التسديد من بعيد: هل انقرض ما لم يكن موجودًا بالأساس؟
بالصدفة، مر أمامه ملخص لمباراة منتخبي التشيك وهولندا في كأس أمم أوروبا عام 2004، فقرر المشاهدة وتذكر الأيام الخوالي. كان الإيقاع سريعًا جدًا، الصواريخ من خارج منطقة الـ 18 تنطلق من هنا وهناك، محاولة من سيدورف، تتبعها أخرى في القائم من إيدجار دافيدز، فيرد بافل نيدفيد بأخرى في العارضة.
يشاهد المشجع فيتحسر ولا يدور في باله سوى مقولة: «ولى هذا الزمن الجميل»، فنحن لم نعد نرى مثل هذه التسديدات ولا مثل هؤلاء اللاعبين. هل هوس النوستالجيا قوي إلى هذا الحد، أم حقًا قد تغير شكل كرة القدم ليضيع علينا هذه المتعة؟
انخفاض واضح
سنحاول أن نجعل البريميرليج هو العينة العشوائية التي سنحكم من خلالها على الظاهرة ككل. ولأن الأرقام لا تكذب، سنستعرض ما رصده تقرير لشبكة «سكاي سبورتس». في موسم 2008/2009 كان مجموع تسديدات فرق الدوري الإنجليزي الممتاز من خارج الـ18 يتجاوز «5000» تسديدة، بينما انخفض العدد إلى «3693» تسديدة بعد مرور عشر سنوات وتحديدًا في موسم 2018/2019.
ولمزيد من التفصيل، كان معدل التسديد من خارج المنطقة يفوق الـ 13 تسديدة للمباراة الواحدة في 2008/2009، بينما أصبح في 2018/2019 أقل من «9» تسديدات. بات واضحًا أن معدلات التصويب بعيد المدى تنخفض تدريجيًا ومن حق ذلك المشجع المتعصب أن يلعن كرة القدم الحديثة، والبحث عمن يلومه.
عصر الفلاسفة والجبناء
في البداية، عليك أن تصب جام غضبك على لاعبي الجيل الجديد، فبسبب جبنهم يحرموننا من متعة التسديد البعيد. وفي البريميرليج تحديدًا يظهر الأمر بوضوح، لأننا انتقلنا من حقبة لامبارد وسكولز وجيرارد وبيريز إلى كوتينيو وجاريث بيل ثم إريكسين والبقية.
الفارق واضح طبعًا، لكنك ستدرك سريعًا أن اللاعبين هم مجرد جزء من النظام، والنظام بات تحت سيطرة الإحصائيات وفلسفة الاستحواذ. فالبعض يربط الملل بالاستحواذ، وقتل المتعة بالإحصائيات، والبريميرليج تحديدًا كان الضحية الكبرى.
في موسم 2003/2004، تجاوزت نسبة استحواذ أحد الفريقين على الكرة 60% في 63 مباراة فقط، بينما تحققت نفس النسبة في موسم 2016/2017 في 181 مباراة. احتل جوارديولا ورفاقه الدوري، وبات حرمان الخصم من الكرة هو الطريق الأمثل للدفاع، والأهم من ذلك، استغلال الاستحواذ وتدوير الكرة لخلق فرص أفضل وأقرب.
فالإحصائية الحاكمة هذه الأيام هي إحصائية الأهداف المتوقعة «Expected Goals xG»، والتي تعبر عن جودة الفرص التي يخلقها الفريق، وبالتبعية تعبر عن جودة الأفكار الهجومية. يتم قياس الفرص وفقًا لعدة معايير أهمها المسافة بين الكرة والمرمى، ومع زيادة سلطة الأرقام، بات التسديد عن بعد خيارًا غير مفضل للكثيرين.
لك أن تتخيل أن تسديدة كومباني الشهيرة في مرمى ليستر سيتي كانت فرصة دخولها وفقًا لأرقام أوبتا Opta 0.03، أي 3 من كل 100 تسديدة من هذه الوضعية تتحول إلى هدف. كان زملاؤه يصرخون به ويطالبونه بعدم التسديد، وهذا يؤكد الانطباع السائد حاليًا بين اللاعبين والمدربين. لكن هل هذا الانطباع يشير إلى جبن لاعبي الجيل الحالي، أم أنهم ازدادوا وعيًا؟
مزق دفاترك القديمة
لنترك انطباع اللاعبين مؤقتًا ونتحدث عن انطباعاتنا، فالأهداف بعيدة المدى سواء من اللعب المفتوح أو الضربات الحرة تترك انطباعًا مختلفًا. فهي قادرة على انتزاع صرخاتك وتجبرك أحيانًا على القفز فوق كرسيك من شدة الإعجاب، وبنفس هذا الحماس ستشاهد مقطع فيديو مجمعًا لأهداف لامبارد وجيرارد البعيدة وتطلق أحكامك المتسرعة.
لكنك ستتفاجأ عندما تعلم أن كلا اللاعبين مجتمعين أحرزا في البريميرليج 12 ضربة حرة فقط. ووفقًا لموقع 90Min، فإن لامبارد أحرز 41 هدفًا من خارج المنطقة «23.16% من أهدافه»، بينما أحرز جيرارد 33 هدفًا «27.5 من أهدافه». وللأسف لم يقدم الموقع أو حتى موقع البريميرليج الرسمي إحصائية تفصيلية لمقارنة عدد الأهداف بعدد المحاولات بعيدة المدى.
لكن يمكن أن نأخذ مؤشرًا آخر من الرقم الذي عرضه موقع «Squawka»، والذي يشير إلى أن أكبر عدد من الأهداف سُجل من خارج الـ18 كان 9 أهداف، والمسجل باسم الويلزي جاريث بيل في موسم 2012/2013. يليه الثنائي مات لو تيسيير «ساوثهامبتون» وجيمي فلويد هاسلبانك «تشيلسي» بـ8 أهداف. لا لامبارد، ولا جيرارد، ولا سكولز، لأنهم فقط يتواجدون داخل مخيلاتنا.
لننتقل إلى مثال آخر من لاعبي الجيل الجديد، وهو فيليب كوتينيو. لاعب بايرن ميونيخ الحالي معروف بقوة التسديد من بعيد، وأثناء تواجده في البريميرليج مع ليفربول أحرز 19 هدفًا من خارج الصندوق. حتى أكتوبر 2017، كان كوتينيو يتصدر ترتيب لاعبي الدوري بـ17 هدفًا، لكن الأهم من ذلك هو أنه قد احتاج لـ284 تسديدة ليحرز هذا العدد(5.99%). مجرد وصف هذه النسبة بالسيئة سيكون مجاملة، لكن الأهم من ذلك، هل لاحظها الجمهور أم أنهم وقعوا تحت تأثير جمال الهدف الذي يسجل من كل 30 أو 50 تسديدة؟
المنطق يفرض نفسه
لتكتمل الصورة، عليك أن تعلم أن موسم 2008/2009 المذكور بالأعلى كأكثر المواسم من حيث عدد التصويبات البعيدة – هو أقلهم «مقارنة بالمواسم التالية» من حيث إجمالي عدد الأهداف(942 هدفًا)، أي أن المتعة حاضرة، بل وتركَز الاهتمام على الكيف وليس الكم.
فلا يوجد سبب وجيه يجبر المدربين لدفع فرقهم نحو فقد الاستحواذ مرة تلو الأخرى بسبب فرص بعيدة عن مرمى الخصم، ولا سبب يدفع اللاعب لإهدار مجهود زملائه مرة تلو الأخرى في محاولات بائسة، هو أكثر من يدرك مدى بؤسها لأنه مهما بلغت قدراته، فإن نسبة تحويله لهذا النوع من التسديدات إلى أهداف تظل ضئيلة.
أما عن صديقنا المعترض على انقراض عصر الصواريخ، فإنه يمثل تمامًا شخصية فرانكلين ميولي، مالك فريق الواريورز في دوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين. فبعد أن وافقت أندية الNBA على تجريب خط الثلاث نقاط في عام 1979، اعترض فرانكلين بشدة، بل وادعى بأن هذا سيفسد اللعبة.
الأمر هنا يتعلق باستيعاب التطور لا برؤية المستقبل كالمنجمين. تمر السنوات، ويصبح التسديد من خارج قوس الثلاث نقاط هو الموضة السائدة، والأغرب من ذلك أن فريق الواريورز نفسه قد هيمن على الدوري في السنوات الأخيرة بفضل امتلاكه لاثنين من أفضل المسددين في تاريخ اللعبة، ستيف كوري وكلاي طومسون.
لأن اللعبة دائمًا مرتبطة بجودة الفرص، من داخل القوس أو من خارجه، من تحت السلة أو حتى من المدرجات، ذلك التطور يذكرنا بما قاله يوهان كرويف عن الدفاع: إذا دافعت في مساحة صغيرة تصبح مدافعًا جيدًا، وكلما اتسعت المساحة صعبت المهمة. في الـ «NBA» طبقوا ذلك على طريقتهم، بل وسرحت بعض الأندية بخيالها بعيدًا لتدريب لاعبيها على التسديد من خط أبعد يسمى 4-point line.
وفي كرة القدم، لا يختلف الأمر كثيرًا لأن المبدأ واحد. فخلق الفرص بجودة أعلى يتطلب الكثير من العمل، المزيد من التحركات ويقابلها مخزون وافر من الوعي التكتيكي لخلق الفراغات وتحقيق الزيادة العددية، وبالطبع هذا لا يتفق تمامًا مع مبدأ إحراز 10 تسديدات من أصل 200 محاولة، تشجيعًا للعبة الحلوة.