من الأدب إلى المعرفة: حكايات دور النشر الشبابية
«القاهرة تكتب، وبيروت تنشر، وبغداد تقرأ»، هكذا عبر المثقف المصري لويس عوض عن واقع الثقافة العربية في ستينيات القرن الماضي، ذلك الواقع الذي شهد العديد من التغيرات والتحولات على مدار العقود الماضية. إحدى أبرز هذه الظواهر والتغيرات هي انتشار دور النشر الشبابية، حيث أسس العديد من الشباب عددًا كبيرًا من دور النشر التي تراهن على الأعمال الجديدة، وقد تركز إنتاج هذه الدور على نشر الأعمال الأدبية للمبتدئين أو المبدعين الشباب دون تعنتٍ أو تكاليف مادية باهظة.
قدمت تلك الدور عشرات الكُتّاب الشباب الذين شكلوا مؤخرًا تحديًا لهيمنة كبار الكتاب على قمة قائمة مبيعات الكتب في مصر مما أعاد تشكيل وجه سوق نشر الكتاب في مصر، فبعد ثورة يناير 2011، ومع تخفيف القبضة الأمنية على حركة النشر وتراجع هيمنة اتحاد الناشرين المصريين -القريب من الدولة – على السوق، تزايد حجم النشر في الدور الناشئة، والتي وصلت لـ 50 دارًا تقريبًا في عام 2015.
الأدب نافذة الشباب إلى الكتابة
في وقت مضى، كان النشر هو البوابة الأكثر صعوبة أمام المبدعين، خاصة الشباب والمبتدئين منهم، حيث كانت دور النشر الكبرى تتعنت في اختيار الأعمال التي يتمّ نشرها. ولكن مع دخول الألفية الجديدة وتأسيس العديد من دور النشر التي أتاحت الفرصة لانتشار الكثير من الأعمال المهمة والجادة، أسهمت تلك الدور في ارتفاع نجم عدد كبير من الأدباء الشباب، الذين استطاعوا تحقيق مبيعات عالية والوصول إلى قوائم الأكثر مبيعًا من الكتب، وانحصرت إصدارات تلك الدور في نشر كتابات الشباب أولاً، وفي النشر الأدبي ثانيا، وفي نشر نوعية معينة من الروايات مثل أدب الرعب والخيال العلمي ثالثًا.
إلا أن «سهولة» النشر كان لها جانب آخر سلبي؛ إذ سمح بانتشار الكثير من الأعمال الرديئة والتي هيمنت على «سوق الأدب»، حيث أصبح كل فرد قادرًا على أن ينشر ما يكتبه سواء أكان جيدًا أم رديئًا، وهو الأمر الذي أحدث ضجة كبيرة الأعوام الماضية حول مستقبل الثقافة العربية وانتشار الأعمال سيئة المستوى والقيمة من أجل أن تحقق دور النشر مكاسب أكثر.
هكذا نشأت دار ميريت في نهاية الألفية الماضية عن طريق محمد هاشم الذي قرر من البداية أن تكون دار النشر هذه مختلفة عن سابقاتها وأن تكون -فعلًا- مدخلاً للألفية الجديدة. سعت ميريت منذ بدايتها لترسيخ مفاهيم العقلانية وحرية الرأي والفكر والإبداع، وهو ما دفعها للمخاطرة عبر تشجيع الأعمال التي يقدمها الشباب، وكانت متنفسًا لكل من لا يجد وسيلة للنشر سوى طبعات محدودة على نفقته الخاصة بنشرها بين معارفه أو يكتفي بنشر ما يكتب على الإنترنت.
قدمت ميريت العديد من الأعمال مثل روايات: «مرافئ الجليد»، «تمارين الورد» أو «مغلق للصلاة»، «أن تكون عباس العبد»، «الفاعل»، والرواية المرعبة التي تهدد بمستقبل ليس بالبعيد وللأسف تبدو حقيقية جدًّا: «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق.
لا تكتفي دار ميريت بالنشر فقط، بل لتستحق اسمها Merit – الذي يعني شميلة أو فضيلة – تقيم العديد من الندوات والمحاضرات أيضًا في تلك الشقة الصغيرة بوسط البلد، والتي وصفها مراسل الجارديان البريطانية في القاهرة قبل الثورة بعام بأنها «ملتقى الكتّاب من الشباب الموهوبين».
شجّع نجاح تجربة ميريت العديد من الكتاب والمهتمين لتكرار التجربة وإتاحة الفرصة لمزيد من الإبداعات، فتأسست دار ليلى للنشر عام 2004 على يد الكاتب والصحفي محمد سامي بعد إغلاق دار المبدعون التي كان يتولى منصب المدير التنفيذي لها. يعود اسم دار ليلى إلى شخصية ليلى العامرية، إحدى أشهر شخصيات الأدب العربي. وعلى غرار ميريت، سعت الدار منذ بدايتها لترسيخ مفاهيم العقلانية وحرية الرأي والفكر والإبداع والاعتقاد.
استطاعت الدار بالفعل تقديم العديد من هذه المواهب الشابة مثل محمد هشام عبيه، ومحمد فتحي، وميشيل حنا، وغيرهم. وقدمت الدار الكثير من الأعمال الأدبية للشباب مثل رواية: «أسير المرايا» لـ أحمد عبيد، «7 باب» لـ محمد عادل. وفي الوقت ذاته قدمت الدار العديد من الأعمال لكبار الكتاب مثل أحمد خالد توفيق و نبيل فاروق. كذلك قدّم الروائي المعروف محمد المنسي قنديل مجموعته القصصية «من قتل مريم الصافي؟» مع دار ليلى.
دور النشر من عصر المدونات إلى فيسبوك
شهدت العشرية الأولى من الألفية الحالية ثورة تكنولوجية هائلة، حازت فيها المدونات مكانًا كبًيرا. عصر المدونات الذي تميز بمواجهات السياسة والدين، انتقل إلى عالم الأدب والنشر، فثارت النقاشات حول لغة التدوين وحول واقع الأدب وصدى مواكبته حركة العصر المتسارعة في ظل انتشار المدونات ومن بعدها مواقع التواصل الاجتماعي، وطرحت أسئلة تتعلق بـ هل من الأفضل أن تنتقل تلك التدوينات والتجارب الفردانية إلى نصوص ورقية؟ أم يتم الاكتفاء بها كنصوص تحيا في ظل الواقع الافتراضي؟.
انتشرت فكرة نشر المدونات الإلكترونية في كتب مطبوعة في عام 2007، حيث صدرت سلسلة كتب بعنوان مدونات مصرية للجيب، ترأّس تحرير تلك السلسلة أحمد مهنى وأحمد البوهي، وكانا هما أصحاب فكرة السلسلة. وقد حققت تلك السلسلة رواجًا كبيرًا بين المدونين في ذلك الوقت. وبعدها بفترة قرر أصحاب المشروع الانضمام لـ مصطفى الحسيني الذي كان يؤسس موقعًا إلكترونيًّا لتوثيق الكتب العربية بعنوان «دار الكتب الإلكترونية» فظهرت دار دون للنشر والتوزيع بأول كتاب بعنوان «يا عيني يا مصر» للكاتب الدكتور نبيل فاروق.
توالت إصدارات الدار، وفي عام 2010 أصدرت الدار كتاب «البرادعي وحلم الثورة الخضراء» وكان أول كتاب في وقته يخرج بهذا العنوان الجريء الذي يدعو بشكل واضح للثورة مما أدى لاعتقال أحمد البوهي، وكانت قضية اعتقاله تتصدر الجرائد المصرية والعالمية.
قدمت دار دون العديد من الأعمال مثل كتاب «إخوان إصلاحيون» لعضو جماعة الإخوان المستقيل هيثم أبو خليل الذي قدّم توثيقًا للكثير من الشهادات والمواقف والرؤى داخل جماعة الإخوان. قدمت الدار أيضًا كتاب «يومًا ما كنت إسلاميا» للكاتب الشاب أحمد أبو خليل والذي حقق انتشارًا واسعًا، وكتاب «بضعة أسطر في كتاب التاريخ» لعبد العظيم الديب، وكتاب «العولمة وصدمة الحداثة» لكمال غبريال، و«حارة النصارى» لشمعى أسود، أصدرت الدار في 2015 كتاب «حبيبتي» لمطرب الراب زاب ثروت وهو الكتاب الذي أثار كثيرًا من الجدل ووصل عدد طبعاته لـ 4 طبعات.
الثورة وحركة النشر
فتحت الثورة المجال العام وأتاحت حرية النشر والإبداع، لكن انتقادات شديدة وجهت لتلك الدور الناشئة حول مستوى أعمالها وجودتها، تلك الأعمال التي لاقت رواجاً كبيراً بين تلك الأجيال الجديدة التي لم يعد يشغلها هم البحث عن الهوية العربية أو القومية كما كان لدى جيل الستينيات والسبعينيات، بل صار الهم لدى هذا الجيل الجديد طرح الأسئلة عن الهوية الفردية.
وفي ظل انتقادات موجهة لهذا الجيل حول سطحية أفكاره وهويته الفردية التي يبحث عنها، حاولت العديد من دور النشر الناشئة بعد الثورة – في ظل الركود الذي عانى منه سوق الكتاب لفترة ليست بالقصيرة في ظل تأثره بالأحداث الأمنية – أن تواكب تلك التغيرات في مزاج ورغبات الجيل الجديد محاولة أن تلبي رغباتهم. تأسست العديد من دور النشر كدار الرواق، دار مقام، دار صفصافة، دار الربيع العربي، دار الميدان، دار الحلم، دار نون، واستطاع الكثير من هذه الدور أن يحقق نجاحًا كبيرًا.
دار الرواق مثلاً كانت قد تأسست بمبادرة من هاني عبد الله في مارس 2011، وقد استطاعت في فترة قصيرة نسبيًّا الدخول بقوة في عالم النشر والمساهمة أيضًا في سوق الأعلى مبيعًا، وقد وصل عدد إصداراتها في معرض الكتاب 2015 إلى 57 كتابًا. وتُركّز الدار على نشر الأعمال الروائية للكتاب الشباب، ولديها عدد من العناوين التي تصدرت قوائم مبيعات الكتب لفترة طويلة.
على سبيل المثال؛ رواية «هيبتا» لـ محمد صادق التي حققت نجاحًا ساحقًا وتم طباعتها 63 مرة، وروايات الكاتبة شيرين هنائي، رواية «فاكهة محرمة» للكاتبة سارة البدري حققت 5 طبعات، وكتاب «الفريق الشاذلي: العسكري الأبيض» للصحفي مصطفى عبيد طبع 3 طبعات، والكتاب الساخر «الرجال من بولاق والنساء من أول فيصل» للكاتب إيهاب معوض حقق 21 طبعة.
ليست مجرّد دور نشر وإنما مشاريع تنوير
استطاعت التيارات الإسلامية الوصول إلى السلطة السياسية بعد الربيع العربي، حيث وجدت نفسها إزاء تساؤلات السلطة والمجتمع وتجديد النص والاجتهاد الإسلامي، وهو الأمر الذي دفع الكثير من الشباب والمثقفين المنشغلين بتلك الأسئلة إلى إنشاء العديد من دور النشر والمراكز البحثية التي اهتمت بتجديد الدراسات الإسلامية اعتمادًا على أدوات العلوم الإنسانية المتطورة، والعمل على إنشاء تجربة علمية جديدة استطاعت أن تجذب إصداراتها المؤلفة أو المترجمة نظر قطاع كبير من القراء والمثقفين والشباب، واستطاعت أن تحصد إعجابًا وتقديرًا واسعًا في وقت قصير.
مثلاًدار تنوير للنشر والإعلام أسسها عبد الرحمن أبو ذكري وهو أديب ومفكر ومترجم وناشر مصري. يهتم أبو ذكري بالنقد الأدبي ويمكن اعتباره – كما يصف نفسه – امتدادًا لمدرسة «تجديد الدرس الكلامي الإسلامي»، وهو ما ظهر أثره في إصدارات تنوير التي صبّت في تجديد الاجتهاد في الفكر والحركة الإسلاميين. قدمت الدار «أفكار خارج القفص» لعبد الرحمن أبو ذكري، و رواية «الرئيس» لمحمد العدوي والتي حققت نجاحًا كبيرًا. ومن إصدارات تنوير أيضا «الفكر السياسي الإسلامي» للمفكر والأكاديمي الإيراني حميد عنايت بترجمة أبو ذكري. قدمت الدار أيضا: «نقد الليبرالية» للطيب بوعزة، و«الفردوس الأرضي» لعبد الوهاب المسيري، و«الإسلام الديمقراطي المدني» لشيريل بينارد.
لكن أبرز تلك التجارب البحثية كانت مدارات للأبحاث والنشر التي تأسست في نوفمبر 2012 بواسطة ثلاثة من الباحثين والنشطاء الشباب، وهم: أنس خالد، وأحمد عبد الفتاح، وأحمد وجيه. «معرفة تقود إلى الوعي، ووعي يوصِل إلى الإيمان، وإيمان يحض على الحركة»، هذا هو شعار الدار. اهتمامات الدار تدور حول عدة محاور، هي الدراسات الإسلامية بشكل عام، ودراسات التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ودراسات الدولة القومية الحديثة وقضايا النقد الثقافي وما بعد الكولونيالية والاستشراق، ودراسة الحركات الإسلامية. قدمت مدارات العديد من الأعمال التي تعكس اهتماماتها، وكانت باكورة أعمال مدارات هو إعادة ترجمة كتاب «استعمار مصر» للمفكر البريطاني تيموثي ميتشل. ومن إصداراتها كذلك «دراسات في السلفية الجهادية» للمفكر الأردني أكرم حجازي، «الفكر السياسي للإمام حسن البنا» وهي أطروحة الماجستير للدكتور إبراهيم البيومي غانم، رواية «سراي نامة: الغازي والدرويش» لمحمد عبد القهار والتي تدور في العصر العثماني، قصص «نظرية اللعبة» لخالد العبد الله،و رائعة فرانز فانون «معذبو الأرض».
خارج مصر برز مركز نماء التابع لمؤسسة «الإسلام اليوم» والذي يديره الباحث السعودي ياسر المطرفي في نهايات عام 2010 ومقره الرئيسي في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية. يعمل المركز في مجال البحث الشرعي والفكر الإسلامي، ويهدف إلى تنمية العقل الشرعي والفكري وتطوير خطابه وأدواته المعرفية بما يُمكِّنه من التفاعل مع حركة التنمية والانفتاح الواعي على المعارف والتجارب العالمية المعاصرة. ويقدم المركز خدماته من خلال مجموعة من التقارير و الدراسات البحثية وأيضا الترجمات المختلفة. وبتصفح الموقع يمكنك مطالعة العديد من الحوارات و المقالات والترجمات. وللمركز سلسلة من الكتب بعنوان «دراسة في نموذج الأسس النهضوي» تدرس تجارب لدول صاعدة ومتقدمة مثل اليابان والبرازيل وتركيا. ومن أبرز إصدارات المركز: «حركة التصحيح الفقهي» لـ ياسر المطرفي، و«ما بعد السلفية» لـ أحمد سالم و عمرو بسيوني، و«مراجعات الإسلاميين» لبلال التليدي.