بين تقلبات البيئة وتعثرات الانقلاب وتصادم التحالفات

ومع الذكرى الأولى لتنصيب السيسي، والثانية لذكرى انقلاب الثالث من يوليو تأكدت التصدعات في التحالف الخارجي الداعم للانقلاب (بعد أن سعى سعيا حثيثا لترميمه خلال هذه الفترة). حقيقة يمكن رصد بعض المؤشرات التي تزامنت مع الذكرى والتي قد توحي بغير ذلك، مثل موافقة الكونجرس في يونيه/حزيران 2015 على عودة المساعدات العسكرية كاملة لمصر، واستقبال ميركل للسيسي في برلين في أول يونيه/حزيران 2015، واجتماع التنظيمات الأفريقية الاقتصادية لإنشاء منطقة التجارة الحرة في شرم الشيخ، إلا أنه مع صدور الأحكام بالإعدام على د.مرسي وصحبه في 16/6/2015 سرعان ما انكشفت من جديد ثنائية المبادئ /المصالح، في نفاق الغرب؛ حيث توالت المواقف المدينة للأحكام والمتهمة للقضاء بالتسييس. فلا مانع أن يوافق الكونجرس على عودة المعونة العسكرية المصرية موافقة مشروطة بحماية أمن إسرائيل والمصالح الاستراتيجية الأمريكية، ولا مانع في نفس الوقت، تجسيدًا للنفاق الأمريكي، من إدانة البيت الأبيض الأحكام الصادرة ضد د.مرسي وصحبه…!

بعبارة أخرى، وعلى ضوء سلسلة من مثل هذه المواقف الخارجية المنافقة للانقلاب يمكن القول إنه مع الذكرى الأولى لتنصيب السياسي تبلور بقوة أمرين:

الأمر الأول:

أن المستبد والحاكم الفرد يعتقد أنه أحكم قبضته على المعارضة للانقلاب بالقوة العسكرية، وأنه اطاح بمنافسيه من أعضاء تحالفه الانقلابي في 30/6، 3/7 والذين وفروا له الغطاء الشعبي والمدني اللازم لتجميل الانقلاب العسكري. فهو لا يأبه بالحريات والحياة السياسية الديموقراطية كما أنه اعتقد أن إحكام تحالفه مع الغرب وإسرائيل هو السبيل للبقاء والاستمرار بذريعة حماية أمن مصر من الإرهاب.

الأمر الثاني:

أن التحالف الخارجي (الخليجي، الغربي، الإسرائيلي) قد تحول من مساندة الانقلاب تثبيتًا لانطلاقه إلى احتواء نظام 3/7 وتقييده، فلم يكن بمقدور السيسي كما سبقت الإشارة، أن ينفذ -بشروطه- مخططه الساعي للشرعنة من الخارج، وذلك من خلال فرض تصوره عن دور «مسافة السكة» في الحرب على الإرهاب؛ لأنه واجه بيئة إقليمية وعالمية شديدة التعقيد وشديدة التركيب لم تكن راغبة في قبول شروطه بلا شروط. ولكن كانت -من ناحية- رافضة التعاون معه بشروطه في بعض الحالات (ليبيا)، أو تقبل التعاون بشروطها (العراق واليمن) أو تدير الاختلاف بشروطه (سوريا). وكانت تلك البيئة المركبة تريد من ناحية أخرى، الحفاظ على «الاستقرار المفروض بالقوة» في مصر (حتى لا يحدث فيها ما حدث في سوريا والعراق واليمن) لأن مصر رمانة مصالح إسرائيل والغرب وحتى لا تنجح فيها ثورة أو تغيير يهدد هذه المصالح. كل ذلك حتى يتم إعادة تشكيل المنطقة، وهي عملية معقدة لا تحتمل انفجار جبهة أخرى في مصر. ولأن مصر ليست سوريا والعراق واليمن، لأن جيش مصر –إلى جانب اعتبارات أخرى مجتمعية وسياسية- ليس مثل جيوش صدام وبشار التي أبدت الممانعة الشكلية للغرب وإسرائيل ولم تستقو إلا على شعوبها، وليس مثل جيش القذافي أو علي صالح الأقرب للميلشيات التي تنخر فيها الطائفية والقبلية.

ولقد كشفت مجموعة من الخصائص الإقليمية والعالمية عبر العام الأول من تنصيب السيسي هذين الأمرين بوضوح، وكانت منظومة التفاعلات الإقليمية المتداخلة المتشابكة في العراق وسوريا واليمن وليبيا مساحات لاختبار تأثير هذه الخصائص.

فمن ناحية:

تحولت الحروب المزعومة ضد الإرهاب (التي هي حروب ضد الثورات) إلى حروب طائفية بقيادة بقايا النظم المتهاوية التي أوشكت على الانهيار لتفسح الطريق أمام حروب طائفية من نوع آخر فيما بين المعارضين لهذه النظم، المتنازعين على السلطة بعد السقوط المرتقب لرؤوس تلك الأنظمة (بشار، علي صالح، ورثة القذافي، وورثة المالكي…). بعبارة أخرى: بعد أن تحالف الخارج الإقليمي الخليجي والعالمي (الغربي- الصهينوني) مع الثورات المضادة والانقلابات ضد الثورات بطرق متعددة (المراقبة عن بعد في اليمن، السكوت على بشار، المساندة المشروطة للسيسي، المصالحة بين ثوار ليبيا وورثة القذافي… المناورة والتلاعب بالطائفية السنية–الشيعية في العراق وبالقوميات العربية–الكردية – …)، أضحت الحرب على الإرهاب، التي استحدثت كغطاء للحرب ضد الثورات، أضحت حروبًا طائفية تحركها القوى الأقليمية والعالمية مباشرة أو من وراء الكواليس. وهكذا أدت المسارات المضادة للثورات إلى أن تصبح المنطقة ساحة للاقتتال العربي-العربي الأهلي غير مسبوقة في التاريخ الحديث للمنطقة أو في مفاصل إعادة تشكيل توازناته منذ الحرب العالمية الأولى على الأقل.

ومن ناحية ثانية:

البيئة الإقليمية والعالمية تكشف عن قلاقل في التحالفات والتحالفات المضادة ومحورها: المشروع الإيراني–الروسي في المنطقة في مواجهة المشروع الخليجي– التركي–الأمريكي (سواء في سوريا أو العراق واليمن وليبيا). وكان التغيير في القيادة السعودية بعد وفاة الملك عبد الله من أهم مصادر هذا القلق وما ترتب عليه من ملامح تغير السياسة السعودية تجاه تركيا وتجاه مصر وتجاه سوريا واليمن.

كما ظلت تركيا قادرة على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية عليها بسبب مواقفها ضد الانقلاب على كافة الثورات سواء في سوريا أو اليمن أو مصر أو ليبيا وضد كل إجراءات التقسيم في العراق وسوريا واليمن.

كما تظل كواليس إدارة الملف النووي الإيراني، وملف الحرب الباردة الجديدة بين روسيا وبين أوروبا والولايات المتحدة وملف إعادة تقدير وضع تركيا في المنظومة الإقليمية والعالمية، هي المؤثرة أيضًا على تفاعلات هذه الساحات الأربع المتفجرة باقتتال أهلي عربي-عربي. فيبدو أن هدف الوصول إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني يلقي بظلاله بقوة على المواقف الأمريكية والإيرانية حول الملفات الإقليمية المتشابكة، بل تعد هذه الملفات أوراق ضغط متبادلة بين الطرفين ولو من فوق رؤوس خليجية أو إسرائيل أو بمعرفتهما. وبالمثل بشأن تركيا وروسيا والسعودية. فإن إدارة هذه الملفات من وراء الكواليس يفوق المعلن منها.إنها حرب عالمية ثالثة تجري على أراضينا وتتم إدارتها من وراء الكواليس أكثر مما تتم إدارتها بمواقف معلنة.

ومازالت القوى الغربية تراقب ساحات المعارك على الأرض وتتدخل فيها كل بقدر حتى تكشف هذه المعارك عن حالة يمكن في ظلها فرض حلول سياسية من الخارج، ستكون حلول –وفق الاستراتيجية الخارجية التدخلية- لتقنين تقسيم جديد للمنطقة على أسس طائفية عرقية وقومية ودينية ومذهبية لن يخرج فائزًا منه إلا إسرائيل وإيران، ولو إلى حين.

والأمثلة الدالة على نمط هذه الاستراتيجية وأدواتها، متعددة ومتواترة عبر العام الماضي.

ومن أحدثها خلال الأسبوع الثاني من يونيه/حزيران الجاري (2015) ثلاثة أحداث: الأول: غارات التحالف الدولي الشديدة على قوات داعش خلال المواجهة بينها وبين قوات حماية الشعب الكردية عند تل أبيض، وذلك على عكس الإحجام عن القيام بهذه الغارات لمساندة الجيش العراقي والحشد الشعبي خلال تحرير تكريت أو خلال سقوط الرمادي، الثاني والثالث: الغارات الجوية المستهدفة لقادة القاعدة في جزيرة العرب وفي شمال أفريقيا في اليمن، ثم أجدابيا- ليبيا على التوالي في نفس الوقت الذي يواجه ثوار درنة تنظيم الدولة.

ومن ناحية ثالثة:

رعاية خليجية سعودية لحل سياسي في اليمن بعد فشل عاصفة الحزم الجوية في حسم المعركة على الأرض مع الحوثيين في نفس الوقت الذي انفجرت فيه حرب أهلية –طائفية مفتوحة عبر كافة محافظات اليمن. وهو الأمر الذي يمثل استنزافًا للموارد السعودية والإيرانية على حد سواء في حرب ممتدة لم يستطيع حتى الآن أحد الأطراف حسمها لصالحه، بل أخذت تداعيات هذه الحرب تمتد إلى الداخل السعودي.

ويمثل هذا الوضع قيدًا على قدر المساندة السعودية لمصر وإعادة لترتيب الأولويات: فمواجهة المد الإيراني أضحت تحوز الأولوية عن دعم الثورة المضادة في مصر. ناهيك عن أن دعم الثورة السورية أضحى يحوز الأولوية لدى القيادة السعودية الجديدة بتنسيق مع تركيا وذلك ضغطًا على إيران وحلفائها (بشار وحزب الله) في الشام. ولعل زيارة ولي ولي العهد السعودي لروسيا وصفقات السلاح التي تم توقيعها خلال الزيارة في منتصف يونيو/حزيران 2015 ذات دلالة أخرى على اتجاهات الحركة السعودية لاحتواء إيران في اليمن وسوريا والعراق من خلال التنسيق مع روسيا طالما مازال التحالف الأمريكي السعودي يواجه معضلات.

وجميع هذه الأوضاع لا يتم استدعاء مصر إليها بقدر ما تظهر حولها الاختلافات بين المواقف المصرية والمواقف السعودية-التركية: حول سوريا (مساندة مصر لحل سياسي يحافظ على نظام بشار)، ومحدودية المشاركة المصرية في عاصفة الحزم منذ البداية وعبر مسارها (على نحو مخالف لما سبق وأشاعه السيسي عن مسافة السكة), ففضلاً عن أن السيسي لا يقدم المساعدة طواعية وبدون ثمن، بقدر ما أنه لم يتم استدعاؤه بقوة منذ البداية. بل لقد انطلقت عاصفة الحزم قبل يوم من انعقاد القمة العربية في شرم الشيخ وبدون مشاورة معه، بل وتجاوزت عاصفة الحزم (مبادرة القوة العربية المشتركة) التي أطلقها السيسي خلال القمة العربية في شرم الشيخ في مارس/آذار 2015.

فلقد أراد السيسي بهذه المبادرة، المتعثرة حتى الآن، تقنين التدخلات بقيادة مصرية ووفق تصوره عن أهداف الحرب على الإرهاب بل وعن من هو «الإرهابي»؟ حيث يضع كافة التيارات السياسية الإسلامية: السلمية أو المسلحة، التكفيرية وغير التكفيرية، الثورية الشعبية أو العميلة المخترقة والموجهة، يضعها في سلة واحدة، يريد تدخلاً دوليًا عسكريًا ضدها جميعها، وفي استراتيجية شاملة. وفي المقابل فإن الولايات المتحدة وأوربا، وعلى عكس روسيا، مازالا لا يضعان رسميًا الإخوان على قائمة المنظمات الإرهابية، ويتعاملان مع كل ملف إقليمي وفق مقتضيات استراتيجتهما. وإذا كان الغرب لم يجرم الإخوان حتى الآن بالإرهاب، فذلك لا يمنع احتمال وقوعه، ولكن السؤال هو: متى؟ ولماذا؟

ذلك لأن التجريم بالإرهاب من عدمه هو ورقة من أوراق الضغط الخارجي على الإخوان. ويظل السؤال لماذا؟ ومتى؟ من أجل قبول حل سياسي داخلي مع نظام 3/7 أم للضغط على السيسي وتقييد شرعيته وعدم تدعيمها؟

ولقد بينت مسارات الحروب المشتعلة في المنطقة كيف أخطأت السياسة السعودية مع الملك عبد الله في إعطاء الأولوية لتجريم الإخوان والحركات السياسية الثورية السلمية وليس لمواجهة المشروع الإيراني المتنامي أو مشروع داعش. ويبدو أن السياسة السعودية مع الملك سلمان -في مواجهة تهديدات هذا المشروع لجوارها اليمني والعراقي وفي سوريا بل وفي داخلها- قد كشفت عن احتياج السياسة السعودية لتيارات الإسلام السني (الإخوانية وغيرها) للتصدي لتهديدات داعش والمشروع الإيراني على حد سواء. وهو الأمر الذي جعل السياسة المصرية تجاه سوريا والعراق واليمن بل وليبيا في تناقض مع هذا الجانب من السياسة السعودية تجاه هذه الحالات. نظرًا لاستمرار إصرار السياسة المصرية على أمرين: من ناحية تجريم الإخوان وغيرهم بالإرهاب وذلك تدعيمًا لموقف الانقلاب المصري داخليًا. ومن ناحية أخرى: استمرار الإصرار على الحلول العسكرية اعتقادًا بقدرتها على حسم المعارك لمصالح الأنظمة المتهاوية العميلة الخادمة لمصالح الغرب وإسرائيل سواء ببقائها أو سواء بتداعيات سقوطها من حيث تقسيم المنطقة وتشرذمها على أسس طائفية.

بعبارة أخرى فإن إسقاط السيسي لرؤيته عن الحالة المصرية على الحالات الأخرى يحول دونه وتكوين رؤية استراتيجية واضحة عن الدور المصري وعلاقته بأدوار القوى الإقليمية والعالمية.

ولهذا ورغم استمرار الاقتتال العربي-العربي على الساحات السورية واليمنية والعراقية والليبية، تستمر الدعوات والمبادرات الإقليمية والدولية الداعمة لحوارات سياسية بشأن سوريا واليمن وليبيا. وتتردد من وراء الكواليس أخبار عن مبادرات للمصالحة في مصر بقيادة الملك سلمان انضمت إليها جهود تونسية وقطرية في الأيام الأخيرة (مبادرة الشيخ راشد الغنوشي خلال زيارته السعودية، والمحادثات القطرية –الإماراتية خلال زيارة أمير قطر للإمارات في منتصف يونيه، زيارة محمد بن زايد لمصر في أوائل يونيه 2015….)، وذلك في نفس الوقت الذي تتوالى أحكام الإعدام والمؤبد على الرئيس د.محمد مرسي وصحبه، وتستمر سياسة الاعتقالات والمنع من السفر. وجميعها أمور تبين تمسك السيسي بمسار الحل الأمني، وفي نفس الوقت الذي يستمر فيه بناء الموجة الثورية القادمة، تتنامي أعمال العنف الاحتجاجية النوعية المسماة: الأعمال الإرهابية. ويظل النظام غير قادر على حسم المواجهة مع الفصائل المسلحة في سيناء التي تمارس أعمالاً إرهابية ضد الجيش والشرطة.

ومن ناحية رابعة وأخيرة، وليست الأقل أهمية:

فإن الدائرة الأساسية بل والوحيدة التي تتلاقى فيها إردادة القوى الغربية وإرادة الانقلاب بدون شروط أو مناورات أو تقييد خارجي لنظام 3/7، هي دائرة سيناء والموقف من المقاومة الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل، فإن تصفية المقاومة لإسرائيل وضمان أمن إسرائيل صراحةً وعلانيةً من أهم أهداف نظام 3/7. فإن الكراهية للثورات والتغيير، والكراهية لصعود الإسلام السياسي المصاحب لها، ولو بأشكال مختلفة سلمية أو مسلحة، جمع بين إسرائيل والانقلاب ونظام 3/7 في تحالف عضوي استراتيجي غير مسبوق. لدرجة أطاح معها مدّعو مناصرة القضية الفسطينية والمعادون للصهيونية، المتحالفون الآن مع قوى التطبيع منذ 30/6، 3/7، بكل ما سبق وأعلنوا الدفاع عنه من مبادئ؛ وذلك من أجل دعم الانقلاب الذي خلصهم من «الإسلام السياسي في مصر»، حتى ولو كان مازال هو الذي يقود المقاومة المسلحة (في غزة) أو السلمية المدنية بالمشاركة مع غيره في الضفة وفي أرض فلسطين 48.

ولسنا هنا بمعرض تناول تفاصيل سياسات الانقلاب المعبرة عن هذا التحالف العضوي مع إسرائيل، وهي عديدة، تضيف إلى ما تصرح به الأوساط الإسرائيلية الرسمية والإعلامية نفسها عن هذا التحالف. يكفي الإشارة إلى الحملة العسكرية لإزالة رفح وإقامة المنطقة العازلة والسيطرة العسكرية على ميناء العريش وكافة الانتهاكات ضد أهل سيناء وممتلكاتهم وأرواحهم خلال عمليات مكافحة الإرهاب.

ويكفي أيضًا الإشارة إلى تداعيات وعواقب مشروع قناة السويس (التفريعة ومنظومة المشاريع الخدمية والإنتاجية) الذي لم تتضح صورته الكلية، قانونيًا وفنيًا بعد، ولكن تتضح عواقبه السياسية والأمنية لاندراجه في تنفيذ مخطط التحالف الاستراتيجي المصري-الإسرائيلي عن مستقبل سيناء وغزة بل ومستقبل القضية الفلسطينية.

فكلا الجانبين: الحملة العسكرية في سيناء، ومشروع قناة السويس وجهان لعملة واحدة وثيقة الصلة بالأمن القومي المصري بمعناه الشامل. وكلاهما يلقيان التأييد والدعم الكامل من الغرب. وعلى نحو يهدد بانهيار رصيد مصر في الدفاع عن القضية الفلسطينية، رغم كل ما تدعيه السلطات الانقلابية وأذرعها الإعلامية عن استمرار حرص مصر على مسانده القضية، وأن حمايتها وخدمتها ليس له علاقة بحصار حماس أو الحض على استئصالها بل العكس!!!


المأزق الخارجي: أسئلة غير قابلة للجواب!

إذا كانت مساندة بشار ضد الثورة عليه، وإذا كانت مساندة حفتر ضد ثوار ليبيا الذين أسقطوا القذافي، وإذا كان التردد في المشاركة في مقاومة الحوثيين وعلي صالح في اليمن، وإذا كانت مساندة حكومة العبادي الطائفية الشيعية بالسلاح والتدريب، هي من أهم أبعاد سياسة السيسي تجاه محيطه الإقليمي، فإن مساندة إسرائيل في حربها على حماس ورفضها التسوية السلمية التي يقبلها عباس هي الأخطر وهي الكاشفة لحقيقة هذا النظام المعادي للثورات والتغيير في المنطقة والذي يهدد الأمن المصري والأمن القومي العربي برمته؛ لأنه يرفض حق الشعوب في التغيير ويتحالف مع المشروع الإسرائيلي… ولا يتعاون مع الخليج إلا لأمواله، ولا يفعل شيئًا لوقف الاقتتال العربي-العربي بل يذكيه، ولا يفعل شيئًا لوقف التقسيم الجاري في المنطقة، وهو الذي تنعق أذرعه الانقلابية بأنه المنقذ لمصر من “المشروع التآمري الأمريكي الصهيوني لتقسيم المنطقة” بالتآمر مع الإخوان، مع أن السيسي ونظامه هم الذين يقومون بذلك التآمر من أجل الشرعنة والاستمرار في السيطرة.

فمن الإرهابي؟ ومن المتآمر؟ ومن العميل؟ ومن مدعي البطولة والوطنية؟ ومن مدعي الاستقلال الوطني، الذي يتأرجح بدون بوصلة بين الروس وبين الأمريكيين، معتقدًا أنه يستطيع التلاعب بالاختلاف الراهن بينهما؟ في حين أن هذا الاختلاف محكوم بقواعد أخرى غير قواعد الحرب الباردة السابقة التي أعطت لعبد الناصر ومن تزامن معه من قادة أفريقيا وآسيا فرصة المناورة بين القطبين.

بعبارة أخيرة، في حين يدير الكبار في الشرق أو الغرب حربًا عالمية ثالثة في المنطقة من وراء الكواليس ومن فوق رؤوس كل العملاء الأقزام في المنطقة، فإن هؤلاء المتهاوين الذين يتباهون أمام شعوبهم المضحوك عليهم– بأنهم أبطال الوطنية والاستقلال، يتم تحريكهم والتلاعب بهم؛ لأنهم في الأصل والمبتدأ عملاء، يرضون بالبقاء في السلطة لتأدية الوظائف للأسياد وليس الأوطان، هكذا هم في الداخل أو الخارج، إقليميًا وعالميًا،…

خلاصة القول: إن نظام 3/7 عليه وعلى من يساندونه أن يجيب عن الأسئلة المفروضة من واقع كل التحليل السابق عن تحولات البيئة الإقليمية والعالمية الحاضنة للانقلاب وما تقدمه له من فرص أو قيود؛ وهي كالتالي:

  • ما الذي يقدمه الانقلاب ليحول دون مشروعات التقسيم الجارية بل لوقف الحروب الأهلية الطائفية الجارية التي تقود إليها؟ وأليست مصر-السيسي وقودًا لها؟ أليس مفهومه عن “الأمن القومي العربي” هو الوجه الآخر للحرب على الإرهاب؟ وألا تذكي هذه الحرب بالطريقة التي يتم إداراتها بها جذوة الحروب الأهلية وجذوة التقسيم، أكثر مما تقاوم الإرهاب؟ بعبارة أخرى: ألم تؤد الثورات المضادة والانقلابات إلى دعم مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي قامت الثورات لإجهاضه؟ ألم يكن في نجاح الثورات –سلميًا- الحائل دون الاقتتال ودون التقسيم؟!
  • هل تحقق للسيسي المأمول له من وراء وظيفته في الاستراتجية العالمية للتصدي للثورات والتغيير في المنطقة أم أن دوره المأمول تحيطه القيود أكثر مما تحيطه الفرص سواء من الداخل (تدهور الداخل اقتصاديًا وتصدع التحالف الانقلابي، واستمرار المقاومة له…) أو من الخارج (حسابات مغايرة للقوى الإقليمية والخارجية تستخدمه ولا تخدمه)؟
  • هل تساند مصر الحلول السياسية التصالحية في الجوار الإقليمي السوري العراقي الليبي اليمني أم تعرقله؟ وهل الحلول السياسية تدفع إليها القوى الإقليمية والغربية حاليًا وتعمل من أجل نجاحها حقيقة، أم مازالت تلك القوى تحرث التربة وترويها بدماء الشعوب حتى تتهيأ لحل سياسي لا يتناقض ومصالحها؟ وهل حل الأزمة السياسية في مصر –التي لم تنفجر بعد عسكريًا- هو نتيجة أم شرط مسبق للحلول السياسية في المنطقة؟ وهل يستعد السيسي لمثل هذا الحل السياسي في مصر أم يرفضه؟
  • كيف تدير مصر التناقضات التالية في سياستها: فكيف يتعاون السيسي مع ليبيا، سوريا، اليمن والعراق؟ وما هي القوى والكتل التي يؤيدها السيسي في كل دولة؟ وألا يؤثر ذلك على تحالفاته المتشابكة والمعقدة مع الخليج والولايات المتحدة وأوربا؟ فعلى سبيل المثال: أليس التعاون مع الملك سلمان في عاصفة الحزم يفترض قبول دور الإخوان في مقاومة الحوثيين؟ أليس العمل على إيجاد مخرج لبشار من خلال حل سياسي يضع السيسي في تناقض مع سياسة السعودية الساعية لإسقاطه ومع دور الإخوان وغيرهم من الفصائل الإسلامية التي تدعمهم السعودية ضد بشار لإسقاطه؟ أليست مساندة الحل العسكري في ليبيا يتناقض مع التوجه الأوروبي المراهن على حل سياسي توافقي؟
  • ألم تثبت الدبلوماسية الشعبية المصرية فشلها في الغرب مع استمرار اتهام الإخوان بالنجاح في اختراق الإعلام الغربي؟؟ هل الانزلاق في تأييد الكاتدرائية المرقسية وتوظيفها سياسيًا والإفراط في الحديث عن مواجهة الفاشية الإسلامية الدينية والحاجة لثورة دينية، يساعد في مواجهة الحروب الطائفية في المنطقة ومنع امتدادها لمصر؟
  • إذن هل الإنجاز الوحيد الذي يركز عليه السيسي وأذرعه -وهو التصدي لمشروع الإخوان وما يصفونه بالفاشية الدينية في المنطقة- يفتح الطريق أمام الاستثمارات، أمام السياحة، أمام موارد الطاقة…إلخ من متطلبات التغيير السياسي والاقتصادي في مصر اعتمادًا على الخارج؟
  • ثم ما الشكل المرتقب للمنطقة وموضع مصر فيها؟ أليست مصر–الانقلاب أداة من أدوات إعادة التشكيل الجارية وفق مخطط التقسيم، بعد أن كانت أنظار العالم كله تتجه إلى مصر-الثورة 2011 على اعتبار أن مصير نموذج الحرية والديمقراطية والتغيير يرتهن بمآل الثورة المصرية؟

ألم تعرفوا بعد لماذا قام الانقلاب؟

ألم تعرفوا بعد أنه ليس أداة حماية من الفاشية الدينية ومن الفوضى، ولكنه أداة في مرحلة أخرى من مراحل تطويع المنطقة لتظل تابعة؟ ولذا مازالت الشعوب الثائرة تقاوم سلمًا أو حربًا؟ولعل بقية الشعوب تفيق…فإن نظام 3/7 ليس بهذه القوة المدّعاة، فلقد تصدع تحالفه الداخلي، كما أن بيئته الإقليمية والعالمية الحاضنة تكشف حقيقته وطبيعته بأكثر مما يقدر على الإخفاء. وإذا كان السيسي مازال يوهم الناس ويدعي أنه يقاوم الإرهاب والتقسيم الطائفي والفاشية الدينية والمؤامرة الأمريكية الصهيونية، فإن المؤشرات –كما أسلفنا- تفيد بعكس ذلك، ويكفيه عارًا أن مواقفه المتأرجحة تأخذه في جانب إيران، روسيا، إسرائيل. في نفس الوقت الذي تقيده وتحد من فرصه تلك التغيرات في السياسة السعودية وفي التحالف السعودي التركي القطري، وفي الحسابات الأمريكية والأوروبية.

خلاصة القول أمران:

الأول: أن البيئة الإقليمية والعالمية تحاصر السياسة السيساوية الخارجية –والداخلية أيضًا- بمأزق شديد، وتكشف حقيقتها؛ حيث تضعها بين مطرقة السعي نحو الشرعنة من الخارج، وسندان الادعاءات والأوهام عن استعادة الدور الخارجي حماية للاستقلال الوطني وحماية الأمن القومي العربي بعد سنوات الثورة العجاف!

ذلك لأن السياسة المصرية، تحت تأثير هذين الهدفين المتناقضين وفي ظل تشابك وتعقد التحالفات والتحالفات المضادة الإقليمية، تواجه معضلات وتناقضات ليس بمقدور السيسي، الذي ينفرد بصنع السياسة الخارجية، أن يديرها؛ ذلك لأنه لا رؤية له تحرك السياسة الخارجية إلا رؤيته عن كيفية شرعنة نظام 3/7 بالحرب على إرهاب الإخوان بمساعدة الخارج. ومن ثم نظرًا لتحكم هذه الرؤية دون غيرها وإسقاطها على كل الملفات الإقليمية والعلاقات الدولية، فتقع سياسة السيسي في تناقضات تزيد من القيود عليها.

الأمر الثاني: أن ادعاء السيسي التصدي للفاشية الدينية، وأن مصر أضحت حائط صد لتمددها في المنطقة ليس كافيًا أو ليس بالبراعة اللازمة لتعبئة مساندة إقليمية وعالمية مطلقة وغير مشروطة لرؤيته وتصوره عن دور مصر واحتياجاتها.

فلا سماح لدور إقليمي فعال حتى الآن لمصر، وفي نفس الوقت لا رفض أو معاداة لنظام 3/7. ولكن تمارس البيئة الإقليمية والعالمية بتحالفاتها الشائكة والمعقدة والمتغيرة تقييدًا واحتواءً لدور السيسي والعمل على فرض “استقرار” ولو هش في مصر (الضعيفة) بالضغط من أجل حل سياسي بين العسكر والإخوان.

فبعد انتهاء فترة المراقبة للمنطقة والتلاعب بأطرافها يأتي التحرك الآن -فيما يبدو- لصياغة سيناريوهات الحلول السياسية للملفات المتفجرة عسكريًا؛ وهي للأسف سيناريوهات للتقسيم، وسيناريوهات ضد كل تغيير يحقق أهداف الثورات السلمية التي اندلعت في ربوع المنطقة في ربيع 2011!!