المخبرون المحليون وعنف «القيم الكونية»
يسوّق الكثير من الليبراليين العرب اليوم، سواء أكانوا علمانيين أو إسلاميين، بأنّ «تيمة» نقد الغرب اليوم ليست أكثر من تيمة محافظة ورجعيّة في ديارنا العربيّة والإسلاميّة. إنّها، بحسبهم، «كلاشيه» قديم، انهار بزوال الاتحاد السوفياتيّ، والذي يستعيد كلّ الآلة النقديّة في تفكيك الغرب -سياسيًّا واقتصاديًّا ومعرفيًّا- ما هو إلّا من تركة الفاشيّة المستبدّة لليسار، وبقايا من الأيديولوجيّات الكبرى التي انهارت بانهيار التجربة السوفياتيّة. اللافت للنّظر في النّقد الموجّه لمن ينقد الغرب دائمًا بسيط وساذج في آن، ويقوم على حجّة ضحلة في واقع الأمر: أنتم بنقدكم هذا تكرّسون «المحلّيّ» –الذي هو في نظرهم متخلّف وفقًا لعقيدة التقدّم التي يتبّنونها– وتلغون «الكونيّ» الذي شاركت الإنسانيّة كلّها في صنعه، والذي هو أكثر تحرّرًا وانفتاحًا.
من المثير أيضًا في هذا النّقد الليبراليّ، وفي الليبراليّة عمومًا، هو تقديم الليبراليّة ليس على أنّها أيديولوجيا موازية للأيديدولوجيات الأخرى المنافسة -سواء أكان معنى الأيديولوجيا بالمعنى البنائيّ والتجميعيّ أو بالمعنى السّلبيّ كما لدى الماركسيّة الأولى. بل تُقدّم الليبراليّة على أنّها تجاوز لـ «عصر الأيديولوجيات» الذي انتهى، ومن ثمّ فكلّ من يحاول أن ينطلق من أسس غير ليبراليّة في فهم الدّولة، والاقتصاد، وفي فهم تشكّل الذوات ضمن شروط الحريّة الجديدة التي يوفّرها العالم النيو-ليبراليّ فهو مؤدلج، ويقف على أيديولوجيا ضدّ قوى «التحرّر» والانفتاح الجديد. أي إنّ الليبراليّة ليست أيديولوجيا، إنّها التاريخ وقد حقّق إمكانه الأقصى -كما هي أطروحة فوكوياما، ولا عجب أن يكون أغلب الليبراليين بهذا المعنى فوكاميين. وبالتالي، فإنّ المعركة كما تصوّرها الليبراليّة ليست بين نظام سياسيّ وآخر، إنّها بين «الحريّة الإنسانيّة» و«الأيديولوجيا» الزائفة.
إنّ الليبراليّ العربيّ اليوم، وخاصّة الماركسيّ المُتلبرل، وهو يركن إلى الليبراليّة لا يعتقد بأنّه يركن إلى أيديولوجيا هدّامة وفتّاكة، وتُنتج الفقر والمرض والحرب يومًا بعد يوم، إنّه -بظنّه- ليركن إلى عالم تشاركيّ جديد، وإلى عالم فُتح بعد محاولات وضع الحدود فيما بينه من قبل الأيديولوجيات التي فصلت «الغرب» عن «الشرق». وهذه الدّعوى ببساطة هي ما أرادت دعوات السّوق أن تروّجه بكلّ بساطة: العالم قرية متجانسة، ولا «محلّيّ» في زمننا هذا، فالوعي البشريّ يحقّق تقدّمه الدائم نحو إنسانيّة واحدة. لكن ما يغيب عنه بالتحديد هو أنّ فكّ الارتباط وفضّ الحدود هذه ليست فعلًا تحرّريًّا بالمرّة كما تُقدّم ليبراليًّا، فإنّه يقع، في واقع الأمر، في سلطة مَن يحدّد الكونيّ من المحلّيّ، كما إنّ تحديد ما هو «كونيّ»، علاوة على ذلك، أمر يستند إلى تصوّر ورؤية ميتافيزيقيّة لماهيّة الإنسان والطبيعة البشرية. ومن ثمّ، فثنائية المحلّيّ/ الكونيّ هي ثنائيّة تحدّدها السّلطة المهيمنة –والتي هي سلطة الغرب هنا بما أنّه يملك جهاز المعرفة والسياسة اليوم– التي تكونن محلّيها ليكون كونيًّا وتضفي، من ثمّ، الطابع المحلّيّ على “محلّيّ” الثقافات الأخرى المنافِسة باعتباره محليًّا لا بدّ من دحره وتعميم ما هو كونيّ لمستقبل الإنسانيّة جمعاء.
يلعب المثقفون عمومًا في البلدان التي استُعمرَت دورًا غير هيّن بالمرّة يمسّ بإشكال المحلّيّ والكونيّ الذي أتناوله ههنا، حيث يندرجون ضمن خطاب الغرب حول الكونيّ والمحلّيّ، ومن ثمّ يقيمون ثقافاتهم المحليّة وفقًا لهذه الثنائيّة، وما يقبل أن يكون كونيًّا يدرجوه ضمن الكونيّ العالميّ، ويحاولون أن يتخلّصوا، على صعيد آخر، من المحلّيّ برمّته. أودّ أن أقدّم عددًا من الملاحظات بهذا الشأن، تبدأ بدور المثقفين، ولا تنتهي بتبدّلات جلد السّلطة الكولونياليّة والإمبرياليّة وخطابها الذي ينتشرُ ويصير عيانًا حيث هو أكثر خفاءً وظنًّا بأنّه غير موجود.
نعلم أنّ اصطلاح «المخبر المحلّيّ» –أو «الرّاوية الأصلانيّ» إذا شئنا الدّقة– هو مفهوم قديم نسبيًّا، لكنّه حاسم على أصعدة عدّة، يمتدّ من فرانز فانون إلى إدوارد سعيد وحتى حميد دباشي وغيرهم. وإذا كان «المخبر المحليّ» يدل، لحظة فانون، على المثقف «ابن البلد» (Native) الذي يتحالف مع الكولونياليّة من داخل بلده نفسه، فإنّ حميد دباشي، المفكّر الإيرانيّ صاحب «ما بعد الاستشراق» والكتب العديدة الأخرى، يعرّف المخبرين المحلّيين على هذا النّحو الذي سأنطلق منه، فيقول عنهم: «وُلد المخبرون المحليّون، ونشأوا في أمكنةٍ مثل إيران ولبنان والصومال وباكستان، وانتقلوا إلى أوروبا و/أو الولايات المتحدة الأمريكيّة من أجل تعليمهم العالي»؛ و«يمكنهم أن يتظاهروا بالمسؤوليّة وهم يخبرون غُزاتهم ليس ما يحتاجون إلى معرفته، بل ما يريدون أن يسمعوا. (وبدورهم، يسمّيهم الليبراليون الأمريكيّون والأوروبيّون ’أصوات المعارضة‘)». فما هو حاسم في تعريف دباشي هو كونهم موجودين في البلد الكولونياليّ نفسه، وليسوا -عكس فانون- في بلدانهم الأصلانيّة.
بيد أنّ هناك نوعًَا مختلفًا يمكن أن نرصده ههنا، وهو المثقف العربيّ الليبراليّ الذي يقدّم المادّة نفسها التي يقدّمها نظيره المخبر المحلّيّ القائم بالغرب عن مجتمعاته المحليّة، سواء عن ثقافتها أو تديُّنها أو اجتماعها، لكنّه لم تتمّ مأسسته وتنصيبه بوصفه مخبرًا محليًّا، إنّه ليؤدّي الدور تمامًا دون شعور بأنّه يخدم الغرب –فهو يفكّر بالغرب لا فيه أساسًا–، ويعتقد أنّه يؤدّي دورًا نقديًّا تجاه ذاته المحليّة وتجاه المحلّيين الذين يعيش بينهم –ولذلك، لا ينتبه أبدًا إلى أنّه يُوسع المحلّيين جلدًا ذاتيًّا بوصفهم مسؤولين عن فشلهم، وهو بهذا الفعل يخدم معرفيًّا الكولونياليين والإمبرياليين. إنّ السلطة، كما يعلّمنا فوكو، لم تعد عموديّة، بل لعلّ الإسهام الأهمّ لفوكو هو تبصّره لكون السّلطة غدت منتشرة وأفقيّة؛ ومن ثمّ لم يعد الوضع بحاجة إلى سلطة عموديّة بحيث تنصّب مخبريها فقط، بل هي تنشر معرفتها –رمزيًّا ومعرفيًّا– عبر خطاباتها وبناها، لتغدو كبداهةٍ، وبوصفها «روح العصر»، حتى وإن ظنّ المثقف/ المخبر الذي يتحرّك من داخلها أن يؤدي دورًا نقديًّا.
في هذا السياق، كانت إحدى الإشارات الذكيّة التي أشار إليها سلافوي جيجيك هي أنّ الموقف الليبراليّ مريح لأصحابه تمامًا، فهم عندما يضفون على الأيديولوجيا اليساريّة مثلًا وصف كونها «رعبًا شموليًّا»، ومن ثمّ يشرعنون النّظام القائم، فهم يعتقدون أنّهم يؤدّون نقدًا جذريًّا. تفيدنا إشارة جيجيك في الاستبصار للدّور «النّقديّ» –والظّفران لهما دلالة ههنا– الذي يلعبه المثقف الليبراليّ في بلادنا، فهو، أولًا، لا يهدّد النّظام القائم بدرجة كبيرة، لأنّ نقدَه بالأساس منصبّ على أمور لا تمسّ النّظام القائم، فهو عندما ينقد «حريّة الرأي» المهدرة في بلدٍ تحكمه حكومة مستبدّة، وطاغية، لن يكون الأمر كالذي ينقد تراتبيّة الطبقات ولا أصحاب رأس المال. ومن ثمّ، تغدو نضالاته «الثقافويّة» والقائمة على نظريّة معياريّة بالأساس لطبيعة الإنسان مجرّد نضالات جزئيّة، وسطحيّة في أغلب الأحوال. لكنّه، وهو يمارس دوره «النقّديّ» هذا، لا يمارسه في واقع الأمر على التصنيفات الجاهزة المكرّسة من قبل سلطة إمبرياليّة بيدها جهاز اقتصاديّ وسياسيّ ومعرفيّ ضخم، كتصنيف ما هو «محلّيّ» وما هو «كونيّ»، لذلك يغدو مخبرًا محليًّا على نحو طريف: إنّه ينقد ما هو محلّيّ بناء على معيار الكونيّة الذي يتبنّاه، ويُشار إليه في الصّحف الغربيّة على أنّه «مناضل»، في حين أنّه واقع في «سلطة خطاب» لا يمتلك إوالياته الرمزيّة فحسب، بل يمتلك إواليات مباشرة، سياسيّة واقتصاديّة. وهو يلعب دور الوسيط: يلوم الغرب على أنّه لا يلعب الدور الكافي في بلدانه «المضطهدَة»، ويلوم المحلّيين –بثقافتهم– على أنّهم غير «مُغْرِين» بما يكفي لأن يجذبوا عدّوهم الكولونياليّ إليهم (الذي ينظر إليه الليبراليّ العربيّ على أنّه حامل القيم التحرّريّة).
وإذا كان جورج طرابيشي، المفكّر الليبراليّ العربيّ والذي كان ماركسيًّا ذات مرّة، قد وصّف –نفسيًّا، بالمقام الأوّل– الهزيمة النفسيّة للمثقفين العرب بعد ١٩٦٧، ما أطلق عليه بذكاءٍ حينها «الرّضّة الحزيرانيّة»، حيث المثقفين العرب «المرضى بالغرب»، حسب تعبيره؛ فإنّنا نشهد اليوم موقفًا أكثر تعقيدًا رغم أنّه يبدو بسيطًا وواضحًا. فلم يعد الحال صراعًا أيديولوجيًّا بين تيارات مشرقانيّة لديها موقف من الغرب ومن الاقتصاد العالميّ (كما كان الحال بعد خروج الاستعمار)، ولم يعد أيضًا مجرّد ارتكاسات ثقافيّة نحو الليبراليّة بعد ٦٧، ومرض بالغرب؛ لقد غدا الوضع وهو في صورة طبيعيّة، فالآلة الجديدة للجهود الإمبرياليّة ترمي إلى «تسوية» الوضع بوصفه بديهيًّا: الغرب ليس فقط هو المتقدّم، بل إنّ ابتغاء أيّ نموذجٍ للتقدّم بعيدًا عنه يعدّ «شموليّة» جديدة، وإخلالًا بالقيم الكونيّة.
يلعبُ المثقفون العرب الليبراليّون هذا الدّور بالتحديد، حيث لم يعد الغرب سؤالًا لديهم أصلًا، بل غدا الأمر طبيعيًّا وكأنّه بدهيّ كأكثر أشيائنا ألفة واعتيادًا. ويصبح نقد الغرب في خطابهم هو نقد على أساس «القيم الكونيّة» التي بشّر بها الغرب وزرعها عبر بُناه التي ينشرها، وهو نقد استعطافٍ وطلب تدخّل وإعانة.
وما نلاحظه دائمًا هو أنّ المحليين، بقيمهم وثقافاتهم، لا يمثّلون أنفسهم البتّة، بل يُمثّلوا دائمًا إمّا عبر خطاب استشراقيّ، سواء أكان معرفيَّا، أو كان أنثربولوجيًّا يقدّم «تقارير» عن حالتهم للإمبرياليّ، وإمّا عبر أبناء جِلدتهم، المخبرين المحلّيين الذين يمارسون ما أسمته الفيلسوفة هنديّة الأصل غايتاري سبيفاك «عنفًا إبستيميًّا» يضاهي العنف الإبستيميّ الذي مارسه أسلافهم الكولونياليون حينما قسمّوا العالم، وحينما كَوْنَنوا قيمًا محليّة غربيّة على أنّها قيم كونيّة، واستدخلت من ثمّ قطاعاتٍ واسعة من العالم فيها، مروّجة إيّاها عبر بنى الثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ. لذلك، «هل يمكن للتابع أن يتكلّم؟» كما تساءلت سبيفاك، وهو السؤال الذي يجابهه المخبرون المحلّيون قبل الإمبرياليين أنفسهم، لأنّهم مُنصّبون على أنّهم قائلي الحقيقة عن هؤلاء المحليين الذين لا يعرفون أن يتكلّموا، أو، لنكون دقيقين، لا يمكن أن يُعترَف بكلامهم، لأنّهم لا يترجمون أنفسهم وفْق مصطلحات «الكونيّة» الإمبرياليّة، ومن ثمّ هم صمٌّ، وإن كان صوتهم أشدّ وضوحًا من مُمثّليهم الليبراليين الذين يقولون عنهم ما يريد غُزاتهم أن يعرفوا عنهم بالتحديد.