الحب في أروقة الفلاسفة
لا تقتنع الفلسفة بالوقوف عند الجزئيات بل هي نشاط عقلي يريدُ ربط الظواهر المتفرقة لتقديم رؤية كلية حول الحياة واستخلاص أفكار وتصورات من التجارب التي يمرُ بها الإنسانُ.
لذلك فإن مقاربة الفلاسفة للمعطيات الوجودية تتميز بالعمق والابتعاد عن التبسيط والآنية بل يؤثرون مناقشة القضايا المختلفة على ضوء المفاهيم التي يتوصلون إليها وما هو جوهري وثابت بنظر الفلاسفة السؤال الذي بفضله يحافظ العقل على نشاطه ولا ينزلق إلى مهاوي الركود،لذا لايستثني الفلاسفة تجاربهم الذاتية على المستوى العاطفي من مطارحاتهم الفكرية وبذلك حتى الحب الذي عرفناه بسيطاً مرحاً تُصْبحُ مسألة لاتخلو من التعقيدات في الحقل الفلسفي إذ يتضحُ هذا الأمر أكثر في كتاب (الفلاسفة والحب .الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار) من تأليف الكاتبتين الفرنسيتين ماري لومونييه وأودلانسولان حيث ترجمته إلى لغة الضاد دينا مندور.
تكمن أهمية هذا المُؤَلَف في ربطه بين مذاهب الفلاسفة وسيرورة حياتهم على حد تعبير (آلان باديو)،يتصدرُ الكتابُ مايشبه تمهيداً لعرض تصورات الفلاسفة إذ هناك اهتمام بسؤال الحب في عصرنا والانفصال بين الحب الجسدي والحب العاطفي، مما أسفر عن مكننة الحب وتشوه العاطفة على حد تعبير أدورنو ومن ثم ذكرت المؤلفتان آراء فلاسفة الآخرين حول العلاقة القائمة بين اللذة الحسية والحب ربما أجمل ما ورد في هذا السياق هو تفسير الفيلسوف الألماني (نيتشه)، فالأخير يعتقدُ أن الإشباع الجنسي بالنسبة للعاشقين لايُعدُ شيئًا إنما مجرد رمز وليس أكثر.
هنا موضوع الحب يتم تناوله على المستوى الأشمل ولا يكون قيد التصورات الناتجة عن ردات فعل سريعة وتجارب عاطفية عارضة صحيح أن آراء الفلاسفة التي يضمها الكتاب وليدة لتجاربهم لكن مايميزُ رؤية هؤلاء هو التحفز لتضفير الحب مع موضوعات أخرى مثل مصير الإنسان ودور الحب في الآلام التي يعانيها الكائن الإنساني، هل يصحُ تجاهل نداءات الحب خوفاً مما تنطوي عليه التجربة العاطفية من العذاب وإذا نظرنا إلى الأمور من هذا المنطلق فهل يوجد فرق ُذكرُ بيننا وبين الأحجار والأموات التي تحظى بالراحة والسكون على حد قول مونيك ديسكو.
يكشف لك هذا الكتاب عن اتجاهين أحدهما يزهدُ أصحابهُ عن تذوق الحب لاسيما الحسي أو ينسف الجسر الموصول إلى تتويج التجربة بالعلاقة الدائمة مثل كيكجارد فهو فضل فكره الذي بمثابة روحته وحياته على حبيبته ريجيبن يتداخل لدى الفيلسوف الدنماركي الحبُ مع قضايا عقائدية ويتأثر في قراراته بهذا الشأن بما ورد في نصوص دينية عن تضحية النبي إبراهيم بابنه،كما أن كانط أيضاً سجل حياته، يكاد يكونُ خالياً من العلاقات العاطفية، بحيث جديرُ أن يوصف بالفيلسوف الناسك إذ تعتبر الحياة الجنسية لصاحب نقد العقل الخالص من أخطر المسائل الميتافيزيقية في الغرب، ويعللُ كانط بقاءه عازباً بأنه حين احتاج إلى المرأة لم يمتلك ما يطعمها وحين امتلك المال لم يعد يشعر بالحاجة إلى المرأة بخلاف هذا الاتجاه ثمة من كانت المرأة حاضرةً بقوة في حياته حيث تعددت تجاربه وأقام شبكة من علاقات عاطفية خارج مؤسسة الزواج، إذ يُمثلُ مارتن هاديغر نموذج الفيلسوف التائق لارتياد قلب العالم النابض عبر الحب على حد تعبير عشيقته حنة أرندت.
بين هذا وذاك يوجدُ من ظلَّ موقفه ملتبساً حيال المرأة والحب،لعل الفيلسوف المُتشائم آرثر شوبنهاور يكونُ أبرز مثال بسلوكياته المتناقضة عن عدم الوضوح والضبابية في علاقته بالمرأة فهو من جهة يحملُ الأنثى مسؤولية استمرارية حياة خالية من المعنى ويعتبرُ الحب ليس إلا فخاً ومن جهة أُخرى لم يزهدْ من إقامة علاقات حميمية مع أكثر من امرأة. بجانب ذكر أطروحة نخبة من الفلاسفة المُحدثين عن الحب يلتفت هذا الكتابُ إلى ما دار حول الموضوع نفسه لدى فلاسفة الإغريق من النقاشات، هنا يُشير إلى رأي أرستوفان، فبنظر الأخير كان الذكر والأُنثى متحدين في كيان واحد، وبما أن ذلك يشكل مصدر خطر على الآلهة لذا عاقب زيوس على الجنسين بالانفصال، فبالتالي يولدُ إيروس من الشعور بالحاجة إلى النصف الآخر.
ويُعدُ إيروس إلهًا عظيماً لم يسبقه إلا العدم حسبما ورد ذكره في الميثولوجيا اليونانية، الأكثر من ذلك تحدثت مؤلفتا «الفلاسفة والحب» عن اقتران الجمال بالحب عند إفلاطون، وازدراء صاحب الجمهورية للحب الجسدي، واصفاً إياه بأنه المرحلة الأولى في رحلة الإنسان نحو عالمه الروحاني، وفي هذا الإطار يتم ذكر علاقة سقراط بزوجته كسانتيب التي ألقت بدلو الماء على زوجها، ولم يسعَ سقراط إلا أن يقولَ «كم من مطر خفيف غلب رياحًا عاتية» يعتقدُ الفيلسوف الألماني نيتشه أن سقراط ما كان سيصبح أكبر مُجادل في أثينا لولا مناكدات زوجته.
تختارُ صاحبتا الكتاب في لوكريس لدى الرومان قبل الانتقال إلى العصر الوسيط وإفراد فصل كامل لرؤية مونتاني عن الحب،يرى الشاعر الروماني لوكريس 55ق.م أنَّ الحب لا ينفصلُ عن عذابات أبدية إذ تجسدُ أسطورة تتالوس مثالاً واضحاً عن المعاناة الناجمة من الحب مُضيفاً أن «تجنب من شرك الحب أهون من الوقوع فيه» كما يقدم حلاً لتخفيف من حدة آلام الحب بـ«محو الجراح القديمة بندوب جديدة» والبحث عن الحب الجديد لنسيان متعة قديمة،ولا يختلفُ تصور الشاعر الإيطالي تيشزاري بافيزي عن رأي لوكريس، حيث يعتقد الأول أن الحب سبب للانتحار كون الحب يكشفُ عري الإنسان وبؤسه، ويظهره أعزل وسط العدم، وهذا ماحدا به فعلاً لأن ينتحرَ، ويصبح إحدى ضحايا الحب.
إذا انصرفنا إلى مونتاني المبدع في كتابه فن المقالة والدبلوماسي المحنك نلاحظ أنه أكثر اهتمامًا بالإيروتيكية، إذ نشأ مونتاني محروماً من حنان الأم؛ مما جعله غير مستقر في علاقاته العاطفية، فهو بدلاً من أن يتباهى بالفروسية والخيل كمعظم أبناء عصره، فضل أن يكون منكباً على تفاصيل العلاقات الحميمية، يتسلسل الحديث عن الفلاسفة إلى أن تتوقف عند جان جاك رسو الذي يقول في كتابه «إميل» إن ممارسة العلاقات الحسية دون وجود الحب ليست إلا نوعاً من العبودية، واعترف في الوقت نفسه بأن الحب لا يكون دون العذاب والآلام،وفي الفصل المخصص لروسو يتم التطرق إلى رأي لاروشفكو الذي يفسرُ تفسيراً اجتماعياً لظاهرة الحب، مشيراً إلى أن هناك أناساً ما كانوا ليصبحوا عشاقاً أبدًا لولا أن سمعوا من يتكلم عن العشق.
هكذا يتجول بك الكتاب في ثنايا أفكار الفلاسفة إلى أن يختم بقصة العلاقة الاستثنائية بين سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر، فالأخير يعتقدُ بأن الحب هو أن تمتلك العالم من خلال امرأة، يُذكر حاله كحال هاديجر كانت له علاقات نسائية متعددة تأتي يتفردُ هذا الكتاب في عرضه لوجه آخر للفلاسفة بحيث يصحح لك بعض تصورات نمطية عن فيلسوف مثل نيتشه الذي لم يكن معادياً للمرأة بقد ما أراد امرأة تكون ندا له في صرامة الفكر وتقديس الحياة،كذلك بالنسبة لكيكجارد الذي عاش حياة متصوفة باحثاً عن لذة أبدية لأن الحب الحسي، كما قال مثل الموسيقى التي ليس لها أثر إلا في حالة العزف. يحق أن نتساءل بعد معرفة كل هذه المواقف المتضاربة هل يصح أن نمشي في درب الفلاسفة في البحث عن الحب أو نكتفي بالترديد مع أندريه بريتون بأن الحب هو الحل الوحيد أو نتبنى ما قاله نزار قباني بأنه «لاغالب إلا الحب»؟