طريق يمتد كمزارع زعفران ﻻ نهائية
طريق تمتد كمزارع زعفران لا نهائية، إذ تتكدس بالحجيج بملابسهم البرتقالية، جبال خضراء شاهقة تلامس السماوات، ونهر ينبع من الجنة فيغدق الأرض ببهاء وردي، أشجار تملأ الفضاء المتسع، وعشب يكسو كل بقعة بخضرة ناضرة تفعم بالبهجة وتحفظ الحياة، أرصفة تعج بباعة الحُلي والتمائم المصنوعة يدويا، عشرات الأبقار هاجعة بأطراف الأزقة، و قرود طليقة تتعلق بالشجر أو تتقافز فوق الأسطح المنخفضة، نُسّاك مسنون بلِحَى طويلة وعمائم، ومعابد صغيرة محفورة في الجبال كالكهوف، قاع يتغذى برماد آلاف الجثث، وتراث غائر من حكايات أسطورية عجيبة. إنها رشيكش، مدينة الأشرام و الجانجا.
رحلة الحج المقدسة
ينفر ملايين الهندوس في شهر «شرفانا»[1] المقدس من كل عام هندي للحج على ضفاف نهر «الجانجا»، كنا رأيناهم ونحن نقطع الطريق من دلهي وأثاروا دهشتنا، أسرابا طويلة من البشر في أقمشة بلون الزعفران، في وجوههم التي لوحتها الشمس مشقة و أقدامهم حافية، يحملون على أكتافهم عصي طويلة من خشب البامبو أو القصب، يتدلى من طرفي العصا آنيتين معدنيتين تُعقد حولهما أشرطة ملونة، بينما تزين العصا بهياكل خشبية أخرى مختلفة الألوان.
يمشون في جماعات يرددون ترانيم غريبة، أو يتكدسون في باصات صغيرة وسيارات دفع رباعي أشبه بصناديق معدنية، وسيارات نقل تحمل عروشا أو تماثيل، وهي مزودة بمكبرات للصوت تصدح بتواشيح وأغنيات. ويقطع بعضهم المسافة بالدراجات أو السكوتر؛ بإحدى يديه يقود وبالأخرى يحمل الهيكل الخشبي المزركش. على جنبات الطريق رأينا خياما منصوبة لمساعدتهم، وتقديم الطعام والرعاية الصحية، كنا نتوقف في بعضها لكن توجسا مريبا منعني من الحديث إليهم.
يتكبد الحجيج عناء الرحلة، وقطع مسافات شاسعة سيرا على الأقدام ليصلوا للمدن المباركة القائمة على ضفاف النهر، كرشيكش وهاردوار وسلطانجانج والله أباد، حيث يغتسلون في الماء، الذي يعتقدون يقينا في قدسيته وطهوره وقدراته الشافية، و يملأون الآنية لينقلوها بعد ذلك في رحلة عودة، أشد وطأة بطبيعة الحال، إلى معابدهم المحلية، حيث يقدمون الماء للإله شيفا.
في الماضي، وتحديدا حتى أوائل التسعينيات، كانت الرحلة صغيرة، تقتصر على القديسين وثلة من التابعين، لكن الأمر تبدل كليا بعد ذلك؛ بدأ العامة يتوافدون ويشاركون طلبا للبركة والغفران، حتى صار ذلك الحج أحد أكبر التجمعات البشرية في العالم، إذ يؤديه الآن عشرات الملايين في كل سنة.
في قلب النهر
تملكني، ونحن نعبر الجسر الجمالوني الرابط بين طرفي رشيكش، شعورا غير مألوف، كأنما أدخل في حكاية خرافية من أساطير الهنود العجيبة. النهر يندفع تحتنا جارفا، قادما من وراء الجبال التي تحاوطنا كأسوار قلعة عظيمة. داعب الرذاذ وجهي ويدي، إنه المطر، هطل طيلة الطريق، وتسرب إلينا من بين فتحات التهوية بالباص، وهو ما تكرر في كل الرحلات بعد ذلك.
جسر رشيكش/ تصوير: عمر سليم
تركت متعلقاتي في الغرفة على عجل، كنت أتوق لاستكشاف المدينة الصغيرة. تناولت غذاء من الدوسة بالجبن، الطعام الشعبي لجنوب الهند، وهي تقدم في أطباق مقسمة إلى أربعة أقسام، الجزء الرئيسي لفطيرة مثلثة معجونة من الأرز ومحشوة بالجبن، وفى الأجزاء الفرعية أنواع مختلفة من الصلصة الحارة فيها قطع صغيرة من الخضار.
انطلقت بعد ذلك على الشريط الساحلي، أتبع الحجيج إلى منتهى رحلتهم، وموئل الوصول. طلعت الشمس، لكن الشارع ظل مبتلا، والهواء مشبع برائحة المطر والنهر. مع كل خطوة نخطوها تبدل الطريق أمامنا، تحل الأكشاك والبازارات الصغيرة محل الفنادق، ثم تختفي بدورها لتظهر بيوتا منخفضة وأكواخ، ثم تختفي لتمتد الطريق بين الجبال عن شمالنا والنهر عن يميننا، انحرفنا من زقاق ضيق بين البيوت ونزلنا درجا صغيرا ينفتح على النهر مباشرة. مئات ومئات من البشر يغتسلون، يسبحون، يغسلون ثيابهم، يملأون قدورا، يجلسون للصلاة، يرددون ترانيم، يلقون بأشياء في اندفاع الماء. رهبان هرمين في لحى طويلة و ملابس رثة، يصلون في سلام، روائح البخور تضمخ المكان. بتردد اقتربت، غمرت يدي بالماء، ثم اندفعت أفعل مثلهم مسحورا بالجو الملحمي المحيط.
أساطير الجانجا
للجانجا مكانة رفيعة عند عموم الهندوس، والشيفيون (عبدة الإله شيفا) بالأخص. تتعدد الآلهة الهندوسية بحيث يصعب حصرها بشكل وافي، لكن بعضها رئيسي كبرهاما الخالق، وفيشنو حافظ دورة الحياة، وشيفا المسيطر، لتلك الآلهة أتباع يقدسونهم بشكل يقترب من التوحيد، لكنهم، رغم ذلك، يظهرون احتراما وولاء كاملا للآلهة الأخرى. يُعد الشيفيون الجانجا نهرا مقدسا، جرى في السماء قبل أن يهبط إلى الأرض. يطهرهم من الذنوب، يتداوون به، ويلقون به موتاهم، والحيوانات المقدسة النافقة، كالبقر والقرود. بعض الهندوس يعبدونه، أو يعبدونها بتعبير أدق؛ فالجانجا إلهة متفردة، نزلت لتنقذ الأرض من جفاف كاد يحل بها.
أساطير الجانجا عديدة، لكن ربما يكون أشهرها أسطورتي النشأة والتكوين. تحكي الأولى أن صراعا شب في الأزمنة الغابرة بين الآلهة والشياطين، التي كانت تحتمي بالمحيط في الليل، ثم تهاجم الآلهة في الصباح، ما دفعهم للجوء للحكيم أجاستيا، وهو شرب الماء كله؛ ما مكن الآلهة من القضاء نهائيا على الشياطين. حين انتهت الأزمة طلبوا من أجاستيا أن يعيد المحيط مرة أخرى، لكنه قال إنه هضمه وانتهى الأمر، وعم خوف بالغ أن يضرب الجفاف الأرض. في الوقت نفسه كان الملك الأسطوري «ساجارا»[2] قطع شوطا كبيرا في حلمه للسيطرة على العالم كله، وكان له ستون ألف ولد. في معركة احترق أولاده، وهو أراد أن يطهر أرواحهم بالمياه المقدسة التي تجري في الجنة، وراح يدعو برهاما أن ينزل نهر الجانجا من الجنة. برهاما أمر الجانجا أن تنزل لكنها أبت ترك الجنة، وهددت أن تدمر الأرض باندفاعها الجرار؛ هنا تدخل الإله شيفا، رفع الجانجا ووضعها على شعره، فانساب النهر من بين خصلات شعره. طهرت أرواح أبناء ساجارا، وعاد للأرض ماؤها من جديد.
الأشرام
واصلت السير على الشريط الساحلي مأخوذا بالجو الخرافي حولي، قالوا لنا إن ثمة احتفالا على النهر يقام في السادسة بأشرام يقع في نهاية الطريق، وهو أشبه بفندق لاستقبال الحجيج، كما ينظم أنشطة دينية وروحية كاليوجا والتأمل والصلاة. أبهرني مدخله، فكرت أن تلك بوابة الجنة؛ كان ممرا فسيحا مظللا بأشجار و نخيل، محاطة بأحواض من زهور، ومسيجا بصفين من النوافير الصغيرة، وفي الأفق تظهر الجبال تتيه قممها في السحب التي تكاثفت. على الجانبين تقوم مبان كبيرة تضم حوالي ألف غرفة، ومراكز لممارسة اليوجا، وتقديم الطعام والرعاية.
لم أشعر إلا وأحد القديسين ينبهني بيده، كان النوم غلبني ولم أشعر، قمت مذعورا، فكرت أن نومي ربما ضايقهم فشعرت بالحرج وقمت أغادر، لكن سحر رشيكش لم يغادرني أبدا.
[1] الشهر الخامس في التقويم الهندي، ويوافق جزءا من يوليو/تموز وأغسطس/آب. يصوم الهندوس في كل اثنين من هذا الشهر.[2] ساجارا هو ملك من الميثولوجيا الهندية، عاش في عصر الكمال قبل آلاف السنين. حيث تقسم الهندوسية دورة الحياة إلى أربعة أقسام، تبدأ بعصر ذهبي كامل تحمي فيه الآهلة البشر ويعم الخير في الأرجاء، وتنتهي بعصر الظلام، والذي دخلنا فيه منذ العام 3102 قبل الميلاد.