فيلم «Logan»: الإنسان وسؤال الدم
في البداية نتساءل لماذا أطلق المخرج وكاتب قصة الفيلم «جيمس مانجولد» على هذا الجزء من سلسلة «X-Men» اسم «لوجان»، وهو الاسم الإنساني لشخصية المتحول الأشهر التي ظهرت مع بدايات السلسلة من 17 عامًا؟
إن دلالات اسم لوجان وليس وولفرين في نهاية سلسلة الأجزاء الخاصة بهذه الشخصية، ترتبط تحديدًا بالجانب الإنساني في شخصية هذا المتحول صاحب الطفرة التي تنتمي لخليط من التراث والتطور الجيني في مزيج واحد (خليط المستذئب التراثي والطفرة الجينية المستقبلية)، في هذا المتحول يتجلى الصراع ما بين الإنسان والحيوان في أوضح وأجل صورة فلسفية ووجودية، وقد سبق أن قدم الجزء الأول من سلسلة وولفرين عام 2009 برهافة فلسفية وصلت إلى حد أن أطلقنا عليه أن نوعًا من «الأكشن الشعري»، أي الأكشن الدومي الممزوج بحس شعري ووجودي يخص سؤال الحرب الدائرة بين الغرائز الحيوانية والإنسانية داخل كل منا.
وكما بدأت الرحلة بالإنسان الذي يكتشف الوحش في داخله، تنتهي الرحلة بالإنسان الذي يسمم الوحش دمه، هنا أيضًا تبدو دلالة التسمم الداخلي للوجان بالمعدن الدخيل على جسمه والذي تم تركيبه كاستغلال لطفرة الشفاء التي يتميز بها، أقرب لدلالة فلسفية وشعرية بالإضافة بالطبع إلى استغلالها دراميًا على مستوى إبراز الجانب الأضعف والأكثر هشاشة في شخصية المتحول العجوز الذي يعيش فقط من أجل انتظار لحظة موت مناسبة.
منذ اللقطات الأولى في الفيلم يضعنا السيناريو والإخراج في مرمى الخبر الجديد «وولفرين يحتضر» لم تعد حواسه الحيوانية كما كانت، صحيح أن الوحش لا يزال في داخله لكنه لم يتمكن من التعايش مع الإنسان فظل كل منهم يكره الآخر، في اللقطات الأولى القريبة من أنف لوجان وأذنه (الحواس الأساسية في الغريزة الحيوانية) تلتقط أصواتًا وروائح لصوص الطريق الذين يحاولون تفكيك عجلات السيارة الليموزين التي يعمل عليها كسائق عجوز مختبئا في صخب الآخرين من العالم.
لكننا حين نرى وجهه وندرك أن علامات الكبر وتقدم العمر صارت أكثر وضوحًا عليه بصورة غير مسبوقة (حتى أننا نتذكر عندما رأته جين في المرة الأولى وقالت للبروفيسور اكس إنه يبدو شابًا لكنه أكبر منك بكثير) يطالعنا لوجان الإنسان في لقطات واسعة وهو متهدم، مهيأ للموت، رافض للاشتباك في معركة صغيرة كان من الممكن أن ينهيه في مرحلة سابقة بضربة واحدة لكل خص مهما كثر العدد. تطول معركة البداية لا لسبب سوى لأن لوجان هو الذي يحارب وليس وولفرين، لقد أضعف الوحش من الإنسان وترك دمه فريسة للسم وجسده عرضه للجروح والندبات التي كانت تلتئم في ثوان طالما أشعلت حماس المتلقين وارتبطت لديهم بتلك الشخصية الأيقونة.
سؤال الدم
ربما يرصد المتابع لسلسلة وولفرين أن هذا الجزء رغم تركيزه على الجانب الإنساني في شخصيته، إلا أنه يحتوي على عدد كبير من اللقطات الدموية التي تتفتت فيها الأدمغة ويندفع سائل الحياة الأحمر في وجه الكاميرا بعنف شديد، عنف يتولد للمرة الأولى في السلسلة من أطفال صغار وعلى رأسهم الطفلة لورا/ديفين كين، التي يقدم الفيلم من خلالها تنويعة على الصراع ما بين الوحش والإنسان على اعتبار أنها النتاج الجيني المباشر لوولفرين (ويكفي أن نتأمل بوستر الفيلم الذي يحملها فيه لوجان في وضع أقرب لوضع حيوان يحتوي صغيره دفاعًا وخوفًا عليه).
تنفذ لورا عددًا من مشاهد الأكشن الرائعة على مستوى التنفيذ وشديدة الحيوية والتدفق الدموي على مستوى الدراما، لكنها أيضُا تمنحنا بصمتها المقصود طوال النصف الأول من الأحداث ذلك الشعور بأن الجانب الحيواني فيها هو المسيطر، لا نستمع منها سوى لصرخات حيوانية غاضبة، ربما تمرد وعنف تجاه العالم الذي صنعها بهذه الدموية رغمًا عنها. ويرتبط عنف لورا المتصاعد بتلك البيئات المكانية التي يتحرك خلالها الفيلم عبر أحداثه.
في هذا الفيلم كما في بدايات سلسلة وولفرين، يتخلى الفيلم عن المعامل التكنولوجية المتطورة وعن الأماكن السرية ذات الشكل المستقبلي، وحتى عن أروقة المؤسسات السياسية كالبيت الأبيض أو البنتاجون ومقر المخابرات، نحن هنا أمام بيئة «ابوكاليبسية»، لكنها في نفس الوقت ذات البيئة الأولى التي خرج منها الإنسان في رحلته منذ بدء الخليقة. تدور أحداث الفيلم كلها تقريبًا ما بين الصحراء وطرق السفر وتنتهي في إحدى الغابات، وأي بيئة تصلح للوصول بالصراع بين الوحش والإنسان إلى ذروته أفضل من الغابة، مكمن التشبيه الأول وفضاء الصراع الشعري والفلسفي الذي لا ينتهي ما بين العاطفة والغريزة، وما بين العدل والجريمة، وما بين الشر والضمير.
في البداية نرى لوجان يختبئ مع البروفيسور «اكس» في ذلك المصنع الخرب كأنما يهرب من كل مظاهر الحياة والحضارة الإنسانية التي يأفل بريقها لصالح علامات النهاية أو فساد الذمم والنفوس.
الأب والابن.. الأب والابنة
وسط صحراء المكسيك نتعرف على تلك العلاقة الأبوية التي صارت تجمع وولفرين بالبروفيسور الذي صار الآن هو الآخر في نهاية رحلته الإنسانية يعاني من ضمور الدماغ والزهايمر، هل يتصور أحدهم أن أقوى عقل في العالم يعاني من تلك الأمراض البشرية التافهة على حد تساؤل رئيس فريق الصيادين الذين يسعون وراء لورا.
يقدم السيناريو تنويعة على موتيفة الأب والابن في علاقة لوجان بالبروفيسور المريض، لم يعد هناك مجال للمشاعر الرومانسية التي حاول وولفرين أن يرتقي بها فوق حيوانيته كما في الجزء الأول من السلسلة عندما هجر العالم وصعد إلى قمة جبال الروكي لكي يسمو فوق رائحة الدم التي تثير شهيته للقتل.
في المحطة الأخيرة وكمحاولة لبلورة المعاناة الإنسانية وتفجير قدر لا بأس به من المشاعر الخالصة، يتفنن السيناريو في تقديم تلك العلاقة الأبوية ما بين لوجان والبروفيسور تشارلز، كثيرة هي اللقطات التي يحمله فيها كابن بار يحمل أباه القعيد الذي أصبحت دماغه الغالية مصدر تهديد لكل من حوله (كما في مشاهد نوبات الطاقة التي تخرج من رأس البروفيسور وتكاد تدمر بناية بأكملها دون سيطرة منها عليه مما يجعلنا نتذكر تلك الكلمات الخالدة التي سبق وأن قالها لجين/ العنقاء قبل موته السابق في الجزء الثالث من السلسلة «لا تدعيها تسيطر عليكِ»).
بل ويكشف السيناريو عن جانب مهم من ذروته الفلسفية والإنسانية على حد سواء في المشهد الأخير للبروفيسور تشارلز عندما يقضي ليلة دافئة في منزل الأسرة التي استضافته هو ولوجان ولورا أثناء رحلتهم إلى عدن. في مونولوج رقيق وعبر لقطة قريبة من رأس البروفيسور على الوسادة وسط أجواء مريحة دافئة أسرية، يتحدث تشارلز لأول مرة عن افتقاده لهذا النوع من الحياة الإنسانية البسيطة الهادئة العادية. حياة بلا طفرات ولا معارك ولا محاولة فئة السيطرة على فئة أخرى أو استغلالها أو التسلط عليها.
لكن هذا المونولوج الفردي الرقيق ينتهي بمخالب وولفرين في صورته الحيوانية البحتة وهي تنغرز في صدر البروفيسور، لينتقل بنا الفيلم من مرحلة الصراع الداخلي الشعري، إلى مرحلة التجسيد المادي لهذا الصراع بظهور نسخة أخرى من وولفرين مخلقة جينيًا ولكنها كما يصفونها (بلا روح)، وكما هو معروف في بعض الديانات والفلسفات، فإن الفارق بين الإنسان والحيوان هو الروح (بصفتها النورانية الذكية وليس نبض الحياة).
ولكن قبل الحديث عن التجسيد المادي للصراع ما بين الإنسان والحيوان في الفصل الأخير من الفيلم يجب الإشارة إلى انتقال السيناريو لتنويعة الأب والابن – أو الابنة- في العلاقة التي تنشأ ما بين لوجان ولورا عقب وفاة البروفيسور وتحديدًا في اللحظة التي تنطق فيها لورا أولى كلماتها منذ بداية الفيلم كدليل على إنسانيتها المطمورة تحت ركام القتل وحمامات الدم التي تتسبب فيها كلما حاولت الدفاع عن نفسها. لا يغير السيناريو إذن من خطته في تحفيز المشاعر الإنسانية عبر موتيفة الحب الأبوي الخالص بين لوجان والبروفيسور وبين لوجان ولورا حتى أنها تناديه أبي في المشاهد الأخيرة.
معركة الروح
في كل الأجزاء السابقة كان لوجان يواجه عدوًا من نفس جنس المتحولين، أو من البشر أصحاب الرغبة في أن يصيروا متحولين، وفي الجزء الأول، من سلسلة وولفرين تحديدا، يواجه وولفرين أخاه فيكتور الذي كان يبدو وقتها التجسيد المادي للطبيعة الدموية الحيوانية التي ترتبط بطفرة وولفرين، وذلك في محاولة لتجسيد الصراع ما بين الحيوان والإنسان عبر موتيفة الصراع بين الأخوين.
لكن في المحطة الأخيرة من الرحلة واقتباسًا من فيلم «الاختيار» المصري (عارفين الإنسان بيقابل مين في آخر الرحلة الطويلة؟ بيقابل نفسه) يلتقي لوجان الإنسان بصورته الحيوانية وولفرين متجسدة في دم ولحم -متجدد وليس متهالك مثله – إنه يواجه في معركته الأخيرة نفسه الحيوانية، النصف الآخر الذي يرقد في داخل كل منا، هذا النصف الذي بلا روح، بلا ضمير، وبلا قدرة على هزيمته سوى عبر مساعدة من الآخرين، ربما من أجل هذا هيأ الله العالم في صورته البشرية على حد قول أحد الفلاسفة لأن كل منا يحتاج إلى آخر كي يساعده في الانتصار على نفسه.
إن لوجان في المحطة الأخيرة البعيدة يواجه نفسه الحيوانية، بينما هو في أضعف صوره الإنسانية جسمانيًا، لكن بداخله تلك الكتلة الشعورية البراقة والمتأججة تجاه لورا، ابنته التي لم تأت من صلبه ولكن من خلاصة جيناته المتحولة التي هي سر قوته وسر عذابه. في النهاية وبحكم قانون الغابة التي تدور فيها المعركة الأخيرة، ينتصر الوحش على الإنسان جسديًا لكنه يخسر معركة الروح.
يحمل وولفرين لوجان وخرق جسده بفرع شجرة مدبب يجعله أشبه بوضع المصلوب، بينما الغصن المدبب الدامي يخرج من صدره الذي لم يعد يلتئم كما كان، لكن لورا تتمكن من القضاء على رأس الوحش وتسقطه بنفس الطلقة الادمنيوم التي كان لوجان يعدها للتخلص من حياته.
تبدو الطلقة هنا وقد استقرت بالفعل في الرأس الصحيح، رأس وولفرين الوحش وليس رأس لوجان الإنسان، تبدو الطلقة هنا هي رصاصة الرحمة من عذاب الصراع ما بين طبيعتين لم تفلح الحضارة ولا التطور التكنولوجي في صياغة أي معادلة سلام بينهم بل على العكس يتهم الفيلم الحضارة في صورتها التكنولوجية الحالية والمستقبلية بأنها جزء من علامات النهاية، وبأنها وقعت في غواية الجانب الحيواني الشرس وليس الجانب الإنساني الأكثر ارتقاء على مستوى الروح والغريزة.
لا ننس أن السيناريو قدم شبه فصل كامل في بيت الأسرة السمراء التي استضافت لوجان والبروفيسور ولورا، وهي صورة للأسرة المتكاملة الأركان (أب وأم وابن) التي تبدو في هامش حياتي خاص بها، وديع وهادئ، لكننا نكتشف أنها جزء من ذات العالم الأسود، حيث تتعرض لمضايقات شركة احتكارية ضخمة تريد طردهم من منزلهم. يهدم السيناريو إذن منطق العالم المريح الدافئ الذي تصور تشارلز في مشهده الأخير إنه يمكن أن يعيش فيه، بل يهدم العائلة كلها بشكل دموي على يد وولفرين/ الوحش وصائدي الفتاة الصغيرة.
هذا الهدم والموت والعنف المفرط في مشاهد القتال هو اتهام صريح للوضع الإنساني الحالي، وهو ذاته الخلفية التي سوف تضطر لورا ومجموعة الأطفال الذين يمثلون الجيل الجديد من المتحولين أن يتعايشوا معه، ولكن بقدر أكبر من الروح وبقدر أقل من الدم.
لقد وصل لوجان إلى المحطة الأخيرة التي كان دوما يتساءل عنها، أو على حد قوله في كلماته الأخيرة، «هكذا إذن هو الموت» لكن السيناريو لا يكتفي بتلك الكلمات، وإنما يتجاوزها إلى مقطع مأخوذ من أحد أفلام الويسترن القديمة «Shane»، وهو الفيلم الذي نراه معروضًا في خلفية الجلسة التي جمعت بين تشارلز ولورا في غرفة الفندق قبل مداهمة المطاردين لهم، إنها ذات الكلمات الأخيرة التي تودع بها لورا لوجان في محطة أخيرة: