدي الذي تحول لنكتة. وينتظر اليوم الذي يختفي فيه أمثال «فلاميني»، و«كوكلين»، ليحل محلهم من يشبه «باتريك فييرا» و«جيلبرتو سيلفا». لكنه بالتأكيد لم يكن يظن أنه سيجد ضالته في لاعب لا يزيد عمره على 22 سنة، طوله عن 1.66 سم، بل وسيطالب الجمهور بالغناء له.
نصف الحجم وضِعف الشخصية
هناك أمران يمكن ملاحظتهما للوهلة الأولى في لوكاس؛ الأول، هو أنه يشبه جدًا المذيع المصري «هاني حتحوت»، والثاني هو أنه يلعب في مركز يتميز أصحابه عادة بطول القامة. صحيح أن استثناء تلك القاعدة ظهر قبل ثلاثة أعوام بواسطة «نجولو كانتي»، لكنه بقي الاستثناء المدهش الذي يقارع ناطحات سحاب كـ«بوسكيتس»، و«إيريك داير»، و«كاسميرو». أما توريرا فجاء لينسف تلك القاعدة من الأساس، ليس لأنه أقصر طولًا من بوسكيتس أو كاسميرو، بل لأنه أقصر من كانتي نفسه!وهنا تحديدًا يقفز لأذهاننا عدة أسئلة تبدأ كلها بكيف. أولها طبعًا، كيف يتعامل لوكاس مع الكرات الهوائية؟ وكيف يلتحم مع من يمتلك ضعف حجمه؟ كيف يعرقل الهجمات المرتدة السريعة؟ بل وكيف تمكن من احتراف الكرة أصلًا؟ عرضت صحيفة التليجراف تلك الأسئلة على النادي الذي شهد انطلاقة توريرا الأولى، لكن الإجابة جاءت أكثر غموضًا. إذ أجاب «هوجو رويز»، المسؤول بنادي 18 يوليو الأوروجواياني، بجملة واحدة مقتضبة: هو فقط ولد شجاع. بتلك البساطة؟ نعم بتلك البساطة. وقبل أن نتهم أنفسنا بالجبن لأننا لم نتمكن كلوكاس من اللعب لأرسنال، فإن رويز يشرح إجابته قائلًا إن اللاعب الأورجواياني كان على إدراك تام بالتحدي البدني الذي يعيقه، لكنه يدرك أيضًا مدى موهبته. لهذا فقد اختار أن يكرّس حياته كلها لساعات طويلة من التدريب القاسي، والالتزام التام في معسكرات الناشئين، وذلك أملًا في تعويض الفوارق البدنية مع زملائه.أما نتيجة ذلك فكانت مذهلة. فلوكاس لم يتمكن فقط من مجاراة رفاقه، ولكن تم تصعيده ليلعب مع من هم أكبر وأضخم منه. كما تميز بأمرين إضافيين؛ الشخصية القوية التي تدفع الفريق، والقدرة المتزايدة على قراءة الملعب. يحكي رويز أن توريرا كان يجتهد ليراكم الخبرات وكأنه يتحين الفرصة القادمة، وهذه الفرصة أتت بالفعل عندما وجد لاسمه متسع في قائمة من الناشئين سيتم اختبارهم في إيطاليا. في البداية، لم يرغب المسؤول عن تلك الرحلة اصطحاب لوكاس لضآلة حجمه، لكن بعض مدربي توريرا نجحوا بإقناعه. سافر المسئول رفقة الناشئين، وعادوا لأوروجواي لأنهم لم يفلحوا في إقناع أندية إيطاليا عدا واحد فقط، اسمه: لوكاس توريرا.
رحلة إلى محور الأرض
قبل يومين كان أرسنال يواجه هدرسفيلد، وقد تأخر هدف الجانرز الأول حتي ظنت جماهيره أنهم سيخرجون من المباراة بنقطة يتيمة. وبينما يتسرب الإحباط لمدرجات ملعب الإمارات، كان أحدهم يتسرب لمنطقة جزاء هدرسفيلد، ليحوّل كرة عرضية بحركة أكروباتية double-kick لهدف قاتل اقتنص للمدفعجية النقاط الثلاثة.هذا الهدف يحتاج لمهارة خاصة، ربما تتوفر للاكازيت أو لـ«مسعود أوزيل»، لكن أن يسجله لاعب وسط ملعب؟ هذا أمر لا يحدث كل يوم. إنه توريرا، يفعلها ويسجل مجددًا بعد هدف آخر في شباك توتنهام جاء نتيجة اختراق وتسديد رائع. فهل جاءت تلك الأهداف مصادفة؟ الإجابة هي لا. لماذا؟ دعني أفاجئك وأخبرك أن لوكاس بدأ مسيرته كجناح ومهاجم مع فريق بيسكارا للشباب، حتى التقطه مدرب فريق تحت 19 سنة «ماسيمو أودو» الذي سيغيّر مركزه وحياته كلها للأبد. يقول توريرا إن أودو كان أمينًا جدًا معه، فقد أخبره أن أقصي ما يمكن أن يصل إليه في مركز الهجوم هو اللعب لأحد فرق الدرجة الثالثة، لكنه كان متأكدًا لو تم تغيير مركزه سيصبح لاعبًا كبيرًا، لكن أي تغيير بالضبط؟ هذا ما عكف أودو عليه. حيث منح المدرب الإيطالي لوكاس مزيدًا من الرعاية، وبدأ في ملاحظة مزاياه وعيوبه عن قرب، قبل أن يقرر الدفع به أمام خط الدفاع أو ما يعرف في عالم التكتيك deep-lying-midfielder: صانع الألعاب المتأخر. هذا الاختيار كان له أسبابه.اكتشف أودو في لاعبه قدرة كبيرة على استيعاب أي أمر تكتيكي ومن ثم تنفيذه بدقة عالية، بالإضافة لتميزه في مهام استخلاص الكرة والتمرير الدقيق لزملائه. لكن أهم ما لاحظه هو أن توريرا تمكن من ترويض الفارق البدني، فهو يفوز بالثنائيات ضد من هم أضخم منه، ويركض أسرع ممن هو أطول منه، كما يعرقل هجمات من يفوقه قوة!أصاب أودو في رهانه، وذاع صيت لوكاس بين كشافي المواهب حتى استطاع نادي سامبدوريا الحصول عليه قبل الآخرين، لكن لا أحد كان يتصوّر أن يحقق الرهان كل ذلك النجاح. وفي موسمه الأول، حاز ابن العشرين عامًا ثقة مدرب الفريق الأول «ماركو جيامباولو» الذي دفع به للتشكيل الأساسي، وأثبت الأوروجواياني أنه جدير بالثقة. على مدار موسمي 2016/2017 و2017/2018، سيحقق توريرا جملة من الأرقام المذهلة التي لا تكون أبدًا من نصيب ناشئي حديث التصعيد. أولًا، سيتربع على عرش قائمة أكثر اللاعبين تحقيقًا للعرقلات الناجحة برصيد 145 عرقلة ونسبة نجاح تفوق 73%، ثم سيأتي رابعًا في قائمة أكثر من قام باستخلاص الكرة ب158 مرة، وبعد كل ذلك سيسجل دقة تمرير تفوق نسبة 87%. هذه أرقام لشاب دون خبرة كبيرة، ويسعى فقط لتثبيت اسمه بالتشكيل، ولا يمتلك ميزة جسمانية تذكر. محظوظ مدرب سامبدوريا، أليس كذلك؟نعم هو كذلك. وقد عبر عن سعادته بالحيوية والتوازن الذي يضيفه لاعبه للفريق، سوى أنه كان حزين لأمر واحد فقط، وهو أنه لن يتمكن من الاحتفاظ بتوريرا طويلًا، وستنهال عليه العروض من كل صوب. في أحد المؤتمرات سُئل عن رحيل لاعبه، وأجاب لو كان لوكاس أطول 20 سم فقط لما تردد في طلب 100 مليون يورو مقابل التخلي عنه.
توريرا أكثر من قام بعرقلات ناجحة خلال موسمي 2016/2017 و2017/2018 بالدوري الإيطالي
مدفع جديد
هل ما زلت تذكر مباراة فولهام؟ حسنًا دعنا نعود إليها. فخلال المؤتمر الصحفي عقب المباراة، اختار إيمري كلمات محددة لوصف توريرا الذي استعاد الكرة لفريقه أكثر من أي لاعب آخر، حيث قال المدرب الإسباني إنه يستمع ويتعلم كل يوم، لكن أهم ما جاء في كلامه هو أن لوكاس يمنح أرسنال التوازن الذي يحتاجه. عن أي توازن يتحدث أوناي؟مشكلة أرسنال الأساسية لم تكن أبدًا في الشق الهجومي، ففي الموسم الماضي كان الفريق يمتلك ثالث أقوى خط هجوم بالبريمرليج، لكنه يعاني جدًا في الجانب الدفاعي، حتى أنه استقبل 19 هدفا خلال 8 مباريات جمعته مع الفرق الأربعة التي تصدرت الجدول، كما استقبل 32 هدفًا آخر مع باقي الفرق بمعدل يزيد على هدف كل مباراة، وقد كان خط وسط الجانرز سببًا مباشرًا في تلك الأرقام. أما هذا الموسم، فجرب إيمري اللعب بتوريرا ودونه، لتخرج الإحصائيات على هذا النحو المثير تمامًا للدهشة. في غياب توريرا وخلال 442 دقيقة، سجل الفريق 9 أهداف واستقبل في شباكه 10، ولكن في حضوره وخلال 548 دقيقة، سجل الفريق عشرين هدفًا واستقبل ثلاثة فقط! يتميز أسلوب أرسنال بشقين؛ الأول هو الخروج بالكرة من مناطقه عن طريق الأطراف، والثاني هو الاعتماد على التحولات الهجومية والدفاعية. وتلك جوانب تكتيكية تستوجب وجود خط وسط مطالب بتغطية المساحة التي نتجت من صعود الأظهرة، وعرقلة أي هجمات مرتدة للخصم في مساحة تزيد على 30 ياردة، كذلك القدرة على تحويل الكرة سريعًا بمجرد استخلاصها من الخصم لاستغلال المساحات في وسط ملعبه، وأخيرًا التصرف الجيد بالكرة وقت الاستحواذ سواء بصناعة اللعب أو التسديد.لوكاس توريرا مهم لأنه يقوم بكل ذلك، حالته الآن تشبه نسبيًا «أرتورو فيدال» قبل إصابته. لكل ذلك، وجب على جمهور أرسنال الاحتفاء بما يمتلكه لاعبهم الأوروجواياني، الذي لا يزيد طوله على 5 أمتار، لكنه يلعب -حقيقة لا مجازًا- كالوحش.في فراي بنتوسفراي بنتوس هي إحدى مدن الجنوب الغربي لأوروجواي. منها خرج توريرا، وإليها أيضًا عاد بعد مشاركته المونديالية الأولى. كان في انتظاره حينها والده وأخته اللذان ودعاه قبل الرحيل لروسيا، وكان لوكاس يحضر لهما هدية من نوع خاص. يدرك لوكاس جيدًا فضل أسرته عليه. هذه الأسرة كانت الداعم الأول والأساسي وفي بعض الأحيان الوحيد له خلال رحلته نحو إثبات جدارته، وتخطي كل المعوقات التي صادفته. لذلك رأى أن تكون لها نصيب من نجاحه.قرر لوكاس أن الوقت قد حان لتكف أسرته عن العمل في وظائف مرهقة لساعات طويلة عند الآخرين، فقام بإهداء والده مبلغًا من المال ليبدأ مشروعه الخاص الذي ستعاونه في إدارته شقيقة توريرا. دشن الأب متجرًا لبيع اللحوم وسماه LA34 وهي أرقام قميص توريرا مع نادي سامبدوريا. في الثاني من ديسمبر/كانون الأول الجاري، وبينما كان لوكاس يخوض ديربي لندن لأول مرة، كان العاملون بالمتجر يشاهدون عبر التلفاز مجريات اللقاء لحظة بلحظة. وفي الدقيقة 77، سيخترق توريرا دفاعات توتنهام، ليقفز والده من المقعد، سيتسلم لوكاس الكرة، ليصرخ فيه الوالد بأن يسدد، سيلبي الولد الأمر، ثم سيحتفل الثنائي بنفس الانفعال والصراخ والهيستيريا بالرغم أن ما يفصلهما يزيد على عشرة آلاف كيلومتر، إلا أن ما يجمعها يذيب كل تلك المسافة.