رواية «1942»: توثيق لكارثة منسية على أرض الصين
كان الأدب ولا يزال أحد أهم الوسائل المؤثرة في الأمم والشعوب، وربما من هنا اكتسب دوره وأهميته في توثيق عدد من الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية، وكثيرًا ما دار النقاش والجدل حول المسافة بين التاريخي والأدبي في الروايات التي تتخذ من التاريخ الحقيقي قديمًا أو حديثًا أساسًا في بنائها، ولكن ماذا لو كان مقصد الكاتب في الأصل والأساس هو توثيق الكارثة التي حصلت لمنطقته وأهله؟ كيف يكون الأمر؟ هل يلتزم بالحياد فعلاً؟ وهل يتحوّل الأمر بين يديه من مجرد توثيق للحدث إلى سردٍ ميلودرامي فج؟
في روايته الصادرة مؤخرًا، بترجمةٍ عربية مميزة من د.يحيى مختار، عن مؤسسة (بيت الحكمة) للأدب الصيني، يسرد الروائي ليوجين يون أحداث ما دار في بلدته «مقاطعة خنان» في عام 1942 من كارثةٍ ومجاعةٍ مروعة قضت على حياة ما يقرب من ثلاثة ملايين نسمة ما بين الموت جوعًا والموت بسبب كارثة الجراد. وما أزعج الكاتب ودفعه لتوثيق هذه الحادثة هو شعوره أنها ستنسى وسط الأحداث الكبرى التي دارت في الصين والعالم في ذلك الوقت.
الصمت مشاركة في الجريمة
تبدأ الرواية من الكارثة مباشرة، ونتعرّف من خلال الكاتب على أفرادٍ من عائلته الذين يعتبرهم شهود هذه الواقعة الذين ينتقل من خلالهم إلى وصف ما حدث بشيءٍ من التفصيل. وعلى عادة الروايات الوثائقية ينتقل الكاتب بذكاء بين راوٍ وآخر، بعد أن يكون قد علق على ما عرفه أو ذكره أحد هؤلاء الرواة، وما الذي يجعله ينتقل لأخذ معلوماتٍ عن الآخر. يستعين الكاتب بعدد من المصادر الصحفية النادرة التي عرضت طرفًا من المشكلة، ولكنه لايكتفي بها بل يسعى لجمع أكبر قدرٍ من المعلومات ممن بقي حيًا بعد هذه الكارثة.
لا يتوقف سرد الكاتب ورصده لجوانب الكارثة عند التوثيق فحسب، وإنما يبدأ بمحاولة البحث عن السبب في ما حدث كله، ومساءلة النظام ومن حوله من مثقفين، وكيف يمكن أن يكون هؤلاء بسكوتهم أو تجاهلهم للأمر أحد أسباب تجاهل النظام للكارثة واهتمامهم بها.
بين الشعب والجنرال
تنقّل الكاتب في السرد بين رصد الواقع المأساوي الذي كانت فيه أهل تلك المقاطعة/البلدة وبين الحال الذي كان يعيش فيه الرئيس الجنرال تشيانغ كاي شيك ومن حوله، ويصف حياتهم بشكلٍ واقعي يدفع القارئ تلقائيًا إلى المقارنة بين ما هم فيه وبين تلك الكارثة المحدقة بأفرادٍ من شعبه، ليدرك الجميع بشكلٍ مباشر أن هذا ما يكون عليه الحكام والنظم السياسية المستبدة عادة. كما يعرض بعض التقارير الحقوقية الصادرة عن الكارثة، والذي رغم كل ما أحيطت به من معلومات وما كتب عنها داخليًا وخارجيًا غير حاضرة في أذهان الكثيرين اليوم.
بين الرواية والتأريخ
تبدو السياسة والنقد السياسي حاضرًا بقوة في الرواية، ويبدو الكاتب حريصًا على الحياد على الرغم من كونه يتحدث عن مأساة لا يمكن بحال أن يُلقى فيها باللوم إلا على النظام السياسي وأفراده، ولكنه يبدو مهتمًا أكثر ببيان الموقف للقارئ من أبعاده المختلفة اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا. وعرض طرق عرض عدد من الصحفيين والمسؤولين للكارثة وكيف تعاملت الدولة والنظام مع كل طريقة منهم، ولعل كل هذا ما أثقل الرواية، وجعلها تنحو جهة التقرير الصحفي المدعوم بعدد من الأخبار والمعلومات من شهود العيان، ولكنها في الوقت نفسه طريقة مختلفة في السرد رأى الكاتب أن يوثق بها هذه المأساة.
هكذا عكست رواية ليوجين يون ليس فقط حجم المأساة والكارثة المروّعة التي مرت بأهل البلدة التي نشأ فيها، وإنما كيف كان تعامل القادة السياسيين مع الموقف، كما أوضحت كيف تعامل الأفراد أنفسهم مع كارثة كبرى بهذا النوع بقدر كبيرٍ من الاستسلام واللا مبالاة، وهو ما يوضح ما يصنعه الظلم والاستبداد بالشعوب، وكيف أنه يجعلهم مسلوبي الإرادة ليس فقط في المطالبة بحقوقهم الطبيعية، بل حتى في تقديم أنفسهم وأبنائهم ودمائهم في سبيل لقمة العيش حتى لو جاءتهم من الأعداء الذين يحاربون على الحدود.
ليوجين يون روائي صيني معروف ولد عام 1958، يعد واحدًا من أهم أدباء الصين المعاصرين، عُرف بانحيازه للبسطاء والمهمشين، وتناوله القضايا التي تخص الفقراء من شعبه، رشح أكثر من مرة لجائزة نوبل للآداب. وحصل على جائزة مادون الأدبية عام 2011. سبق أن تعرّف القارئ العربي عليه من خلال روايته الملحمية (رب جملة بعشرة آلاف جملة) الصادرة عن سلسلة الجوائز عام 2015 بترجمة مي شاهين، الذي أخذ عنه فيلم some one to talk الذي شارك في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2016، وقد ترجمت له أيضًا روايات (الموبايل) و(البرج) وغيرها.