لوبيز أوبرادور: رئيس لفقراء المكسيك ضد النيوليبرالية
بعد مرتين من الخسارة يُحقق «أندريس مانويل لوبيز أوبرادور» أكبر فوز رئاسي تشهده المكسيك منذ عام 2000، وأول فوز على الإطلاق لرئيس يساري مناهض للسلطة وناقدٌ لطريقة إدارة البلاد. العجوز صاحب الـ 65 عامًا يبدو شابًّا للغاية في طموحاته للدولة وفي نظرته للمستقبل. ينطلق لوبيز مستغلًا ما تعلمه أثناء دراسته للعلوم السياسية عام 1976 في الجامعة الوطنية، ومرتكزًا على خبرته المكتسبة من انضمامه للحزب الثوري الدستوري عام 1983، ومستبشرًا بما حققه عبر حزب الثورة الديموقراطية الذي ترأسه حتى عام 1999.
أثناء ظهوره بالوشاح الخاص بالقَسم الرئاسي للمرة الثانية، المرة الأولى كانت عند رفضه الاعتراف بالخسارة في انتخابات 2006، وعد لوبيز،الشهير بـ «أملو»، ناخبيه برئاسة فريدةٍ من نوعها، كما وصفها. بدأ هذه الرئاسة المختلفة برفضه الانتقال إلى القصر الرئاسي، ونقل الطائرة الرئاسية لكاليفورنيا تمهيدًا لبيعها، كما بدأ في استخدام سيارة «فولكس واجن» قديمة في التنقل بدلًا من الموكب الرئاسي الضخم . كما قرر الاستغناء عن الحراسات المشددة التي تحيط برئيس الجمهورية. أتبع ذلك بقرارٍ يقضي بخفض راتبه لأكثر من النصف، وخفض رواتب كبار موظفي الدولة كذلك. كما توجه بعد احتفال تنصيبه الرسمي إلى ساحة زوكالو في وسط العاصمة ليقوم ممثل السكان الأصليين بتنصيبه مجددًا.
تبدو قرارته مُرضيةً شعبيًّا لكن مؤشرات البورصة لا تراها كذلك. إذ تشهد العملة الرسمية، البيزو ، تراجعًا مستمرًا منذ توليه. وزاد من انكماش مؤشرات البورصة قراره بوقف بناء مطار في العاصمة مكسيكو تبلغ كلفته 13 مليار دولار كان قد تم بناء ثلثه بالفعل، إذ تدور الأحاديث في أوساط الأثرياء أن لوبيز سوف يخلق حكمًا راديكاليًّا تسلطيًّا، المختلف فقط أنه سوف يتسلط على أصحاب الأموال بدلًا من الشعب. أما المتفائلون من المعارضين له فيستمرون بوصف برنامجه بالغامض، وأنهم يشعرون بالأسف أنه يُقدم وعودًا براقةً لكن دون توضيح لكيفية تحقيقها.
التحديات الثلاثة
بعيدًا عن الإيماءات الرمزية التقشفية والثورية التي يرسلها لوبيز، يبقى عليه أن يتعامل مع تركة سلفه أنريكي بينيا نييتو المؤلفة من عددٍ من التحديات الكبرى عليه مواجهتها.
الأول: العنف
المكسيك بلد لا يعرف الهدوء، لا هو يلتزم بالقانون فنعتبر الخارجين عليه هم القلة، ولا يُخصص يومًا لعمليات القتل والإبادة كما تتنبأ أفلام هوليود لمستقبل البشرية القادم. عام 2017 شهد المكسيك قرابة 27 ألف عملية قتل، الأمر ليس طبيعيًّا ويحدث في جميع الدول كما تقول الآن في نفسك. صدق أو لا تُصدق، في الحملة الانتخابية ذاتها التي فاز بها لوبيز تم اغتيال 150 سياسيًّا بارزًا، عدد من المرشحين كانوا من ضمن من قُتلوا.
العنف المتنامي سببه القتال المستمر للسيطرة على مقاليد عرش زراعة الأفيون والمخدرات الأخرى. فشلت الشرطة في التصدي لهذا العنف، إما لشراسة المهاجمين أو لفساد جهاز الشرطة الذي يوفر حمايةً لزارعي المخدارات. حين تدخلت الدولة بقواتها المسلحة للمواجهة، تشرذمت العصابات الكبرى لتخلق عصابات أصغر وأشد شراسةً وقدرةً على المراوغة.
ما يعني أن أمام اليساري الرئيس أن يستخدم استراتيجيات جديدة لمواجهة هذا العنف. وأن يكون على رأسها تطهير أجهزة الدولة من أعلاها إلى أسفلها من الفساد. سيتضح ذلك في التحقيق الذي طلب لوبيز فتحه في اختفاء 40 طالبًا في 2014، أصابع الاتهام منذ اللحظة الأولى تشير إلى تورط أجهزة الشرطة في ذلك.
الثاني: الفساد
الشعب المكسيكي ليس بحاجة إلى التقصي لإدراك أن فسادًا ينخر مفاصل دولته، بل إن الفساد أوضح من الحاجة إلى البحث. الرئيس السابق، إنريكي بينيا نييتو، تورطت حكومته بالعديد من قضايا الفساد. بل تورط هو ذاته، عبر زوجته، في الحصول على منزل فخم ثمنه 7 ملايين يورو من شركة استثمارية مقابل الحصول على تسهيلات خدمية كبيرة.
كانت مواجهة الفساد هي محور ارتكاز البرنامج الانتخابي لـ «لوبيز». واستطاع أن يُقدم نفسه للناخبين على أنه المرشح الآتي من خارج المؤسسات التقليدية للدولة، فلا شيء يُدينه بالفساد ما يعني أنه سيواجه «مافيا السلطة» بلا هوادة ولا خوف.
لم يتوقع لوبيز أن تكون قراراته الثورية كخفض راتبه سببًا في وجود دعاوى قضائية من 3000 موظف ضده بسبب ذلك. المكسيك تعرف قانونًا ينص على أنه لا يجوز لأي موظف، مهما كان منصبه، أن يتقاضى راتبًا أعلى من راتب رئيس الدولة. ومن يفعل يُعاقب بالسجن إلى فترة قد تبلغ 14 عامًا. وبما أن لوبيز قد قلّص راتبه فهذا يعني أن رواتب موظفي الدولة يجب أن تتقلص هي الأخرى بنفس الدرجة. فيجب ألا يحصل أي موظف الآن على ما يزيد عن 5250 دولارًا.
الثالث: ترامب
لوبيز يريد علاقة صداقة وتعاون مع الولايات المتحدة، وترامب يريد بناء الجدار بينهما. قد لا يكون لوبيز يُعلن ذلك من باب الحب، لكن من باب الاضطرار، 80% من صادرات المكسيك تذهب إلى الولايات المتحدة. لذا كرر لوبيز دعوته إلى ضرورة أن تتخذ الولايات المتحدة موقفًا أكثر مرونة تجاه المكسيك، كي يبقى للأخذ والرد مكانٌ بدلًا من اللجوء إلى قطيعة تضر الطرفين.
ترامب هنأ لوبيز بالفوز، ورد على دعواته بأنه، أي ترامب، يتطلع إلى العمل معه. لكن تبقى تغريدات ترامب أمرًا لا يمكن الاعتماد عليه في التنبؤ بما سيكون عليه موقفه في أرض الواقع. خاصةً مع إصرار ترامب الشديد على أن تتحمل المكسيك كلفة الجدار العازل الذي يريد إقامته بينه وبينها.
اقرأ أيضًا: لا تعاملوه كمجنون: ما ينبغي على النخبة تعلمه من ترامب
إلا أن مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، يتخذ اتجاهًا ساعيًا للتقارب مع لوبيز بشدة. في 13 يوليو/ تموز 2018 قام بومبيو بأول زيارة له للمكسيك بوصفه وزيرًا للخارجية للقاء لوبيز. تم اللقاء في مكتب متواضع يُحيطه عشرون فرد أمن فقط، هو المقر الذي اتخذه لوبيز لإدارة شئون الدولة. وخرج بومبيو من الاجتماع بتصريح شديد الود، موضحًا أنه يسعى لبناء علاقة مع فريق لوبيز، وأنه لن يتأخر في مناقشة كل ما يجعل البلدين يمضيان قدمًا في علاقتهما.
التحول التاريخي
لا يبدو لوبيز بمظهر المتواضع عند الحديث عن فوزه بالانتخابات، فهو يراها تحولًا تاريخيًّا لا يقل أهميةً عن ثورة عام 1910. هو بالتأكيد يدرك حقيقة أنه فاز بفارق 30 نقطةً عن أقرب منافسيه، ويمتلك حزبه أغلبية في غرفتي البرلمان المكسيكي، بجانب أن 66% من الشعب يدعمه في أشد قراراته قوة وهو تغيير الدستور بالكامل. إلا أنه يبدو غير منتبهٍ إلى الفخ الذي وقع فيه آخرون في بلادٍ أخرى، أن مؤسسات الدولة تعاديه. فبعد إلغاء قرار بناء مطار مكسيكو رفع البنك المركزي سعر الفائدة، ما دفع البورصة للتراجع بـ 4% وإثارة الهلع بين المستثمرين.
كما ينوي مواجهة التحديات التي تواجهه بمزيج غير تقليدي من مشاورات النخبة والديموقراطية الشعبية المباشرة. يحمي هذا المزيج قوةٌ قوامها 50 ألف فرد يتم إنشاؤها من الحرس الوطني لتكون ذراع لوبيز في مواجهة الفساد والعنف. بجانب محاولات إضفاء صبغة شرعية وقانونية على تجارة الحشيش، في نفس الوقت يتم تقديم تعليم جيد وفرص عمل مناسبة للشباب الذين يقومون بتجارته أو تعاطيه لمحاولة انتشالهم من براثن الإدمان بسلاح أكثر دبلوماسية من سلاح الحرس الوطني أولًا.
ما يثير الدهشة أن لوبيز وعد بالدعوة لاستفتاء شعبي ليقرر الناخبون هل يريدون محاكمة الرؤساء السابقين بتهمة الفساد أم لا، غير أنه أعلن أنه شخصيًّا لا يوافق على ذلك. ثم عاد فوعد الشعب بأنه سيمنحهم فرصةً في منتصف ولايته لينزعوا عنه منصبه إذا لم يروه مناسبًا. لكن إذا نظرنا لفكرة الاستفتاءات الشعبية الكثيرة التي وعد بها لوبيز، يمكن أن نتفهم الأحاديث السابقة عن راديكالية الحكم الذي يمكن له أن يُؤسسه. فهذه الاستفتاءات تهميشٌ للبرلمان وللقوى السياسية، واحتكامٌ سريع وغير موضوعي في معظم الأحيان للتعاطف الشعبي ولظهيرٍ متحمس من المؤيدين.
اقرأ أيضًا: التجربة البرازيلية: ديموقراطية اغتالها انقلاب ناعم
لا يمكن التقليل من أن وصول لوبيز للسلطة في دولة مثل المكسيك يعتبر إنجازًا تاريخيًّا، ووعوده حتى الآن تعلنه بوضوح رئيسًا للفقراء ضد استغلال أصحاب الأموال. لكن وجود نموذج البرازيل في الذاكرة، وما حدث لـ «لولا دا سيلفيا» و«ديلما روسيف» يخبرك أن السياسة ليست بالبساطة التي تبدو عليها. وتبقى الأيام القادمة والأرقام الاقتصادية واحتفاظ لوبيز بحياته وحريته هم الحاملون للإجابة الشافية حول كفاية الرغبة في الإصلاح لتحقيقه، وهل الشعب وطموحاته هم الطرف الأقوى في معركة الإصلاح أم الدولة العميقة المستفيدة من الفساد.