«الحب والقناع»: كيف انتصر «نجيب محفوظ» للحرية؟
قصة «الحب والقناع» هي إحدى قصص المجموعة القصصية «الشيطان يعظ»، التي نُشِرت عام 1979 للكاتب والروائي العالمي نجيب محفوظ. وتحمل هذه القصة في طياتها مزيجًا من الصراع النفسي والتحليل السياسي والتفلسف الديني، ولقد رُوي أن السيناريست «حسن المملوك» أعد السيناريو والحوار لتلك القصة كي تتحول إلى مسلسل تلفزيوني اشتراه منه الممثل القدير «شكري سرحان» كي ينتجه لحساب قطاع الإنتاج كمنتج منفذ؛ ولكن رقابة التلفزيون لم توافق عليه آنذاك.
وفي الفترة من عام 1973 وحتى عام 1980 نشر نجيب محفوظ بعدما تخطى سن المعاش ثلاثية عن الحب تحولت جميعها إلى أفلام سينمائية هي: رواية «الحب تحت المطر»، وقصة «الحب فوق هضبة الهرم»، ورواية «عصر الحب».
ومن الملاحظ أن التأثير السياسي والاجتماعي كانا واضحيْن في رواية «الحب تحت المطر» وفي قصة «الحب فوق هضبة الهرم»، أمّا رواية «عصر الحب» فقد كانت تتمحور حول تعلق الإنسان بوهم الحب، وكيف يمكن أن تتحول تلك العاطفة –إذا كانت من طرفٍ واحد– إلى قيد يأسر حركة صاحبه، فتنفلت أيامه من بين يديه دون أن يشعر ثم يسوء مصيره، وكذلك قصة (الحب والقناع)، طرح فيها الأديب العالمي نجيب محفوظ مفهوم الحرية من خلال تحليل مكنون النفس البشرية في إطار عاطفة الحب، وكيف يمكن أن تكون الحرية هي الحياة حتى لو تمت التضحية بالحب الذي يمنح قدرًا من السعادة.
من الجائز أن يوفر الكذب للحب بيئةً ينمو فيها؛ ولكن نموه هذا لا يمكن أن يستمر من وراء قناع، فلا كذب مع الحب ولا خداع مع العشق بل هي الحقيقة التي حتمًا ستنجلي مهما توارت وأُخفيَت. ولأن (لبيب) صار محبًّا حقًّا فلم يعد بإمكانه الاستمرار في خداعه لمحبوبته (فتحية)، وإذا كانت هي تحبه حقًّا فستسامحه؛ ولكن ماذا سيجدي التسامح مع منْ لا يعزم على التوبة وعدم العودة للخطأ؟! إنها مجرد فرص يمنحها المحبون وقد يندمون عليها بعد ذلك إذا خذلهم من يحبونهم في كل مرة يخطئون فيها ويؤذونهم.
إن فلسفة الأديب نجيب محفوظ في الحب والحرية تنجلي في تلك القصة من خلال تعمقه في سرد أبعاد المعاناة النفسية التي يمر بها بطل القصة، الذي كان حبه من طرفٍ واحد بينما كانت محبوبته تحب شخصًا آخر، فكيف تمكّن من الحصول على موافقتها للارتباط به؟! وكيف تسلّل الرضا إلى قلبها مقتلعًا ذكريات حبها الأول إلى أن صارت بالية؟! بل لقد نجح (لبيب) في ما هو أكثر من ذلك إذ تولّدت بينهما ألفة حارة وتعارف حميم حتى إنها أعربت له صراحة عن شعورها بالأمان الكامل معه!
لقد امتلأ وجدان (لبيب) بالحب الممزوج بالعناد شأنه شأن أي صيَّاد شرس يأبى فرار فريسته من بين أنيابه، فهو وفقًا لما يكمن في أعماق كل صياد لا يحب فريسته بقدر ما يعشق ذاته ويهوى انتصارها في كل معاركها، وفي سبيل ذلك قد يرتكب الموبقات ويتجرأ على كل القيود، أمّا وفقًا لمنطق الأسير المذنب الذي يسعى إلى التحرر من ذنوبه بعد ارتكابها فلا بأس أن يضحي بكل شيء سعى إليه من قبل، وذلك في سبيل شعوره بالراحة والسلام النفسي.
ورغم تسيب (لبيب) واستهتاره لم تجذبه الفتيات العاريات، بل أصر على الارتباط بتلك الفتاة المحتشمة والملتزمة، التي طالما أرهقت صلابتها قلبه حتى بات من فرط عشقه لها، مستعدًّا لفعل أي شيء من أجل الاقتراب منها. إنها شخصية قوية بينما هو يشعر بضعف شخصيته، التي كانت نتاج تسلط والده وقسوته عليه من أجل أن يصنع من ابنه الوحيد نسخة طبق الأصل منه؛ لذلك كان حب (لبيب) لتلك الفتاة ممزوجًا بالرغبة في الامتلاك حتى لو كان عنوة وقهرًا. فلما رفضت (فتحية) الارتباط به في بادئ الأمر لم يكن سهلًا عليه أن يتقبل ذلك الرفض برضا واستسلام؛ لذلك حاول قهرها للتنفيس عمّا يعانيه من قهر فشل في مقاومته أو التمرد عليه.
وكأن الروائي نجيب محفوظ أراد في هذه القصة أن يكشف القناع عن مكنون النفس البشرية المرتكبة للجرائم والآثام والذنوب؛ ومن ثَمَّ يُسلِّط الضوء على السبب الحقيقي وراء غالبية الجرائم التي يضج بها المجتمع، التي ليست في النهاية سوى ذلك التنفيس المحتوم عن بعض الغضب الكامن في الأعماق، الذي تُولد نتيجة القهر الأسري والقمع المجتمعي والتغييب السياسي. فشأن المجتمعات المقهورة أن تظل تعاني من عواقب بطش كل متسلط وفداحة جبروته، وأديبنا نجيب محفوظ كان يمتاز ببراعته في سبر أغوار مجتمع الفتوات الذي استطاع أن يُنقِّب في دهاليزه الخفية من خلال عديد من أعماله الأدبية والروائية.
لقد كان (لبيب) يراهن على حب (فتحية) له، وبالفعل أحبته بعد زواجها منه على الرغم من عدم إفصاحها له عن حبها صراحة؛ ولكن همسات الفؤاد الخفية لا تغيب عن الوجدان اليقظ! فهل الحب قادر على أن يغير من صاحبه؟ إن (لبيب) يعلم كم المتناقضات التي تحويها نفسه وتربض في أعماقه، فهل من السهل أن يتغير بدافع الحب أو أن يَظهر بوجهه الحقيقي الذي يخفيه عن زوجته التي يحبها، خصوصًا بعدما استطاع أن يوقعها في شَرَك حبه؟
لقد كانت (فتحية) فتاة عقلانية ومع ذلك كانت عاطفية وتخفي أنوثة طاغية طالما طمع (لبيب) في أن ينهل من ينبوعها. ولم يكن التزام (فتحية) الأخلاقي التزامًا ظاهريًّا بلا أي روح بل كان نابعًا من أعماقها ونتيجة طبيعية لصدق إيمانها، فكيف له أن يعاشرها وهو معتاد على ارتكاب الموبقات ويميل إلى الإلحاد أكثر من الميل إلى الإيمان الذي يتطلب الطاعة والالتزام؟!
إن صورة الوجود تكمل بالدين والعلم معًا فيطمئن القلب وتتزين النفس بالسكينة، هكذا كانت تعتقد (فتحية)، التي كانت تجمع بين العقل والعاطفة معًا؛ ولكنها كانت تبدو أحيانًا لزوجها (لبيب) كأنها رجل أو إمام مسجد من فرط صرامتها التي تذكره بصرامة وحِدَّة والده. ومع ذلك كانت أيضًا تبهره بأنوثتها في خلوتهما معًا، ولذلك وجد مبتغاه في معاشرتها؛ ولكنه للأسف لم يجد ما يستهويه في ما وراء ذلك!
لقد نجح (لبيب) في تحويل حبيبته عن الوفاء لذكرى حبيبها الأول (يسري)، بل إنها الآن يُقلقها تأخر حملها من زوجها بعدما أضحى حبيبها الحالي. وعلى الرغم من علم (لبيب) أن حب زوجته لغريمه (يسري) لن يتكرر، فإنه في النهاية قد فاز بها وانتصر عليه، فقد كان ذلك الحب بالنسبة إليه هو طوق النجاة من وحشة الخواء وفقد أي معنى للحياة؛ ولكنها هي أيضًا المرأة الصادقة التي تحب بروحها وجسدها معًا، فتُرى كيف سيكون رد فعلها إذا كشف النقاب عن وجهه الحقيقي أمامها وعرَّفها على الشخص الحقيقي الذي تجهله؟ هل ستكره ذلك الشخص الوهمي الذي خدعها حتى أحبته؟!
لقد شرعت (فتحية) بالفعل في تغيير(لبيب) فإذا بها تدفعه دفعًا إلى العمل بعدما أدمن البطالة والاسترخاء، كما إنها في طريقها لحثه على المواظبة على الصلاة، فهل بإمكانه التظاهر بالعمل مثلما كان يتظاهر بالصوم؟! لقد كان متوجسًا من قوتها وقدرتها على تغيير باطنه مثلما تحاول بإصرار تغيير ظاهره، فهل يجازف ويقتل ذلك الممثل بعد كل هذا المجهود الذي بذله كي يكون مقنعًا فيخدعها وتصدقه؟ إنه بالفعل صادق في حبه لها ولكن ما جمعهما كان قائمًا على الكذب! فهي تُصدِّق الممثل ولا تدري شيئًا عن وجهه الأصلي الذي حتمًا ستتعرف عليه.
لقد كان (لبيب) يكابد العودة للانقياد والطاعة ويخشى التقهقر أمام أي تسلط جديد أو جبروت عتيد، والآن هل هناك أمامه ما هو أعتى من تسلط الحب أو من جبروته الذي بات يبذل قصارى جهده من أجل مغالبته؟!
ولمَ لا يستمر (لبيب) في التمثيل ببراعة ما دام الجميع ممثلين؟! وهل كون (فتحية) جميلة وصادقة كافٍ كي تستحق أن تحيا مع من هو جميل وصادق مثلها؟! وكيف يمكن لشخص مثل (لبيب) أن يكون صادقًا؟ والصدق إنما يحث عليه الإيمان؛ فالمؤمن وحده هو منْ يعيش بوجه واحد، والحر وحده هو منْ يُقبِل على الإيمان وعلى الصدق طواعية ودون قهر. وإذا كان الكذب لا يعيش صاحبه إلَّا في قلق مستمر، فإن الصدق يتطلب من الجرأة والشجاعة ما يليق بالأحرار، فهل حقًّا الحرية تستحق أن يغامر (لبيب) من أجلها بالحياة ذاتها؟! وهل بإمكان الحرية والصدق أن يمنحا وحدهما السعادة والاطمئنان في ظل التضحية بالحب؟!
لقد قرّر (لبيب) في النهاية أن يكتب بيده السطر الأخير في قصته مع (فتحية)، وذلك فور أن عزم على التخلي عن القناع الذي كان يختفي وراءه، فأخبر زوجته ببشاعة فعلته الحقيرة قبل موافقتها على الزواج منه، وذلك عندما انقض عليها في تلك الليلة المظلمة كي يفترس جسدها متعجلًا إشباع شهوته ومفصحًا عن مدى خسته وندالته. فهل كان لصدق (فتحية) ذلك الأثر البالغ على (لبيب) بعدما اقترب منها وكادت تكون خليلته التي تارة يسكن إليها فيهنأ بجوارها، وتارة أخرى ينفر من اقترابه منها لشعوره بالضآلة والحقارة أمام هيبتها النابعة من صدقها وعفتها؟! أم إنه قد نال مراده منها فلم يعد لديه ما يدفعه للاستمرار في خديعتها؟!
وعلى الرغم من معاناة (لبيب) من الجدب والوحدة وتجرعه ويلات الحزن والأسى فإنه تحرَّر من القيود التي فرضها عليه تمثيله لشخصية غير شخصيته، فانتهى بذلك عذابه الناتج عن تأنيب ضميره له –ولو للحظات قليلة كل يوم. ولذلك فهو لن يندم على صدقه، ولن يأسف على فداحة ثمن حريته.
فهل كل كاذب ومخادع وكل بارع في ارتداء الأقنعة التي تمكنه من خداع الآخرين من الممكن أن يتحلى بهذا القدر من الشجاعة أو تلك الجرأة التي تشبث بها (لبيب) في اللحظة التي استيقظ فيها ضميره من غفوته؟ أم إن الأرض ستظل تعج بالكاذبين والمخادعين دون أي رغبة لديهم في التطهر من الذنوب والخطايا، أو أي ميل يجذبهم إلى التحرر من أسر الفواحش وأغلال الشهوات؟!
إنه لا مناص من الانتصار للحرية إذا كانت هناك رغبة حقيقية في اقتناص معنى ما للحياة. وكما أنه لا حياة من دون حرية، فلن تكون هناك حرية من دون تضحيات، ولن يمنح الحب السعادة إذا خلا من الاطمئنان والسكينة والصدق.