الحب في زمن البريكست: كيف نفهم السياسة كعدو للرومانسية؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
«بريكست» هي أزمةٌ لخّصت الكثير من الأزمات الداخلية، فقد فرضت على المجتمع البريطاني، والأوروبي عمومًا، الكثير من الأسئلة التي كانت في كثيرٍ من الأحيان متشعّبةً فيما بينها، عن الهوية والقومية، وهشاشة التماسك الأوروبي، إلى القديم والجديد، والفجوة الجيلية الهائلة التي امتدت إلى الأيدولوجيا والرؤية إلى العالم، إلى السياسي والتشريعي، والتناحر الحزبي وتخبط الرؤى لما سيأتي.
لكن تحدّثنا الكاتبة نيكي سيث-سميث في هذه المقالة عن تجربةٍ وفضاءٍ أكثر شخصية، عن السياسات والتفاصيل البيروقراطية التي قطّعت أوصال العائلات والمحبين، عن قصائد الحب ورواياته التي خنقتها الحدود الشائكة، وعن آمال وتطلعات ومستقبلٍ مشترك ذبلت مع انعدام الأفق، بل صارت أقرب إلى نكتةٍ تراجيديةٍ غير مضحكةٍ ينظر إليها أصحابها أنفسهم بعيونٍ ملؤها السخرية ومرارة الفراق، عن الحبّ في زمن البريكست.
يشهد العالم اليوم أكبر أزمة نزوحٍ في تاريخ البشرية، إذ بلغ عدد المهجّرين حول العالم، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 68.65 مليون إنسان في عالمٍ تعمّق فيه الحدود، التي تزداد قسوتها باستمرار، تشرذمه يومًا بعد يوم. وقد فرضت هذه الحدود المتعاظمة على الكثيرين حول العالم تحديًا شائكًا، يتحوّل في معظم الحالات إلى عذابٍ حقيقي، إذا ما أرادوا إثبات علاقاتهم أمام شبابيك السلطات، والذي يتوقّف في النهاية على نزوات الدول بالاعتراف بشرعية حبّ الزوجين، مهما كان يعني ذلك. وكنت أنا واحدةً ممن قاسوا هذه الرحلة المؤلمة.
كان الصيف الماضي ذكرى جميلة بخطبتي لشريكي اليوناني الجنسية. فرسمنا قرابين حبنا تحت سماء أثينا قبل أن نودّع المدينة لننتقل للعيش إلى لندن. وليتني أستطيع أن أتظاهر بأن بريكست لم يكن عاملًا ألقى بظلاله الداكنة على فقاعة حبنا، فصحيحٌ بأن التزام الحبيبين لبعضهما البعض هو وعدٌ تلتئم فيه روحان في سماء الحب بأنظارٍ ساهمةٍ نحو آفاق السرمدية، ولكن سرعان ما تعيّن علينا الهبوط إلى الأرض، فبين سماء الحب وأرض الواقع كان قرارنا قرارًا واقعيًا. فالطريق الأسهل إلى الأمن والحصول على الاعتراف هو الزواج، ولو أن الاتحاد الأوروبي يعترف بالشراكات المدنية (ينصّ الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان على حق الإنسان في احترام الحياة الخاصة والحياة العائلية ويشمل ذلك من هم مرتبطون خارج الزواج).
نحن نعيش في عالمٍ يهذرب فيه التكنوقراطيون عن الشركات أحادية القرن (أو اليونيكورن وهي الشركات الخاصة التي تتجاوز قيمتها المليار دولار)، والكعكات المجازية (مصطلح الكعكة هو مصطلحٌ استخدم كثيرًا في سياق الحديث عن المحاصصات والتنازعات التي تمسّ صفقة بريكست) في ذات الوقت الذي تسير فيه بريطانيا ببطءٍ ثابت نحو هاوية الانفكاك عن الاتحاد الأوروبي بتاريخ 29 مارس/آذار دون الوصول إلى صفقة.
ولا أحسبني أثق بكلمةٍ واحدةٍ مما قالته الحكومة البريطانية عن صون حقوق 3.5 مواطنٍ من جنسيات الاتحاد الأوروبي يعيشون اليوم على هذه الجزر البائسة، ومنهم طبعًا شريك حياتي. فرئيسة وزراء اليوم هي نفسها وزيرة الداخلية التي قرّرت، بحكمتها العظيمة، أن تسعّر الحب، وعلى وجه الدقة 18.6 ألف جنيهٍ أسترليني سنويًا. فأيّ شخصٍ لا يستطيع جني هذا المبلغ سنويًا لا يحقّ له جلب زوجه الأجنبي إلى البلاد. ولكن إياك أن تجزع، فإن كنت ميسور الحال فبإمكانك أن تدرس، أو أن تكون ربّ منزل، أو أيًّا كان ما تطيب له نفسك، وكل ما تحتاجه هو مبلغٌ زهيدٌ لا يتجاوز 62.5 ألف جنيهٍ إسترليني نقدًا.
ولا يُخيّل لمن ينظر إلى المشهد بأن ما يحصل هو صدمةٌ يستعصي العقل على استيعابها، فذاك الشعور الموجس الذي يضمّ أضلعي بأنني قد أتعرّض لمعاملة مواطنٍ من الدرجة الثانية، وفي بلدي أنا، بأن حقوقي وحقوق شريكي ستتقلّص أو تُسحَب، هذا الخوف قد بات القاعدة لا الاستثناء للسواد الأعظم من السكان.
ولعلك تصرخ علي في هذه اللحظات بأن أستيقظ من سباتي، بأن أنظر من حولي، بأن أعود إلى كتب التاريخ، ولكننا، «نحن»، لم نحسب يومًا بأن يحدث هذا «لنا». فحتى الغربيون بيض البشرة الذين يتمتعون بأبهى الامتيازات تحتّم عليهم، بعد استفتاء بريكست، أن يتصالحوا مع واقعٍ يقضي بأن جنسيتهم لم تعد كافية، أو ربما كافية لهم ولكن ليس لمحبوبيهم. تقهر العاطفة الرومانسية شتى الصعاب، سواءً أكانت العائلة، العرق، الجنسية أو الطبقة، بل حتى اختلاف النوع البيولوجي.
تنتهي جميع قصصنا الرومانسية عن الحب الذي يصمد في وجه أقسى الاختبارات إلى ردم الانقسامات، «روميو وجولييت»، «Little Mermaid» و«Pretty Woman». ففي هذه القصص، تقهر العاطفة الرومانسية شتى الصعاب، سواءً أكانت العائلة، العرق، الجنسية أو الطبقة، بل حتى اختلاف النوع البيولوجي. ولننظر إلى كلمات جولييت الدافئة إلى معشوقها روميو: «وماذا يعني الاسم (يا روميو)؟ فالزهرة رائحتها زكيةٌ مهما كان اسمها». ولا تنظر أبعد من المغناطيس الذي يُزيّن ثلاجتك فستجد على واحدٍ منها، على الأرجح، أحد هذه الاقتباسات التي لا تُعد ولا تحصى. هذه هي، إذن، «قوة الحب»، قدرته على جمع شخصين معًا بالرغم من حواجز المجتمع الاعتباطية، وأيضًا «الحب الأعمى» الذي يزين عيني صاحبه بالبصيرة لرؤية الحقيقة داخل الشخص الآخر.
لقد كانت تلك القدرة دائمًا سياسية، فالحب، عندما ننظر إليه على أنه قوةٌ موحدةٌ لا تتماهى مع أنساق العقل والمنطق، هو تهديدٌ خطيرٌ لأولئك الذين يسعون للحفاظ على الانقسامات بين الديمغرافيات المختلفة. ويمكننا العودة إلى أحد أكثر الأصوات المؤثرة التي تحدثت عن سياسات الحب، وهو جيمس بالدوين الذي تمحورت نتاجاته الأدبية حول صراعاته التي سعى بها لتلمس معنىً للهوية الجنسية والعرقية. فتتطلب مأمورية هدم جدران الذات والمجتمع للوصول إلى محبوبك قوةً لا تُنكر. وبكلماته هو: «ينزع الحب الأقنعة التي نخاف بأننا لا نستطيع العيش بدونها، ونعرف بأنها لا تستطيع أن تعيش داخلنا». ويصف بالدوين الحب بأنه «حالةٌ فاضلة» تشترط «حسًّا قويًا وكونيًا نتلمس به معنىً للسعي والجرأة والنماء».
وكان الزواج من العرق الآخر محظورًا خلال الجملة الأكبر من حياة بالدوين. وليكن مفهومك لهذه المنظومة، أي الزواج، ما يكن، فسيبقى الزواج الآلية الأساسية التي سعت من خلالها المجتمعات إلى الحد من قوة الحب المتوغلة. وجميلٌ أنك تستطيع اليوم أن تتزوج في الولايات المتحدة لأي إنسانٍ مهما كان عرقه، أو جنسيته، أو جنسه، ولكن يجب أن تملك الأوراق الكافية.
تُعرف منظومة الزواج في الولايات المتحدة بأنها «الثغرة الذهبية»، فكان من النادر أن يتم ترحيل المهاجرين غير الموثقين ما داموا متزوجين من مواطنين أمريكيين خلال فترة حكم أوباما، ولكن قلب ترامب الآية، فلم يعد الزواج في أمريكا، وكذلك الأمر في بريطانيا، كافيًا ليضمن لك حق العيش مع زوجك. فيظهر أن الرئيس ترامب لا يتورع عن تقطيع أوصال الأزواج حتى لو أنه تراجع في النهاية عن سياسته المخيفة للتفرقة بين أفراد العائلة الواحدة.
نشرت الواشنطن بوست مؤخرًا فيلمًا قصيرًا يُظهر تداعيات قانون حظر السفر بعد عامين من فرضه على سبعة بلدانٍ مسلمة. ويدور الفيلم حول زوجين هما امرأةٌ أمريكيةٌ ما زالت تكتوي بنار الشوق والانتظار على أمل أن يلتمّ شملها بزوجها الإيراني بعد أكثر من عامين. ويُجيب الفيلم على السؤال «لماذا هو؟» وجوابها هو: «لأن اختلافاتنا يتمم بعضها البعض».
صاغ الفيلسوف مايكل هاردت سياسات حبٍّ تقارن بين ما أسماه «حب المطابق» و«حب الجار» الذي يمكن لمسه ضمن بعض الأنساق القومية والدينية المتعصبة، وبين «حب المختلف» و«حب الغريب». يناهض هاردت منظومة الزواج، «التزاوج البرجوازي والقيود الخانقة التي تفرضها العائلة النووية»، ولكنه، وبنفس المنطق، يمكن أن يكون مناهضًا للقيود المفروضة على زواج المهاجرين أو المغتربين من ذوي الدخل المنخفض واعتراف الدولة بزواجهم. فكلما سرنا أكثر وأكثر على هذا الطريق، وجدنا أنفسنا أسرى ثقافة تزدري «حب المختلف» وتحتفي «بحب المطابق».
ومما هو مؤكد أن هذه لم تكن آخر محاولةٍ لتحطيم التحررات الراديكالية التي تكمن في الحب. فليس من المستغرب أن الأقليات الجندرية كانت من أكثر المجموعات التي عبّرت عن دعمها لجاليات اللاجئين والمهاجرين في أوروبا والولايات المتحدة. فعند هؤلاء، لا يقتصر الأمر على ما يقاسونه على المستوى الشخصي، إذ إنهم يواجهون عقباتٍ قاهرة لإثبات حياتهم وعلاقاتهم بالبلاد التي يقصدونها، بل إن هؤلاء أيضًا يملكون فهمًا صاغته قرونٌ من الخبرة بما يعنيه رفض الدولة أو تجاهلها أو هجومها على اختياراتك لشريكك.
فضبط الحب، حب المهاجرين أو غيرهم ممن يُنظر إليهم على أنهم دخلاء، هو قديم بقدم المجتمع نفسه. وما حصل اليوم هو أن أزمة اللاجئين الحالية قد نجم عنها حالاتٌ جديدةٌ فاحشة. فقد قرر الاتحاد الأوروبي استخدام أجهزةٍ لاكتشاف الكذب تعتمد على الذكاء الاصطناعي في اليونان، ولاتفيا، والمجر في خطوةٍ كلفت 45 مليون يورو.
وتُستخدَم هذه الأجهزة اليوم عند استجواب طالبي اللجوء حول العديد من الأمور، ومنها علاقاتهم، بالرغم من أن هذه التكنولوجيا قد تكون تعتمد على علمٍ زائف. وستستخدم نتائج هذه المقابلات «كبراهين» على الحبّ الحقيقي، إلى جانب شهادات ميلاد الأطفال، وصور الزواج، وحتى منشورات الفيسبوك. وقد تعالت الأصوات التي تنادي بريطانيا باستخدام نفس هذه الآلات في سبيل كف الناس عن «استغلال نظام اللجوء» ورصد «دلائل الخديعة».
وقد تناهت إلى مسامعي قصصٌ مروعةٌ عن شرطة الحب وقت تطوعي في مدرسة لاجئين يُديرها فلسطينيون في قلب أثينا؛ أحدها كان قصة بائعٍ سوري اكتشف بأن زوجته لن تستطيع الانضمام له لأنهما تزوجا على يد شيخ (هناك نسبةٌ لافتةٌ من اللاجئين السوريين الذين تزوجوا دون امتلاكهم لأوراقٍ رسمية). وهناك أيضًا قصةٌ لا يُصدقها العقل عن عامل هجرة قرر بأن عائلةً أفغانيةً-يونانية لا تعيش مع بعضها البعض لأن جرس المنزل لم يُكتب عليه كلا اسميهما (ولم يكلّف نفسه هو أصلاً عناء قرع الجرس).
ولكن يوجد دائمًا قصصٌ جميلةٌ تزهر بعبق الحب، بالرغم من فداحة المأساة، منها قصة المرأة البريطانية التي تدير برنامج التعليم والتي تقع في حب شريكها الفلسطيني خلال تطوعها في مخيمٍ للاجئين. ويحاول هذان المتحابان الآن الانتقال للعيش معًا إما بمطاوعة قانون برنامج رعاية الزوج الذي ينص على السماح لمن يتجاوز دخلهم 18.6 ألف جنيهٍ إسترليني بجلب أزواجهم. ومهما تكن الوجهة التي تسوقهم إليها خيوط القدر، سواءً إلى بريطانيا أو بعيدًا عنها، فلا بد أنهم سيجدون طريقة. فإن أغلقت الحدود في مكانٍ ما، فهناك روابط جديدة تُخلَق كل يوم بين دفق الناس المستمر في أرجاء المعمورة.
عن نفسي، أستطيع أن أزكي الحب على أنه بوابةٌ نحو التفهم والتعاطف الراديكالي. فلم يكن لي أن أتخيل يومًا أنني سأنهمك في سحر أثينا وناسها لولا الرابطة التي تكونت مع شريكي. وأنا ممتنةٌ غاية الامتنان لما منحتنا إياه تلك الأيام، خصوصًا وأنا أنظر اليوم إلى مستقبلٍ تحوم فيه الشكوك في كل زاويةٍ من زواياه.
عندما التقيت بشريكي في ليلةٍ افترشت فيها أرض حديقة فينسبوري ببياض الثلج عام 2014؛ أي في وقتٍ لم يكن فيه استفتاء بريكست أكثر من مجرد أملٍ خافت في عيني نيجيل فاراج، لم يخطر ببالي للحظةٍ واحدةٍ بالمعاني البعيدة التي ستترتب على جواز شريكي. لم أتخيل قط أن الحال سيصل بنا إلى حيث نحن الآن، نقوم بجمع أكوام المعاملات ونحدث باستمرار، وبهوسٍ مخيف، المواقع الإخبارية لنقرأ كل ما تزفه لنا عناوين أخبار أزمة بريكست.
فكيف يُعقل أن يتكهن المرء بما حمله عام 2019؟ فقد ترعرعت على دفء أحلام «بريطانيا الروشة – Cool Britiana» التي وعدتنا بعولمةٍ بلا حدود. فمن ذا الذي ستسوغ له نفسه أن يسرق منا حقنا بالـ «العمل، والاحتفال، والحديث، والتجوال» الذي اشتهرت به فيديوهات حملة «فلنبقى – Remain» التي كانت تهدف إلى حث «جيل الإيزيجيت – EasyJet generation» على التصويت ضد الانفصال من أوروبا. فكان حلم الانفتاح على الآخر هو ما حملته وعود محطة قطار أوروبا والوظائف المشمسة في الخارج. والحب كان يجب أن يبقى دائمًا مجانيًا.
ولكن كان هذا مجرد حلمٍ نُقِعَ بامتيازات بني الجنس الأبيض، وهو نفس الحلم الذي نشعر بأنه يتفلت من أيدينا اليوم «نحن» الغربيين البيض الذي يتعين علينا للمرة الأولى أن نتساءل عمن سيحمي حقوق مواطنتنا وحقوق من أحببنا. لقد اضطررنا لأن نذوق طعم القلق الذي قاساه قبلنا ملياراتٌ من الناس الذين لم يحق لهم يومًا أن يسلّموا بأن هناك من سيحمي حقوقهم. وطبعًا الفرق شاسعٌ بين الحالتين. واليوم، وفي عالم ترامب وبريكست، لا خيار أمامنا سوى أن نتمسك أكثر وأكثر بحبنا.
الحب يقهر الكراهية، الحب يعادي الحدود. هذه الشعارات ما عادت مجرد كلماتٍ مفرغةٍ تذكرنا بوجوب العطف على الغريب من حولنا، أو حق أي زوجين بأن يبقيا معًا بغض النظر عن جوازهم أو إقامتهم. فقد صارت اليوم تجليًا للدافع البشري الكامن في جوهر كل منا بأن تكون أرواحنا جسورًا تردم الانقسامات. ونحن نحتاج، حاجةً ملحةً، لأن نتسلح بهذا الدافع مهما يكن ما يحمله لنا المستقبل.