رواية كُتبت بالأنف: عن «عاشقة صاحب الكرسي»
هي رواية يتماهى فيها الكاتب في شخصية البطل، فلا تعرف أين تنتهي خلالها حدود الواقع وتبدأ حدود الخيال، روايتنا هي رواية «عاشقة صاحب الكرسي» لمؤلفها المعتصم بالله أبو محفوظ، البطل الحقيقي وراء استلهام أحداثها، وفي قصة كتابتها، وتلك الأخيرة بحد ذاتها حكاية أخرى تستحق أن تُروى.
فنظرة المجتمع إلى أصحاب الإعاقة دفعت المؤلف الذي لم يتجاوز عمره 21 عامًا، إلى تأليف كتابه الأول «نظرات ثاقبة»، والذي انتقد فيه المجتمع بشدة، لنظرته الدونية لهذه الفئة، ومن خلاله استطاع المعتصم كما تخبرنا والدته، أن يوصل للقراء رسالة، أنه رغم حالة العجز الكبيرة التي عانى منها، لكنه يريد أن يثبت للجميع، أنه مهما بلغ الإنسان من العجز قادر على أن يفرض وجوده، وأن الإنسان ليس بالكمال الجسدي، إنما الإنسان بتفكيره وعقله وأخلاقه.
طفولة صعبة
يعاني المعتصم منذ الولادة حالة شلل دماغي، بسبب نقص في الحصول على الأكسجين خلال عملية الولادة، وهو ما تسبب في شلل أطرافه الأربعة، ومعاناته من صعوبة شديدة في الكلام، وهي الإعاقة التي لم تمنعه من التميز والنبوغ العقلي الذي لاحظت والدته تمتعه به منذ سنوات عمره الأولى.
عندما كان عمر المعتصم أربعة أعوام بحث والداه كثيرًا عن روضة أطفال تقبل بحالته، وبصعوبة تمكنا من إقناع إدارة إحداها، ولكن ذلك لم يدم طويلًا، فبعد عام واحد، قالت المديرة لوالدته: «من الصعب أن يكمل ابنك في هذه الروضة، لأن أهالي الطلبة لا يريدون طفلًا مثله في صف أبنائهم»، لتبدأ معاناة أهله من جديد في البحث عن روضة جديدة.
أحد أصعب التحديات التي واجهت المعتصم هو مرحلة الثانوية العامة، وقد اجتازها المعتصم، واستطاع دخول المرحلة الجامعية ليدرس تخصص البرمجيات في جامعة الزرقاء في المملكة الأردنية الهاشمية، كل ذلك من خلال وسيلة تواصل أساسية، ألا وهي الكتابة عبر الأنف من خلال الأجهزة اللوحية التي تعمل عبر اللمس.
كانت الكتابة هي المتنفس الذي استطاع المعتصم من خلاله أن يعبر عما يجول بخاطره، وأن يخرج من حالة العزلة النسبية عن المجتمع التي فرضتها عليه الإعاقة.
لم يكتف المعتصم في هذا السياق بتدوين خواطر شخصية وحسب، بل دخل عالم الكتابة الاحترافية، وألّف كتابه الأول «نظرات ثاقبة»، سرد خلاله قصة حياته، والتحديات والمصاعب التي واجهها، ثم كتب روايتنا «عاشقة صاحب الكرسي»، الرواية التي أراد المعتصم من خلالها أن يصفع المجتمع عدة صفعات، وأن يعيده إلى وعيه بتقبل ذوي الإعاقة.
المعتصم بالله أبو محفوظ
البناء السردي للرواية
تتعدد أصوات السردية بين فصول الرواية، بين صوت الشخصية الرئيسية «سعد» وصوت شقيقته «لينا» وصوت الأم، وصوت حبيبته «وفاء»، في مزيج غير تقليدي من السرد الأدبي.
تتطور أحداث الرواية من خلال حبكة أدبية تدور حول الشخصية الرئيسية «سعد» الذي يريد رغم إعاقته أن يتمتع بحياة طبيعية مثل الآخرين، أن يدرس ويعمل ويحب ويتزوج، مثله مثل أي إنسان آخر.
بين تحديات الدراسة الجامعية، والحياة العملية والاجتماعية، والعواطف ومشاعر الحب التي تدخل القلب دون استئذان، تتقلب حياة بطل الرواية، الذي يتحدى الإعاقة ونظرة المجتمع في آن واحد لكي يحقق ذاته وأحلامه.
لطالما حلم «سعد» أن يكون مثل أقرانه في هذا العالم القاسي، ولكن كان الأمر صعبًا بعض الشيء، لعدم تقبل الناس اختلافه عنهم، لكن علمته الحياة ألا شيء مستحيل، علمته أن يكون رجلًا يتحمل كل ما يصيبه أمام الصعاب، رغم الظروف، فما بعد الألم إلا الأمل، كان يتمنى أن يكون شخصًا عاديًا، يعيش كأي شخص رغم اختلافه، ولكن المجتمع يقف أمامه عائقًا في كل مرحلة من حياته.
محطة البداية في الرواية تبدو في مشهد انتظار «سعد» وعائلته نتيجة الثانوية العامة، ثم تنتقل بنا الأحداث إلى المحطة التالية، حيث دخول سعد الحياة الجامعية، المحطة الثالثة في الرواية تتحدث عن المعاناة من ألم الوحدة، والبحث عن صديق، المحطة التي تليها مباشرًة تتناول الرحلة الصعبة لبناء صداقة لا تقوم على الشعور بالشفقة والأسى، بل على الندية.
تتطور الأحداث بعد ذلك، لتسرد لنا وقائع حياة «سعد» كطالب جامعي، واتساع دائرة علاقاته ونشاطاته الاجتماعية، كأي طالب جامعي شاب في سنه.
خلال أحداث الرواية، يتعرف «سعد» على فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة تُدعى «ياسمين»، تقع «ياسمين» في حب «سعد»، في الوقت الذي كان ينظر الأخير إليها نظرة الأخت، وتتجه مشاعره نحوها على هذا الأساس، وهو ما وضعه في موقف لا يُحسد عليه حينما عرف بحبها له، فخشي أن يجرح شعوره هذا قلبها الرقيق.
رحلة البحث عن الحب
كان الحب بالنسبة لـ «سعد» في البداية كابوسًا، إذ كان يسأل نفسه: كيف سيستطيع البوح إن تعلق قلبه بأي فتاة عادية؟ ولذلك كان الحب بالنسبة له أمرًا بالغ التعقيد، لا أمل فيه، إذ يحول بينهما جسر متهالك لا يعرف كيف سيعبره يومًا ما.
خلال تطور الأحداث، يكتشف «سعد» في ذاته موهبة الكتابة، فيكتب قصة حياته باختصار منذ ولادته، ويرسلها إلى أصدقائه في الكلية «سوسن» و«عامر»، اللذين أعجبا بما يكتب وشجعاه على الاستمرار.
تتطرق الرواية إلى نضال «سعد» الطلابي مع زملائه من أجل الدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، واستجابة إدارة الجامعة لمطالبة، حيث هيّئت الأخيرة مرافق الجامعة، بحيث استطاع «سعد» على كرسيه المتحرك أن يتجول بنهاية المطاف في مختلف أرجاء الجامعة حيثما شاء.
خلال الأحداث تتطور مشاعر «سعد» شيئًا فشيئًا نحو زميلته «وفاء»، التي لم يكن يعرف في البداية حقيقة مشاعرها نحوه، هل مشاعر أخوة وصداقة أم مشاعر شفقة؟ وهو ما جعله يدور في متاهة صامتة، لا يستطيع خلالها البوح بأسئلته خشية أن يخسرها إلى الأبد.
رغم ما كان يتمتع به «سعد» من الصلابة وقوة الإرادة، فإن حبه لوفاء أضعفه وخطف قلبه، وعلق فؤاده بآمال لطالما كان يخشى منها.
يقول «سعد»: «جمعتنا الأقدار لتكوني معي، بجانبي، سندي وكل شيء، حينما قلت لي أحبك، فحبك يعني لي الكثير، فحبك يعني أن نقف بوجه الريح سويًة، أعنى أن نتشارك كل شيء، حتى تلك النظرات التي تتعجب من وجودك معي، نعم ربما أكون أقوى إنسان ولكن أضعفني حبي إياك، ربما يكون الحب أقوى من كل شيء، أحبك لأنك كل شيء، أحبك فوقتي معك سعادة، أحبك فأنت لي حياة ثانية، فكيف لا أحبك وأنتِ التي تعلمت من أجلها كيف أحب».
يخوض «سعد» خلال أحداث الرواية الكثير من التحديات والصعوبات خلال الدراسة والاختبارات، وفي شقه طريقه نحو الحياة العملية، وهي الصعوبات التي يخففها التفاف الكثير من زملائه حوله، واكتسابه الكثير من الأصدقاء الذين أحاطوه بكثير من الحب والدعم.
ونظرًا لتميز «سعد» في لغة البرمجة، وعبقريته في بناء قواعد البيانات، فقد اختارته أثناء الدراسة إحدى الشركات الشهيرة ليتدرب لديها، ويشغل هناك إحدى الوظائف المهمة، ليعمل ويدرس في نفس الوقت، وهو ما حقق له الاستقلال المادي وساعده على تسديد أقساط دراسته الجامعية.
تبقى العقدة الدرامية لروايتنا هي بإيجاز قصة الحب تلك بين «سعد» و«وفاء» زميلته في الجامعة، وهو الحب الذي جعله يستبطن بداخله التساؤلات مرارًا.. هل يمكن له أن يعثر على الحب رغم الإعاقة؟ رغم الضعف؟ رغم العجز؟ رغم ما ألم بحياته من صعوبات؟ رغم نظرات المجتمع؟
أمام تلك الأسئلة الحائرة نترك القارئ في الأخير، ليبحث عن إجابتها بين دفتي الرواية، التي ستروي لنا كيف ستتطور علاقة الحب تلك، وكيف سيكون مصيرها.