حرب لندن: كيف تم استئناس أرسنال فينجر؟

متى أصبح الحديث عن أرسنال مملًا مكررًا كما هو الآن؟

هل لخسارة لقب الموسم الماضي أمام أضعف بطل للمسابقة وأقلهم تمويلًا على الاطلاق دور في ذلك؟

ربما، لكن يبدو أن الملل قد بدأ قبل ذلك بكثير؛ تحديدًا منذ الدقيقة الثانية من مباراة بيرمنجهام المشئومة منذ ستة أعوام، عندما قرر مارتن تيلور أن اللحظة قد حانت لإنهاء مسيرة إدواردو سيلفا ومعها آخر فرصة حقيقية حظي بها أرسنال فينجر للتتويج بالبريمييرليج؛ رحل بعدها أكثر من نصف الفريق وكأنه إعلان جماعي لليأس.

كل هذا لم يعد مهمًا الآن؛ حتى التغني بجيل اللاهزيمة لم يعد مهمًا، بيركامب لم يعد مهمًا، هنري لم يعد مهمًا، في الواقع تذكر كل ذلك هو جزء أصيل من أزمة أرسنال الحالية لأنه لم يعد فخرًا بأمجاد الماضي بقدر ما صار استجداءًا لذكراها واعترافًا بالفشل في صنع المزيد، بالظبط مثلما لم يعد التتويج بالكأس مهمًا لأنه لم يعد يعني التتويج بالكأس فعلًا بقدر ما يعنى الفشل في الدوري.

لكن من قال أن البطولات هي كل شيء في كرة القدم؟ ماذا عن كرة أرسنال الممتعة السريعة غزيرة الأهداف؟ ماذا عن مواهبه الشابة؟ متعة وأهداف ومواهب شابة؟ هل شاهدت أرسنال مؤخرًا؟

لعنة بيللي بين

أسطورة البيسبول الأمريكية الذي أدخل الإحصائيات والعلم لعالم الرياضة بمساعدة خريج ييل اللامع بيتر برانت؛ برانت كان نظارة بين الليلة التي رأي بها ما لم يراه غيره، بيللي بين سيتعاقد مع هذا الرامي لأنه – ببساطة – الأفضل رقميًا، بينما سيرفضه غيره لأن صديقته قبيحة وهو ما يعني أنه لا يثق بنفسه وبالتالي لن يؤدي تحت الضغط؛ العلم في مواجهة الخرافة، تلك كانت أسطورة بيللي بين.

بالطبع تظل كرة القدم أكثر تعقيدًا من لعبة سطحية كالبيزبول، وبالتالي أقل خضوعًا لتأثير الأرقام والإحصائيات، لكن في الواقع نظام فينجر كان قد بدأ قبل ذلك بكثير؛ تحديدًا منذ 32 عامًا عندما تلقى وظيفته الأولى في نانسي بناءً على توصية من والد ميشيل بلاتيني .. لا ميزانية من الأساس؛ لم يكن هناك مفر من تحقيق أقصى فائدة ممكنة من شهادته الجامعية في الاقتصاد وعلم النفس، بالإضافة لما تعلمه عن التغذية ونظم التدريب المتطورة وتكوين الشباب والناشئين من سنين مراهقته التي قضاها في الترحال خلف جيل مونشنجلادباخ الملهم الذي حقق ثلاث بطولات دوري وكأسين لأوروبا في السبعينيات، بعدها أتى لموناكو بنفس كرة القدم الثورية السريعة التي أبهرت الجميع لاحقًا في إنجلترا، لينقلها عنه أسطورة تكتيكية أخرى هو مارسيلو بييلسا الذي بدأ مسيرته بعدها بثلاث سنوات مع نيويلز أولد بويز في الأرجنتين.

نجح فينجر في استخراج الجودة من المال كما لم ينجح أحد من قبل؛ دوري وكأس مع موناكو عقبه هجمة ناجحة على امبراطورية فيرجسون الكروية والاعلامية في ظل أجواء معادية للأجنبي الذي يشبه معلمي الحضانة الذي ظن أنه سيعيد اختراع اللعبة في بلد نشأتها، كل شيء كان يبدو واعدًا حتى قرار بناء الاستاد الجديد ليحل عليه ما عُرف لاحقًا بلعنة بيللي بين الذي لم يحصل على الدوري مع فريقه أوكلاند أثلتيكس في مسيرة امتدت لسبعة عشر عامًا شهدت خسارة المباراة النهائية عدة مرات، بينما لم ينجو منها بييلسا كذلك عبر ربع قرن من التدريب بلا أي لقب كبير.

على وجه فينجر

رغم كل ما سبق يظل الثلاثي هو المادة الأثرى لأساطير «ما كان يمكن أن يحدث» المفضلة لدى المشجعين، وهو نفس السبب الذي لم يمنح أرسنال أو فينجر نفسه الفرصة للتفكير فيما حدث بالفعل والأهم؛ ما يمكن أن يحدث لاحقًا، ورغم انتهاء ديون الاستاد مجيء أوزيل وسانشيز إلا أن واقع أرسنال المأساوي ظل مستمرًا، والنادي الذي كان غنيًا بالمواهب الشابة الجائعة تحول للوجهة الأولى للمواهب الكسولة المتخاذلة التي وجدت في أرسنال فينجر الحل السحري: شهرة وأموال البيج فور بدون التزام وجدية وطموح البيج فور.

توالت الصفعات على أرسنال فينجر من كل حدب وصوب؛ 8 من مانشستر، 6 من تشيلسي، 5 من ليفربول، ولكن لم يبدو أن أي عدد من الصفعات قادر على اعادة الرجل لرشده حتى لو أتت من ليستر؛ مادام قادرًا على التجول في الشوارع بآثارها على وجهه مبتسمًا في بلاهة ومكتفيًا بتذكير الجميع بأنه فاز على البطل ذهابًا وإيابًا وكأن هناك جائزة لذلك.

الواقع يقول أن الرجل قد نضب بئره وفقد لمسته بالفعل؛ إيفان جازيديس مدير أرسنال الحالي يصر في كل مرة على تكرار الحديث الممل عن الأموال الكبيرة التي لا يستطيع أرسنال مجاراة منافسيه في إنفاقها، ورغم أن النادي يمتلك أكبر إحتياطي نقدي بين أندية أوروبا ويصل لـ100 مليون باوند كما كُشف في فبراير الماضي، إلا أن أرسنال فينجر يصر – بحماقة شديدة أو خبث شديد أيهما أقرب – على التعامي عن أن انجلترا صارت تعج بمكتشفي المواهب المهرة، وأن إبرام صفقات كبيرة بأموال ضخمة لم يعد السبيل الوحيد للتقدم والنجاح .. لماذا؟ لأنهم يدركون جيدًا أن تلك ليست المشكلة والهدف لم يكن يومًا قطع المسافة المتبقية نحو اللقب بل الاحتفاظ بالموقع الحالي الذي يضمن أكبر استفادة مادية لكرونكي ورفاقه، والذي لم تمنعه وقاحته من إعلان ذلك صراحة في مؤتمر للمستثمرين بلوس أنجيليس في مارس الماضي، لذا أصبح الرضا هو العنوان الكبير لأرسنال فينجر والمشكلة الوحيدة صارت طبخ الهراء الذي سيملأ أفواه المعترضين، والطريقة الأمثل لذلك هي إضافة الكثير من البهارات من طراز هوية أرسنال وفلسفة الاعتماد على الشباب والمغمورين.

أسود وكلاب

الآن يبدأ موسم جديد لم يعد فيه ليستر أو المركز الرابع هو أهم مشاكل أرسنال فينجر، بل الوحش الذي أطلق لجامه منذ ثلاثين عامًا وعاد الآن لاصطياده؛ تلاميذ الطريقة الذين تخرجوا على يد بييلسا وتفوقوا على معلمهم وملهمه ليجد الثلاثي بيب، كونتي وبوكيتينو طريقهم للبريمييرليج بعد نجاحات مدوية تشبه كثيرًا تلك التي حظي بها أرسين الشاب في بداياته، نفس العجوز العنيد الذي ربما يجد نفسه الآن يصارع من أجل المركز الرابع مرة أخرى ولكن في لندن!.

الأخير تحديدًا لم تفصله سوى نقطة واحدة عن أرسنال فينجر بنهاية الموسم الماضي بعد أداء رائع طيلة المسابقة قدمه فريق بلا نجوم، بلا خبرة ولا يتجاوز معدل أعمار تشكيلته الأساسية 23 عامًا، وللدهشة لم يكن ذلك كافيًا لبوكيتينو؛ الأرجنتيني الفذ أدرك أن ضعف بدائله في الموسم الماضي وقلة التدوير هو ما منعه من استغلال تعثر ليستر وأرسنال والتتويج باللقب، والآن تشكيلة توتنام الرائعة بالفعل انضم لها فيكتور وانياما دبابة السينتس وفينسنت يانسن ظاهرة هولندا القادمة من ألكمار وفي جعبته 27 هدف من 34 مباراة، لا داعي لذكر أن الأخير كان محل هواية فينجر المفضلة قبل أن يخطفه بوكيتينو: «الاهتمام».

ربما تتحقق نبوءة بيللي بين عن توتنام القادم بقوة بقيادة الأرجنتيني وينجح في إزاحة أرسنال فينجر من مقعده الأوروبي المفضل، المثير أن بوكتينو بعد عامين في لندن لم يكن قد أنفق جنيهًا واحدًا في الانتقالات بل كوّن تشكيلته محققًا ربحًا جاوز 35 مليون باوند لإدارة النادي استغلها في التعاقد مع وانياما ويانسن ليحافظ على وضعه المالي في أفضل صورة ممكنة بعد فترة من الانفاق المجنون بقيادة فيلاش بواش عقب بيع جاريث بيل، الآن تفهم لماذا لم تعد فلسفة أرسنال عن الشباب والمغمورين أكثر من مجرد بهارات في طبخة جازيديس.

طرقات على الباب

في تقرير مطول نشرته الجارديان يتحدث جيكوب ستاينبرج عن صحوة ويستهام الأخيرة مؤكدًا أنها لن تكون الأخيرة بالفعل، المشروع الذي بدأه الملاك الجدد ديفيد جولد وديفيد ساليفان منذ ستة أعوام مازال قابلًا للتطور بعد اكتمال عناصره الخمسة الأساسية؛ المدرب، الملعب، التعاقدات، عمق التشكيلة وبالطبع الإدارة التي وفرت كل ذلك.

ديفيد جولد

وبينما قد يحتاج بيليتش لمقال منفرد، إلا أن عمل الرجل مع الهامرز يمكن اختصاره في بقاء باييه، شهور قليلة كانت كافية ليحظى بيليتش وفريق عمله بالاحترام الكافي، وما أنجزه في التعاقدات الصيفية لا يمكن تقديره بمال، لأن حديث المال سيتجاهل القيمة الفنية والتكتيكية التي أضافها جلب كل من ساخو، كوياتي، أوجبونا، أوبيانج وباييه وسيكتفي باخبارك أن الخماسي لم يكلف جولد وساليفان سوى 34 مليون باوند اجمالًا قبل أن تتضاعف قيمتهم السوقية لمرة واحدة على الأقل بعد أداء الموسم الماضي بل وتخطي سعر باييه منفردًا حاجز الـ40 مليون باوند.

ولأن ويستهام كان أقل أندية لندن ربحًا من تذاكر المباريات؛ 20 مليون باوند مقابل 100 لأرسنال الأكثر ربحًا في انجلترا على الاطلاق، فالانتقال للملعب الأوليمبي الجديد سيوفر لهم ضعف تلك الأرباح، ضع ما سبق بجانب تصريح أولاس رئيس ليون عن عرض ويستهام لضم لاكازيت مقابل 45 مليون باوند لتدرك أن المنافسة في لندن قد تفاجئك بالفعل، ولكنها لن تفاجئك مثلما تفاجأت إدارة الملكي المدريدي بتلقي عرض آخر رسمي من نفس النادي لضم خيميس رودريجيز مقابل 67 مليون باوند طبقًا لبي بي سي، بالطبع رفض الثنائي اللعب في اليوروبا ليج الموسم المقبل ولكن في ظل تلك القدرة المالية لنادي لا تبلغ أرباحه ومدخلاته نصف مثيلتها في أرسنال، قد يتقبل مشجعو الأخير الحديث عن أموال السيتي وتشيلسي، ولكن سيحتاج كرونكي لما هو أكثر من البهارات لجعلهم يبتلعون الطبخة القادمة عن أموال ويستهام وتوتنام الطائلة.

نحو مزيد من الأزرق

في قلب لندن يحل كونتي ضيفًا ثقيلًا على أرسنال فينجر ليخلف ضيفًا أثقل رحل إلى مانشستر، الإيطالي المُجدد أقنع العالم أخيرًا بإحياء تقليد قديم لم يستخدم منذ 20 عامًا؛ الليبرو، وبتنويع كبير على طرق بلاده التقليدية والمزج بينها وبين نقيضها الذي درسه على يد بييلسا تحول كونتي لغول تكتيكي قادر على ابتلاع حيل فينجر بسهولة، يقود تشكيلة بطلة بالفعل لم تكن تحتاج لكانتي وباتشواي لتنهي الموسم أمام أرسنال فينجر لأنها فازت عليه ذهابًا وإيابًا في أسوأ مواسمها على الإطلاق.

وسط كل تلك المشاريع الطموحة الشرسة يقود أرسنال فينجر ثقافة الأزمة والعيش على الحافة؛ حافة التأهل لأوروبا، حافة المنافسة على اللقب، حافة النجوم؛ لم يعد كوكلين من اعاراته البائسة لأندية الدرجة الثانية إلا عندما أصيب كل لاعبي الوسط تقريبًا، لم يأتي ولبيك حتى أصيب المهاجم الصريح الوحيد في القائمة، ولم يبدأ البحث عن مهاجم آخر حتى أصيب ولبيك بدوره لعشرة شهور، لم يرحل ديابي إلا بعد أن قضى عدة مواسم مصابًا، ولن يرحل ميرتساكر حتى يحرز 10 أهداف في نفسه على الأقل؛ عندما تعيش على الحافة بالفعل فالخطوة التالية لن تكون سوى الصعود أو السقوط .. البقاء على الحافة ليس خيارًا.

الكفاح جميل ورومانسي ومليء بالشغف ولكن أرسنال فينجر لم يعد يجيده، النادي الذي قاد انجلترا بأكملها يومًا ما قد تحول لمسخ مستأنس؛ فلا هو قادر على مجاراة سباق الأموال في المضمار الرئيسي ولا مقارعة الأندردوجز على الفتات في الشوارع الخلفية ولكنه لسبب غير مفهوم متمسك بمكانه على الحافة بين هذا وذاك في انتظار صدفة سعيدة لا يعلم أحد ماهيتها ولا متى تأتي، أرسنال فينجر تلقى ضربته القاضية الموسم الماضي عندما أثبت له رانييري أنه لم يعد قادرًا على استخراج الذهب من الطين كما كان، بل ولن يجد الذهب ولو ضربه أحدهم بسبيكة على رأسه، ليستر نزع ورقة التوت الأخيرة ثم أتى الصيف ليعلم الجميع أن أرسنال فينجر صار عاريًا تمامًا ولا يوجد نجم واحد مستعد لنزع قميصه الحالي من أجله.

وبعض النظر عن فشل فينجر التكتيكي والفني في الأعوام الأخيرة، فإن السؤال الأهم لدى الجماهير والنقاد على حد السواء كان ومازال عن التدعيم، غير عالمين أن أكثر من يخشى الاجابة على هذا السؤال هو فينجر نفسه، بل ويفضل الركض في دائرة المظلومية المفرغة لأنها الشيء الوحيد الذي يمنحه سببًا للبقاء، بينما الانصياع لانتقادات الجميع سيعني النهاية الحتمية لأرسنال فينجر؛ فالنجاح بعد التدعيم سيعني أنه أضاع سنينًا من عمر النادي في هراء لا أول له ولا آخر ليفدي كبرياءه وعناده فقط لا غير، والفشل لن يدع سوى جهة واحدة متبقية لتشير لها أصابع الاتهام: أرسين فينجر.