بعد نحو 45 عامًا من وفاته لا يزال الحديث عن عميد الأدب العربي «طه حسين» حديثًا شيقًا وذا شجون، وما زلنا بحاجة ماسّة للبحث والتنقيب في أعماله الأدبية الكثيرة، خاصة تلك التي لم يلق عليها الضوء بشكل كبير، ولم تحظ بجماهيرية أعماله المعروفة مثل «الأيام» أو دراساته النقدية الرائدة مثل «في الشعر الجاهلي» أو حتى دراساته التاريخية مثل «على هامش السيرة» وغيرها من المؤلفات. من هذه الأعمال مجموعة قصصيّة حملت اسم «الحب الضائع» التي صدرت أواخر عام 1943، وتحتوي على ثماني قصص أطولها وأشهرها «الحب الضائع» كما نجد فيها قصة تحمل عنوان «الحب المكره».

تنبع أهمية هاتين القصتين من أنهما يطرحان بشكلٍ واضح نموذجًا للمرأة الغربية كما يراها «طه حسين»، ومن المعروف أن «طه حسين» تعرّف في سنوات صباه وشبابه على نماذج عديدة للمرأة المصرية، واستطاع أن يعبر عنهم ويتناول شخصياتهم بشكلٍ دقيق، سواء كانوا من الجيل القديم في صعيد مصر، أو نساء أحياء القاهرة القديمة، وكنّا نجد أثر ذلك واضحًا في رواياته «الأيام»، و«شجرة البؤس»، وحتى «المعذبون في الأرض»، وكان يغلب على تلك الروايات نموذج المرأة المستسلمة القانعة بدورها الاجتماعي المحدد لها سلفًا، نجد ذلك في «الأيام» في تلك الأم التي تساهم في تربية ابنها الكفيف وتتراوح علاقتها به بين الحنان والقسوة، ولكن الفتى يكبر ويصبح شابًا ويسافر إلى «باريس» فيتعرّف هناك على نماذج مختلفة للمرأة التي تحاول أن يكون لها دورٌ المجتمع ويكون لها صوت يوازي ويقارب صوت الرجل فيتأثر بها ويسعى للتعبير عن حالها.

لذلك جاءت هذه النماذج المختلفة التي عرضها في قصتي «الحب الضائع»، و«الحب المكره» لتعبِّر أصدق تعبير عن رؤيته لذلك النموذج الغربي الذي لم يقف منه موقف الدائن أو القاضي الذي يحاكم تصرفات البطلة أو يدينها، بل استطاع أن ينفذ وعبر قصة وسرد متماسك إلى أغوار شخصيته النفسية ويتحدث بلسانها وكأنما هي الغربية الغريبة عنه التي تتحدث بلسانها.

في «الحب الضائع» نحن أمام نموذج للمرأة الشابة المثقفة «مدلين» التي نبدأ معها حكايتها من تلك المذكرات التي تفضي بها إلى كتابها فتفشي له أسرارها وتحكي له كل شؤونها، وهي منذ البداية كاتبة ملمّة بقدرٍ لا بأس به من الفلسفة إذ تتحدث عن كون الفرنسيين مولعين طوال حياتهم بأمور التعليل والتحليل شأنهم في ذلك شأن فيلسوفهم الأكبر «ديكارت»، وهي إذ تحكي لدفترها حكايتها وترصد يومياتها أثناء فترة شبابها حتى زواجها إذ بها تريد أن تقف من ذلك كله على أكثر موقفٍ مؤثر في حكايتها تلك، وهو أمر خيانة صديقتها لها وكيف وقعت في حب زوجها!

وجدت في هذا الكتاب قصة نفسين قد لقيتا من قوة الإرادة وضعف الغريزة أشد العذاب، وكانت نفس لورنس أقواهما وأمضاهما وأشدهما احتمالًا وأقدرهما على المقاومة. فهي قد أحست عطف مكسيم عليها ورعايته لها، ثم أحست تحول هذا العطف والرعاية إلى شيء من الحب والحنان، ثم أحست قوة هذا الحب وشدة هذا الحنان فتلقت هذا كله لقاءً حسنًا نقيٍّا. ولكن حب مكسيم ألح عليها وجعل يتتبعها ويقفو آثارها، ثم جعل يمسها مسٍّا رفيقًا، ثم جعل يحيط بها ويغمرها، وهي تقاومه وتدافعه وتحاول النجاة منه كما يحاول الغريق أن ينجو من الماء الذي يطغى عليه، وقد نجحت مقاومتها مرة ومرة، وأفلتت من شباك الحب تلك التي كان ينصبها لها مكسيم، وكانت تنصبها هي لنفسها، ولكن مكسيم غلا في الإلحاح، وأسرف في التتبع، وظهر من أمرها على ما كانت تخفي، واستيقن أنها تلقى حبه بحب مثله.

ربما كان من الممكن عرض الحكاية على هذا النحو من الإيجاز، ثمّة قصة «خيانة» بين طرفين، زوجة مكلومة وزوج مفرطٍ ومستهتر، ولكن الكاتب أراد أن يعرض الحكاية بطريقة مختلفة، ولذا كان الأمر من البداية باللجوء إلى حياتها بالتفصيل في مذكراتها، حيث يلجأ المرء في هذا الطقس من الكتابة الاعترافية إلى الإفاضة في الحديث وعرض تفاصيل كثيرة توضح أثر كل حددثٍ وكل موقف على نفسه أولاً، وهو ما نجح فيه «طه حسين» هنا إلى حدٍ كبير، ولكن المشكلة تتبدى حينما يكون عرض هذه الشخصية وتلك التفاصيل على حساب تفاصيل أخرى وشخصيات معروضة بشكلٍ عابر في الرواية، لا يفهم القارئ تصرفاتهم ولا الدوافع التي جعلتهم يسلكون ذلك السلوك، رغم إدراكهم ويقينهم بفداحة ما يفعلون وعواقب ذلك التصرف المشين على الأسرة الصغيرة التي لا تزال في طور التشكل!

هكذا كان التركيز الشديد على البطلة/الضحية التي تفصل في طبيعتها التي نشأت عليها وطريقة تربيتها، وتفاصيل علائلتها وحياتهم في قرية قرب باريس العاصمة، واشتراك أخويها في الحرب وما مر على تلك العائلة من مصاعب وما عاشته من آلام، حتى يأتي أمر زواجها وعلاقتها بزوجها «مكسيم» التي بدت فيها بوادر الحب رغم أنه كان من اختيار العائلة.

وإذا انتقلنا إلى قصة «الحب المكره» نجد حكاية أخرى من خلال طبقة اجتماعية مختلفة، فهنا نحن مع الخادمة الفرنسية «ليونتين» ولكنها ليست كما اعتدنا عليه من خادمات، يبالغ في وصفها ومدح طريقة تعاملها مع الحياة وتقبلها لأقدارها الصعبة والغريبة، التي قادتها إلى الزواج من رجلِ يفرض نفسه عليها ويتوجها رغم أنها لا تحبه!

والقارئ يلحظ الفارق بين طريقة عرض الشخصيتين وحديث «طه حسين» عن كل واحدةٍ منهما، وكيف بدا اهتمامه أكبر بالأولى، إذ أفرد لها أكثر من مائة صفحة وحكى بالتفصيل مشاعرها وموقفها وآلامها، ليجعل القارئ متعاطفًا معها كل التعاطف، في حين اقتصر الأمر مع الأخرى على العشر صفحات، عرض فيها موقفها وحكايتها بقدرٍ كبير من الإيجاز والتركيز.

هي تحب باريس وتريد أن تعيش فيها، ولكن زوجها يحب بريتانيا ويريد أن يعود إليها، وسيشتري فيها دارًا يشرف منها على المحيط، وهي مضطرة إلى أن تتبعه لأنها تخافه في باريس كما كانت تخافه في بريتانيا. وهي لا تكره أن تنفق ما بقي لها من الحياة بين هذين العدوين؛ عدوها الذي يمنحها السعادة لحظات من حين إلى حين، وعدوها الذي يدخر لها الموت إن خالفت قوانين الحب والوفاء للزوج. وكانت مدام ليونتين وهي تلقي إليَّ أحاديثها هذه تفلسف في سذاجة حلوة فتسأل: كيف توجد السعادة في غير شقاء؟ وتسخر من هؤلاء الذين لا يرضون عن الحياة إلا أن تكون حرة طلقة، وتسأل: أحق أن الحرية تكفل السعادة للناس، وأن الاستبداد لا يعقب الناس إلا شقاءً؟

هكذا يعرض «طه حسين» النموذجين المختلفين بعيدي الشبه، ولكننا نجد أنهما شديدا الشبه والقرب لنموذج المرأة الشرقية ومواقفها وأحوالها، فلم تكن الثقافة والعلم والرفاهية حائلاً أو مانعًا عن أن تقع «مدلين» في براثن تلك الخيانة التي دمّرت ما كان في حياتها من راحة وسعادة، كما رأينا نموذجًا آخر للخادمة التي ترضى بحالها وتستلم لقضائها وقدرها.

وكأن «طه حسين» أراد أن ينقل هذه النماذج وتلك الصور، بل ويبالغ في التعبير عنها بصدقٍ وشفافية، إذ يستخدم طريقة «المذكرات» في حكاية الأولى، وطريقة الحكاية المباشرة في القصة الثانية، ليوحي بل ويؤكد للمرأة المصرية والشرقية أن هذه الهموم التي تحملها، وتلك المشكلات التي تواجها وتتعرض لها في مجتمعها إنما هي مشاكل إنسانية عامة تتعرض لها المرأة شرقًا وغربًا بغير فرق ولا اختلاف.