أدب «بدر الديب»: حق الإنسان في الحديث الشخصي
حينما نقرأ لكاتب عربي، نعزز حضوره الأدبي ومدى قدرة نصوصه على التجدد من خلال تطويعها لتندرج ضمن مدرسة أدبية أو جيل، أو حتى جعل مشروعه الأدبي مدرسة بذاتها، ربما لأن الفردانية، كانطباع أول، تبدو لصيقة الاغتراب. لذلك ما زال بدر الديب، وكتاباته جميعها لم تقرأ ولم يكتب عنها كفاية، لكنها أعادت وما زالت تعيد إنتاجها وحضورها المغاير، من خلال قراءات عديدة. ظل بدر الديب طوال حياته كاتبًا عصيًّا على التصنيف، تترفع نصوصه عن الانتماء لمدرسة معاصرة لزمنها، طالما بدت نصوصه طموحه، تنفذ ببصيرة متأمل مخلص إلى سؤال دائم، سؤال ينطلق من الجذور الوجودية للأشياء، ويتداعى، بطموح مدهش إلى آفاق بعيدة، تسكنها إجابات مفخخة بمزيد من السؤال.
نشر بدر الديب ثلاث قصص طويلة ورواية قصيرة تحت اسم «حديث شخصي» ووصفهم بأربع تنويعات، ثم أعاد نشر الرواية القصيرة «أوراق زمردة أيوب» منفصلة خلال عام 1993 بعدما زودها ببضعة هوامش. الكتابة هنا ليست عن مجموع إبداعات بدر الديب، وإن كانت جميعها تتشارك السؤال المتكرر بصوره المختلفة عن الكينونة، وتحاول إعادة تأمل الوجود على نحو مغاير يعني أبطاله بصورة ذات خصوصية. الكتابة معنية بأوراق زمردة أيوب، النص الذي تجلَّت فيه قدرة بدر الديب على الكتابة الصادقة والصادمة، ونثر السؤال وراء الآخر على لسان زمردة، سؤال يبدأ من ماهية وجودها، يمر متسائلًا عن القيمة والحب والجمال، ينتهي بسؤال يائس من تجربة زمردة الشخصية، عن الأمومة والبنوة والعائلة. الفرصة الأخيرة التي توفرت لزمردة كي تكتب، بدت من شدة التصاق صوت بدر الديب بصوت زمردة، أنها الفرصة الأخيرة لبدر. رواية أوراق زمردة حفاوة بقيمة السؤال على تغيير مسار الحكاية، حتى وهي على عتبة الانتهاء.
لا بد أن نصنع هذا الأفق بأنفسنا
الكتابة كضرورة، كمحاولة للخلاص في مواجهة الفناء الذاتي، هي أساس الوجود العمومي لشخصيات بدر الديب في معظم نصوصه. حينما عنوَن بدر الديب مجموعته بـ «حديث شخصي» كان متعمدًا أن تستجيب قصصه جميعها، أن تبدأ حكايتها وتنتهي خلال حديث شخصي من خلال الكتابة، جميع شخصيات القصص ينطلقون من خلال الكتابة بدرجات متفاوتة في مدى مفارقة الوقت، لكن جمعيهم كانوا يكتبون في حالة طارئة و مقاومة للمصير الحتمي الذي سيلاقونه.
فمثلًا يكتب رشدي حمامو في القصة الأولى من حديث شخصي، محاولًا اختبار تجربة كتابة قصة لأول مرة، محاولًا الاقتراب من ذاته، باحثًا عن الاتساق معها، بيأس واضح يبحث، بعدما شجَّع زوجته على السفر لتعمل بالخارج بينما يبقى هو. في ترتيب الغرف تنطلق الشخصية الأساسية من مساحة أكثر حرجًا، لكن بصدق أكبر، ربما لأنها حكت بعدما تقرر مصير واضح لا رجعة فيه لحياتها، تستعيد حكايتها بعدما قاربت على الانتهاء، هي التي قتلت زوجها وتم الحكم عليها بالإعدام، تقول في مطلع حكايتها.
في القصة الثالثة، يكتبها صاحبها مبتدئًا بالمصير الإجباري الذي تعرض له، والذي اختار في البدء جزءًا من مساره، محاولًا جعل الحديث الشخصي، أقرب ذاتية، من القصتين الماضيتين، ومنطلقًا من ضرورة أقوى. كلما تقدمنا في قراءة القصص وجدنا فعل الكتابة عند كل شخصية في قصص بدر الديب يُمارَس تحت وطأة ضروري أكبر، وفي قبالة مآل أكثر مأساة وصعوبة. تكتب شخصية الحكاية الثالثة، وهي تندفع إلى مصير يبدو في ظاهره اختياريًّا، أثناء حديثه الشخصي تتجلى له علامات مسبقة في الطريق، بيَّنتها الكتابة ليستجيب لها، ويختار هو نهاية لحكايته ووجوده معًا، استثناءً عن كل شخصيات حديث شخصي.
أوراق زمردة أيوب
في رواية أوراق زمردة أيوب، تجلَّى إيمان بدر الديب بالكتابة كوسيلة للخلاص، بالنسبة لزمردة كانت محاولة للخلاص من الشرير. دافع الكتابة عند زمردة متقدم في ضرورته على بقية القصص السابقة، تكتب زمردة لتتخلص من وطأة المرض، لتستعيد معنى أمومتها لابن غائب، لتنظر من جديد، بحزن يأبى على الكتمان، في علاقة انتهت ظاهريًّا. كل كتابة زمردة كانت إعادة إنتاج لحكايتها من خلال السؤال، كأنه هو الحالة الوحيدة التي تستطيع من خلالها أن تنظر إلى تاريخها الشخصي بعين الحقيقة، حتى لو انتهت كتابتها عند السؤال فقط. يحاول بدر الديب أن يفكك حياة زمردة، أن يعيد تكوين حكايتها كاملة من التنقل بين السؤال عن الماهية والكيفية.
تبدأ زمردة أيوب حكايتها وهي في سن الخمسين، خلال محاولة علاج متأخرة من اللوكيميا، تستعيد طفولتها، نشاط والدها كرجل دين مسيحي، تعلقها الشديد بحكاية القديسة دميانة، ظروف زواجها المبكر، سفرها وهي أم لطفل إلى أمريكا لتكمل دراستها للأدب، هناك تعمل على دراسة الشاعرة الأمريكية «إيميلي ديكنسون- Emily Dickinson».
يقوم بناء زمردة أيوب على عاتق الحضور التاريخي والجمالي لحياة القديسة دميانة والشاعرة إيميلي ديكنسون. زمردة أيوب، وهي تكتب في أوراقها، في حالة أرق وحزن مقبض، تستعيد قراءتها لميمرات -حكايات- دميانة، تلتقي مع معاناتها وقدرتها على المقاومة، على الرغم من أن دميانة قاومت بالإيمان واكتفت به، إلا أن زمردة أيوب لم تتوقف عند الإيمان، بل تداعى إيمانها من خلال الكتابة إلى السؤال عن القيمة في كل شيء يخص حكايتها، وفي مدى قدرتها على التخلص من قبضة الشرير قبل أن ترحل، لأنها تكتب وتعلم أنها ترحل ولا تهتم، كأن الوقت المتبقي لها هو لإعادة إنتاج ماضيها بصورة حيوية تطابق ألم الحاضر، وليس وقتًا للعلاج والتعافي.
من ناحية أخرى، بدت علاقة زمردة بإيميلي ديكنسون أنها غير متوقفة على الدراسة، وقد طعَّمها بدر الديب بخصوصية تتجاوز الزمن وبربطها بالمكان، أقامت زمردة أيوب وابنها دانيال في إمهرست مسقط رأس ديكنسون.
عُرِفت إيميلي ديكنسون كشاعرة بعدما توفيت ببضعة أعوام، قبل أن تموت نشرت قصائد قليلة بأسماء مستعارة لم تحظَ بأي اهتمام، ربما لأنها لم تكن كافية. حالات الاغتراب والوحدة الموجودتين كثيمة أساسية لشعر إيملي، وربما لحياتها، هما المعنى للشيء المجهول الذي كانت تحسه زمردة أثناء عيشها في أمريكا، والذي لم ينتهِ حينما عادت إلى مصر، بل تداعى شعورها المجهول لينخر في علاقة ابنها دانيال بها.
ذلك المجهول، الذي لم تكن زمردة تستطيع تحديد مفهوم له، ستدركه حينما تتوقف عن القراءة تمامًا باستثناء قراءة الكتاب المقدس وقصائد إيميلي ديكنسون. حينما نتأمل وجود دميانة وإيميلي، حياتين شديدتي الاختلاف، لا يجمعهما ظاهريًّا أي شيء، تبدو قدرة بدر الديب الروائية، وحرفيته في خلق نموذج مدهش مثل زمردة أيوب، وهو يخلق شخصية مركبة مثلها، تلتقط من تراثها الديني/ التاريخي على وجه الخصوص، وتلتقط من التراث الجمالي للإنسانية عمومًا، لتبدو زمردة، بهذا الوجود الحيوي، والقدرة على مقاومة هوان المرض وثقل التجربة، لتكتب من خلال معايشة حالة طارئة، في حالة مفارقة بين الحياة والموت.
الكتابة من أجل إعادة اكتشاف الحكايات
لم يتوقف تكوين زمردة عند أبعادها المستقاة من التاريخ المسيحي، أو من نموذج جمالي رفيع مثل إيميلي ديكنسون. شخوص بدر الديب عمومًا، ليس في حالة زمردة فقط، غالبًا ما تبدو مهمومة بأزمة زمنها الاجتماعي/ السياسي، وعادة ما يكون مدى حضور السلطة ذا أثر مهم في تكوينها، وفي تحديد مسار شخصيات بدر الديب. بدر الديب من مواليد 1925، فترة الخمسينيات هي النصف الثاني لعقده الثالث والأول لعقده الرابع، فترة الطموحات الثقافية الرفيعة والسعي الأكثر حيوية للعمل والإنتاج في وسط يقوم على الحريات.
هذه الفترة شهدت ثورة 1952، شهدت أيضًا عقبها بفترة قصيرة، تفحش يد السلطة لتصل إلى حركة الثقافة في مصر وتتعارض مع طموح بدر الديب كمثقف طموح. يستعيد بدر الديب حالة هذه المرحلة، حينما عادت زمردة إلى مصر لتعمل بالتدريس، لكن رغبتها قوبلت برفض مقنَّع، بل تداعى الأمر إلى وضع يد الدولة على أملاك عائلتها المعدودة.
بدت معرفة بدر الديب الموسوعية بالمسيحية، وعلاقته القريبة بها على مستوى البحث والتأمل، خلال جلسات الاعتراف التي صنعتها زمردة أيوب لنفسها من خلال الكتابة كطقس ديني أساسي، وحالة الحضور الروحاني المستقاة من مسيحيتها، والتي تبينت أكثر خلال قراءتها النافذة للكتاب المقدس واقتباساتها التي تتماس مع مآسايها، ومع أملها في الخلاص. أيضًا، استدعاؤها لحضور دميانة، كدلالة دينية تعينها على هم وجودها المطبق على صدرها وهي تحاول الكتابة يومًا وراء الآخر.
تتمثل حرية بدر الديب الإبداعية وثقافته ككاتب حر، حيث يطعِّم نثره باقتباسات مختلفة، حينما نتأمل موقعها من النص، تبدو جزءًا من تكوينه ومن تكوين الشخصية التي تقتبس، وليست مجرد إضافة جمالية. تقتبس زمردة من الكتاب المقدس، من إيميلي ديكنسون ومن حكايات دميانة ومن توماس هاردي كيركجورد. كذلك لا يكتب بدر الديب نصوصًا مسلية تصلح للاستهلاك، تبدو شخوصه دائمًا مثقلة بهم، مندفعة تجاه السؤال، تعيد اكتشاف حكاياتها من خلال الكتابة، الكتابة التي تبدو في ذلك الوقت هي وسيلة الخلاص.
فعل الكتابة يغير من شخصيات بدر الديب ولا يتوقف عند إعادة تكوين حكاياتهم، يفاجئ فعل الكتابة الشخصيات وما يبدو عليها من تغير. القراءة لبدر الديب، عمومًا، هي اتفاق مسبق مع الحكاية، كي نسأل، بمحاولات دؤوبة، وصدق يسعى لبلوغ التطهر.