لواء القدس: حلقة جديدة من توظيف الأسد للقضية الفلسطينية
في ظل حكم نظام الأسد لسوريا سعى إلى بسط نفوذه على ما استطاع إليه سبيلًا من بلاد الشام أو «سوريا الكبرى»، وبالتالي كان من أهم أهدافه امتلاك أوراق القضية الفلسطينية لتخوفه من أن يتم استبعاده من أي اتفاق سلام مع إسرائيل، مما يشكل تهديدًا لنفوذه الإقليمي وشرعيته في الداخل.
وعمل حافظ الأسد على احتواء الفصائل الفلسطينية بالترغيب والترهيب، مستندًا إلى وجود كتلة بشرية كبيرة من اللاجئين في بلاده؛ إذ تحتضن دمشق وريفها معظم الفلسطينيين في مخيمات أكبرها مخيم اليرموك، جنوب العاصمة، الذي يشتهر بأنه «عاصمة الشتات الفلسطيني»، وكذلك مخيمات السيدة زينب والسبينة وخان الشيح وجرمانا وخان دنون والحسينية، وينتشر بقية اللاجئين قرب المدن الكبرى مثل مخيمي الرمل في اللاذقية غربًا ودرعا جنوبًا، و«العائدين» في حماة، وحندرات والنيرب، قرب حلب شمالًا.
وفي سبيل التخلص من تهمة التنازل عن الجولان لإسرائيل التي لاحقته طوال عهده، تبنى الأسد الأب شعارات قومية رنانة زايدَ بها على الأنظمة العربية الأخرى، وأخذت القضية الفلسطينية حيزًا كبيرًا في الإعلام الرسمي السوري، لكن على أرض الواقع كان الجيش النظامي يدك معاقل فصائل المقاومة الفلسطينية ويطاردها حتى طردها من لبنان تاركة وراءها المخيمات تنزف دمًا في سلسلة من المجازر التي لا تقل ضراوة عما شهدته الأراضي التي نزح منها هؤلاء اللاجئون، وقد عاونه في ذلك فصائل فلسطينية اصطنعتها المخابرات السورية.
فقد كان ثمن الدعم الكلامي للقضية تحوُّل ولاء عدد من المقيمين في المخيمات السورية إلى نظام الأسد على حساب قضيتهم، التي لم يتخلوا عن رفع شعاراتها والحديث باسمها.
تأسس فرع «فلسطين» التابع للمخابرات السورية عام 1969، ويُعرفُ كذلك باسم «فرع 235»، ويسميه السوريون «الفرع الأسود»، وهو سجن في العاصِمة دمشق تخصص في البداية في متابعة فصائل وجماعات المقاومة وضبط حركتها، وركز على متابعة الفلسطينيين المقيمين في البلاد، وكان أداة النظام السوري لإحكام سيطرته عليهم، لكن نزلاءه لم يكونوا فقط من الفلسطينيين، بل ضم لاحقًا معتقلين أجانب ومواطنين معارضين للنظام، وحظي هذا الفرع بسمعة شديدة السوء، واشتهر بأبشع أساليب التعذيب، ويكفي ذكر اسمه لبث الرعب في قلوب السامعين، حتى ممن لم يرتكبوا جرمًا أو ينخرطوا في أي نشاط سياسي.
قتل السورييين ببندقية فلسطينية
وصلت أعداد الفلسطينيين في سوريا إلى أكثر من نصف مليون لاجئ بحلول عام 2011، وهو العام الذي اندلعت فيه الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بشار الأسد، وقد وقف الفلسطينيون موقف الحياد كعادتهم خلال العقود التي قضوها في سوريا.
ومع ذلك خرجت بثينة شعبان، مستشارة رئيس الجمهورية، لتوجه أصابع الاتهام إلى سكان المخيمات بالوقوف وراء المظاهرات التي انطلقت ضد النظام، وفي نفس الوقت تم الضغط على الفصائل الفلسطينية وتهديدهم بالتهجير والملاحقة لتنخرط في الصراع من أجل ترجيح كفة النظام الذي وصفه رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد بأن أمن واستقرار إسرائيل رهنٌ ببقائه، قائلًا في حديثه إلى نيويورك تايمز: «إذا لم يكن ثمة استقرار هنا، فلن يكون هناك استقرار في إسرائيل».
ونجح النظام في جر فصائل وجماعات فلسطينية إلى ساحة الحرب الأهلية لتقاتل إلى جانب الجيش النظامي تحت اسم «القوات الرديفة»، بل شارك هؤلاء في حصار وتجويع إخوانهم في المخيمات ومنعوا عنهم الغذاء والدواء حتى مات الكثيرون تحت هذا الحصار.
وقد أحصت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، آلاف الضحايا منذ عام 2011، بين قتلى بالتعذيب أو بالقصف الجوي، أو حتى أعضاء ميليشيات موالية للنظام قُتلوا في اشتباكات مع فصائل المعارضة.
لواء القدس
وكان من بين هذه الميليشيات التي اصطنعها النظام «لواء القدس» الذي تأسس في أكتوبر/تشرين الأول 2013، بدعم من «المخابرات الجوية»، وأشرف عليه «فيلق القدس»، الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني، الذي كان يرعى عددًا من الميليشيات قرب مطار النيرب العسكري في حلب شمال البلاد.
وقاد هذه الميليشيا العقيد محمد السعيد، وهو فلسطيني من مخيم النيرب كان يعمل في مجال المقاولات قبل اشتعال الاحتجاجات عام 2011، وهو متهم بالضلوع في عمليات خطف وقتل وتعذيب والمشاركة في قمع المظاهرات.
وينحدر معظم منتسبي الميليشيا من مخيمي النيرب وعين التل (يسمى أيضًا «حندرات») اللذيْن يضمان اللاجئين من شمالي فلسطين، ويقع الأول على الأسوار الجنوبية لمطار حلب الدولي، وقد تأسس في 1948، وتزايدت أعداد المقيمين فيه حتى وصلت إلى نحو 40 ألفًا، أما مخيم حندرات فقد أنشئ عام 1962، على مرتفع صخري شمال شرق مدينة حلب، وكان يستضيف نحو ستة آلاف لاجئ، ولاحقًا انضم إليه بعض الشباب من مخيم الرمل في مدينة اللاذقية الذي أنشئ عام 1952 ووصل عدد سكانه إلى قرابة السبعة الآلاف قبل 2011.
وانضم هؤلاء اللاجئون إلى ما يسمى بـ «القوات الرديفة للجيش العربي السوري» (الشبيحة) حسبما يسميها المعارضون، وشاركوا الجيش النظامي في معاركه ضد فصائل المعارضة السورية وقاتلوا بقوة في أعنف المعارك في الأحياء الشرقية من حلب، والتي كان سقوطها مدويًا في ديسمبر/ كانون الأول 2016، ووثق مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وقوع انتهاكات تصل إلى درجة «جرائم حرب» في تلك المعارك.
وتوسعت مناطق عمل لواء القدس، فلم تعد تقتصر على محيط حلب، بل انتقل إلى محافظة دير الزور بعد سيطرة الجيش النظامي على مناطق كبيرة في البادية شرق البلاد.
وفي عام 2019 بدل لواء القدس ولاءَه، فاستبدل بتبعيته لـ “فيلق القدس” الإيراني تبعيةً للجيش الروسي، وتمت إعادة هيكلته وتدريبه تحت إشراف الفيلق الخامس الذي تشرف عليه موسكو، وفي عام 2020 توسع عمل الميليشيا ليصل إلى محيط محافظة إدلب في الشمال الغربي.
وتعرض عدد من قادة «لواء القدس» إلى محاولات اغتيال، كان أبرزها مقتل القيادي محمد رافع، بينما نجا محمد السعيد من كل المحاولات، وفقدت الميليشيا أعدادًا غير معلن عنها من المقاتلين، معظمهم في حلب وريفها ومناطق البادية، وتلاحق عناصرها اتهامات بارتكاب عدد كبير الجرائم بحق الشعب السوري من قتل وتهجير ونهب للمنازل والممتلكات.