منذ بداية الحضارة الإنسانية، انحدر عدد الأشجار بنسبة 46%، والآن يفقد كوكب الأرض كل عام ما يفوق الـ 15 مليار شجرة
ت. و. كراوثر- ناتشر

بالنسبة للبشر، كانت الغابات بمثابة كنز لا يمكن تجنب إغوائه: تربة خصبة للزارعة، أخشاب للبناء والوقود، أرض غنية بالمعادن الثمينة، ومصدر يغذي صناعة تساوي بلايين الدولارات، إلا أن بريق هذا الكنز قد أعمى أعيننا عن حقيقة أننا لا نعطي فرصة للطبيعة الأم أن تجدد مواردها، وأننا قد تغلغلنا في الغابات إلى حد بعيد يقودها إلى حافة الزوال.

الوضع الحالي لغابات العالم

حسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة، فإن معدل إزالة الغابات السنوي يقدر بـ 13 مليون هكتار في العقد منذ بداية الألفينات، والعبء الأكبر يقع على عاتق الغابات الاستوائية في أمريكا اللاتينية، أفريقيا وجنوب شرق آسيا. ومن بين تلك، تعد الغابات المطيرة «الأولية» نظامًا بيئيًا بالغ الأهمية، حيث تحتوي على أشجار يبلغ عمرها مئات أو آلاف السنين. وبمجرد قطع هذه الغابات، فإنها قد لا تعود إلى حالتها الأصلية.

وقد شهدت الأعوام الأخيرة انحدارًا في هذا النوع من الغابات، ففي عام 2017، فقدت المناطق الاستوائية ككل مساحة تبلغ 15.8 مليون هكتار، أي ما يعادل فقدان 40 ملعبًا لكرة القدم من الأشجار كل دقيقة لمدة عام كامل.

رسم بياني يوضح مقدار فقدان الغابات الأولية عالمياً بالهكتار من 2002- 2018

وفي عام 2018، اختفت مساحة تعادل دولة بلجيكا من الغابات الأولية وحدها، وعلى الرغم من أن الخسائر كانت أقل مما كانت عليه في عامي 2016 و 2017، عندما أدت الظروف الجافة إلى نيران كبيرة، فإن متوسط الثلاث سنوات لا يزال الأكبر منذ بدء السجلات في 2002. فما الذي يدفع مؤشرات الخسارة إلى الأعلى؟

توغل بلا حدود

حسب دراسة نشرت في دورية ساينس في سبتمبر العام الماضي 2018، فإن ما يقود 27% من إجمالي خسائر الغابات- أي ما يعادل ربع مساحة الهند- هو سوق السلع الاستهلاكية وعلى رأسها اللحم وزيت النخيل والصويا والذهب، وفي المرتبة الثانية تأتي الحراجة الزراعية (إدارة الغابات) مسهمة بـ 26% من الخسائر، يليها حرائق الغابات والزراعة المتنقلة بنسبة 23% و 24% على التوالي.

خريطة توضح الأسباب وراء فقدان الغطاء الشجري بالإقليم بين عامي 2001 و 2015

ففي البرازيل، نجد أن مساحة الأراضي المزروعة للمحاصيل الصفية قد تضاعفت تقريبًا بين عامي 2000 و 2014، وفقًا لبحث من جامعة ماريلاند. وعادة ما تقام الأراضي الزراعية على مرحلتين: حيث يقوم مضاربو الأراضي بقطع أشجار الغابات وبيع أخشابها وتحويلها إلى مراعٍ لتربية المواشي، وبعدها بأعوام قليلة يتم بيعها لمنتجي الصويا بأسعار أعلى بكثير.

لكن في الحقيقة، لا تحتاج البرازيل إلى إزالة الغابات من أجل زيادة إنتاجها الزراعي، حيث تقول ريبيرو، باحثة بمعهد أمازون لبحوث البيئة، إلى Mongabay: «تعد الماشية وفول الصويا مهمين للغاية بالنسبة للاقتصاد، لكن المناطق الزراعية التي تم إخلاؤها بالفعل لديها الكثير من الإمكانيات لإنتاجٍ أكثر كثافة».

وفي أفريقيا، سجلت غانا وساحل العاج أكبر نسبة ارتفاع في تدمير الغابات الأولية لعام 2018، مدفوعة بالتعدين وزراعة الكاكاو. وفي حوض الكونغو، تمثل الزراعة صغيرة النطاق القوة المهيمنة خلف أكثر من 80% من إجمالي خسائر الغابات في المنطقة. لك أن تتخيل أن واحدة من أكبر الغابات المطيرة في العالم فقدت مساحة أكبر من بنغلاديش في غضون 15 عامًا، وذلك بواسطة مزارعين يحاولون أن يكفوا أنفسهم بأدوات بسيطة لا تتعدى الفأس في تعقيدها.

أما في جنوب شرق آسيا، يلمع منتج آخر يدخل في صناعة نصف المنتجات التي نستخدمها بشكل يومي
تقريبًا من عجين البيتزا والسمن والآيس كريم إلى الصابون وأحمر الشفاه، ألا وهو زيت النخيل.
تُنتج المزارع الصناعية في إندونيسيا وماليزيا وبابوا غينيا الجديدة وحدها حوالي 85% من الزيت المتاح عالميًا. ولمجاراة استهلاكُه النهم خلال العقود الأربعة الماضية، نمت المساحة الكلية المزروعة بأشجار النخيل في إندونيسيا حوالي 30 ضعفًا إلى أكثر من ثلاثة ملايين هكتار، بينما ازدادت زراعته في ماليزيا 12 ضعفًا إلى 3.5 مليون هكتار، وبالتأكيد فإن الغابات الاستوائية بما فيها من أحياء هي من دفعت الثمن.

كائنات بلا مأوى

80% من الأنواع البرية التي تعيش على الأرض تتخذ من الغابات موطنًا لها، ويتركز معظمها في الغابات الاستوائية التي تغطي مساحة لا تزيد عن 10% من مساحة قارات العالم. هذا إن أوحى بشيء، فهو يوحي بحيوية الغابات في احتواء التنوع الحيوي، وبأن خسارة جزء صغير منها قد يقود بعدد هائل من الأنواع التي نعرفها والتي لم نعرفها بعد إلى انقراض جماعي سادس.

فمن بين 50,000 نبات طبي معروف -يشكل أساس أكثر من 50% من جميع الأدوية- يصنف الخُمس على أنه معرض لخطر الانقراض بسبب إزالة الغابات، ومعها مجموعة واسعة من الحيوانات مثل القردة والطيور والفيلة والنمور ووحيد القرن وغيرها.

قرد الأورانجتون– أو إنسان الغاب الذي تراه في حديقة الحيوان- هو واحد من ضحايا إزالة الغابات بهدف زراعة النخيل، إذ فقد أكثر من 80% من مساحة موطنه خلال العشرين سنة الماضية، وهلك ما يقدر بثلث عشيرته خلال حرائق 1997-1998، وهو الآن على قائمة السلالات المهددة بالانقراض وينحصر وجوده على جزيرتي بورنيو وسومطرة.

يعيش الأورانجتون بشكل حصري فوق الأشجار، ويعتمد في غذائه على مجموعة متنوعة من الفاكهة وأوراق الشجر واللحاء والحشرات. كما توفر لها الأشجار الحماية من المفترسات مثل النمور، لذا فمن الصعب عليها أن تتكيف على العيش على الأرض أو حتى بين أشجار النخيل المزروعة. فقد شوهد بعضها يحاول تناول ثمار زيت النخيل، لكن لا يتم هضمها بالكامل ومن الشائع العثور على جوز غير متكسر في برازها.

أورانجتون يحاول الدفاع عن وطنه أمام بلدوزر مدمر

وبينما تحاول القردة إيجاد ما تتناوله في الحدائق والمزارع، يتعامل معها البشر على أنها آفات. والسيناريو المعروف هو قتل الأمهات وبيع جماجمها كهدايا تذكارية محلياً، وبيع الصغار لتجار الحيوانات الأليفة غير الشرعيين. ففي دراسة نشرت في مجلة PLOS عام 2012، وجد الباحثون ما بين 2,383 و 3,882 قرد يقتل كل عام في بورنيو، فقط من المقابلات التي تم إجراؤه مع القرويين.

كذلك فإن التوسع في الغابات وبناء الطرق يؤدي إلى تجزئة الموطن (أي تقسيمه إلى بقع صغيرة تفصلها مناطق يأهلها البشر)، وهذا وإن كان لا يدمر الغابات بأكملها، فهو يعزل مجموعات النوع الواحد عن بعضها ويقلل من فرص التزاوج، ومعه يقل التنوع الجيني وتصبح المجموعات أكثر عرضة للانقراض.

هذا القط الكبير لا يعيش سوى على جزيرة سومطرة الإندونسية وهو على بعد خطوة من الانقراض

نمور سومطرة تعاني من هذا التفكك، فلم يتبق منها سوى 400 فرد في البرية ولا يتعدى حجم مجموعاته الفردية الـ 50 فردًا، حيث تحتاج النمور لمساحات شاسعة كي تبقى على قيد الحياة- لا سيما أنها حيوانات تحب فرض سيادتها كل على منطقته. كذلك فإن الأمر يجعلها أكثر عرضة للصيد ويزيد من تفاعلها مع البشر، الأمر الذي لا ينتهي نهاية سعيدة لأي من الطرفين.

وليست الحيوانات فقط هي من يفقد مسكنها، إذ يشاركهم في المسكن حوالي 750 مليون نسمة، 8% منهم من السكان المحليين. هؤلاء يعتمدون على الغابات في كسب العيش وتوفير الطعام والشراب والوقود، وغالبًا ما تؤدي إزالة الغابات إلى نشأة صراعات اجتماعية وينتهي بهم الأمر مشردين. في البرازيل مثلاً، يُطرَد الفقراء من قراهم لإقامة مزارع الصويا بل وقد يتعرضون للإيذاء ويجبرون، تحت تهديد السلاح، على العمل في ظروف غير إنسانية.

ليس كل ما هو أخضر جيدًا

وعلى الرغم من أن الزراعة المتنقلة تمثل مصدر رزق للكثير، إلا أنها ليست دائمًا حلاً مستدامًا للسكان المحليين -لا سيما زراعة القطع والحرق. فنحن نزيل الأشجار لإيجاد مساحة كافية لأراضي زراعية جديدة ونستخدم رمادها بعد الحرق في تخصيب التربة، إلا أن إزالة الأشجار في حد ذاتها تتسبب في تصحر التربة وتجعلها غير صالحة للزراعة، هذا يدفع السكان إلى هجر الأرض بعد بضع سنوات والبحث عن بقعة جديدة من الغابات لزراعتها وتستمر الحلقة.

يمكنك أن تفكر بجذور الشجر كالأحبال التي تمسك بجزيئات التربة وتجعلها متماسكة، في الوقت ذاته توفر أوراق الشجر المتساقطة والدُبال (مادة عضوية تنتج عن تحلل البقايا الحيوانية والنباتية) غطاء يمتص ضربات المطر ويحمي التربة من عوامل التعرية.

 عندما تحل الأراضي الزراعية محل أشجار الغابات أو تتعرض للرعي الجائر، تصبح الطبقة السطحية عارية وقابلة للانجراف بواسطة الرياح والأمطار، وتعجز المحاصيل عن دعم التربة كما تفعل النباتات الطبيعية بل أن بعضها يفاقم من تآكل التربة مثل القهوة والقطن وزيت النخيل وفول الصويا والقمح، كذلك تقل أنواع وأعداد الكائنات الدقيقة التي تحافظ على العناصر الغذائية اللازمة لخصوبة التربة.

ومع الوقت، تتحول تربة الغابات الخصبة إلى أرض مجهدة قحلة لا سعة لها لتمسك بالماء، فتنجرف بما قد تحمله من كيماويات ومبيدات إلى الجداول والمجاري المائية فتلوثها وتضيقها وتزيد من خطر حدوث الفياضانات.

انقلاب مناخي

وبالحديث عن الفيضانات، فإن اشتعال الأحداث المناخية الكارثية مثل الحرائق والجفاف والعواصف الاستوائية في الأعوام الأخيرة، هو علامة على انقلاب مناخي يعد سببًا في تدهور وفقدان الغابات. وفي الوقت ذاته، عاقبة من عواقب اقتلاع الأرض من غطائها الأخضر، وحرائق الأمازون التي اشتعلت في أغسطس الماضي هي خير دليل.

تحتفظ الغابات الاستوائية وحدها بأكثر من 228 إلى 247 غيغا طن من الكربون، أي أكثر من سبعة أضعاف الكمية المنبعثة سنويًا من الأنشطة البشرية.
الصندوق العالمي للطبيعة (WWF)

تعمل الغابات كبالوعة تشفط ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتحوله إلى مواد كربونية عضوية تخزنها في أشجارها. لذا فإن إزالتها من ناحية يحرمنا من فائدتها في شفط الملوثات الجوية، ومن ناحية أخرى، فإن قطعها أو حرقها، يتسبب في تصاعد المزيد من ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة مثل الميثان وأكسيد النيتروز والتي تعمل كحاجز يمنع هروب أشعة الشمس خارج الغلاف الجوي، فترتفع درجة حرارة الارض ويزداد الاحتباس الحراري سوءًا.

https://www.youtube.com/watch?v=zyfuh58SrB4

فلو افترضنا أن نطاق فقدان غطاء الأشجار الاستوائية كان دولة، فسوف تحتل المركز الثالث بعد الصين والولايات المتحدة الأمريكية في المعدل السنوي لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون والتي تزيد عن نواتج 85 مليون سيارة طوال فترة استخدامها، وذلك في الفترة بين عامي 2015 و 2017، طبقًا لمعهد الموارد العالمية (WRI).

يمكن لشجرة واحدة أن ترشح مئات اللترات من الماء في يوم واحد؛ كل مئة لتر لها تأثير تبريد يعادل مكيفين محليين لمدة يوم واحد.

ومثلما تعمل الغابات على تنظيم دورة الكربون، فهي أيضًا تنظم من دورة المياه؛ إذ تمتد جذور الأشجار لمسافات عميقة داخل التربة وتمتص المياه لتطلقها في الهواء على شكل بخار ماء عبر فتحات في أوراقها فيما يعرف بعملية «النتح». عملية كهذه تنتج نصف أمطار غابات الأمازون طبقًا لناشيونال جيوغرافيك، حيث تتحرك المياه المتبخرة مع الرياح مثل نهر عملاق يتدفق في السماء، يهطل كمطر ثم يتبخر مرارًا وتكرارًا حتى يصل إلى جبال الأنديز. ويعتقد أن خسارة المزيد من هذه الغابات قد تحد من إمدادات المياه لمناطق أكثر بعدًا حتى كاليفورنيا أو أفريقيا.

الوظيفة الأخرى لبخار الماء هي تبريد الهواء المحيط، وهو أيضًا ما يوفره الغطاء الكثيف من الأشجار الذي يظلل الأرض. لذا من الممكن أن تؤدي إزالة الغابات إلى زيادة درجة حرارة الهواء المحلي في المناطق المدارية والمناطق المعتدلة بدرجة واحدة مئوية، وزيادة التغير في درجة الحرارة اليومية بنحو درجتين مئويتين في المناطق المدارية و 2.85 درجة مئوية في المنطقة المعتدلة.

وبموجب اتفاقية باريس للمناخ في 2015، فإن الغابات الاستوائية تمثل 23% من سبل التكلفة الفعالة لتخفيف التغير المناخي قبل 2030. إلا أن متوسط انبعاث الكربون بين عامي 2015 و 2017 السابق ذكرها، والتي تزيد بنسبة 63% عن متوسط الـ 14 عامًا السابقة، لا يبشر بالخير.

وها نحن الآن على مشارف 2020، وهي السنة ذاتها التي تنتهي بحلولها اتفاقية «انتهاء إزالة الغابات» التي تضم أكبر العلامات التجارية الاستهلاكية في العالم، لكن هذه الشركات لم تحمل لنا سوى فشل في الالتزام بوعودها. فهل سيأتي يوم يتحد فيه الجميع لبناء مستقبل مستدام للأجيال القادمة، أم أننا سنظل نستنزف خيرات الطبيعة حتى تَحُل كارثة تزيحنا من على وجه الكوكب؟