ماذا قدّم الأدب في 2017: القصة القصيرة والشعر
نكمل معكم في هذا التقرير رحلتنا في حصاد الأدب لعام 2017، فبعد أن تحدثنا عن حصاد الرواية، نخصص حديثنا اليوم عن الأنواع الأدبية الاخرى؛ القصة القصيرة، الشعر، والصحافة الأدبية.
القصة القصيرة: من الخيال للواقع
لا يزال المشهد القصصي في مصر والعالم العربي مثيرًا للتأمل جديرًا بالملاحظة والمتابعة، ذلك أن عددًا من كتّاب القصّة القصيرة قد أخلصوا لهذا الفن بشكلٍ خاص، فخرجت أعمالهم قادرةً على استيعاب كل طاقات القصة وخصوصيتها، كما يبدو أن عالم القصّة القصيرة قد اجتذب عددًا آخر من الكتّاب الذين كانوا يكتبون الشعر أو الرواية، لكي يخوضوا تلك التجربة لما فيها من خصوصية وفرادة، فظهرت عدد من المجموعات القصصية المتميّزة التي تمزج بين الحكي الواقعي والخيالي.
من هؤلاء مثلاً مجموعة الكاتب الكبير والمحترف لؤي حمزة عبّاس «قرب شجرةٍ عالية» التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة المُلتقى، في هذه المجموعة نرى عوالم ملتبسة تراوح بين الواقعية والفانتازية، ومشاهد قصيرة وموجزة ولكنّها معبأة بالكثير من احتمالات التأويلات، في كل قصة تجريب على نوعٍ خاص، ورؤية مغايرة لعالمٍ قد نعتقد أننا نعرفه تمامًا، ذلك ما يتقنه لؤي حمزة ويجيده تمامًا، ولعل أخص مميزات هذه المجموعة تلك القدرة الاستثنائية على تكثيف لحظة القص بشكلٍ ذكي، يجعل القصة أشبه ما تكون بومضة تصل للقارئ في فترة زمنية قصيرة، ولكنه يدور حولها طويلاً.
من المجموعات القصصيّة المميزة كذلك «حائط غاندي» لعزة رشاد، والتي وصلت أيضًا للقائمة الطويلة في جائزة الملتقى والتي استطاعت الكاتبة فيها أن تعبّر عن الواقع بأكثر من طريقة، وأن تضفّر لغة السرد الروائي وحساسيته بالقصة القصيرة التي تعتمد على التكثيف، كما جمعت في قصصها بين الواقع وما عشناه فيه من أحداث وبين عالم الفانتازيا وما فيه من رحابة.
ومن عالم الرواية أطل علينا حسن عبد الموجود هذا العام بمجموعته القصصيّة المتميزة «السهو والخطأ» التي استطاع من خلال كتابتها أن يجمع بين مزايا السرد الروائي وخصائص القصة من خلال المتتالية القصصيّة، وصوّر فيها عالمًا يجمع بين إمكانات الواقع والعالم الفانتازي الخيالي، وبقيت المجموعة معبّرة عن حالة الفرد واغترابه عن العالم والمجتمع بطريقةٍ خاصة.
وكذلك كانت مجموعة «حدث في الشتاء الماضي» الصادرة مؤخرًا للشاعر محمود فهمي التي استطاع أن يقدّم فيها رؤية شاعرية للواقع، وعلاقة الفرد المغترب فيه بنفسه وبالعالم من حوله، وذلك من خلال اثنتين وعشرين قصّة قصيرة يمكن اعتبارهم تنويعات مختلفة على لحنٍ واحد يضم حالة الوحدة والاغتراب بطريقةٍ سردية شيّقة، تختلف عن عالمه الشعري الذي سبق أن تعرفنا عليه في دواوينه السابقة.
ومن المجموعات القصصيّة المتميزة أيضًا والتي صدرت مطلع هذا العام جاءت مجموعة «أريج جمال»«كنائس لا تسقط في الحرب» والتي استطاعت أن تقدم فيها عالمها شديد الخصوصية بلغةٍ شاعريةٍ مميّزة، والتي عالجت فيها عددا من الأفكار المتعلقة بالكتابة والحياة، والعلاقة بالآخر وطرق التواصل معه، حيث تنسج من الخيال عالمًا خاصًا تنطلق من خلاله إلى مساءلة الواقع بكل ما فيه من صراعات وملابسات وأحداث.
وإذا كان الخيال والفانتازيا هو عُمدة السرد القصصي عند الكثير من الكتّاب المعاصرين، فإن أمل رضوان تعود إلى القص الواقعي بما يحيوه من بساطةٍ وحيويّة لتقدم في مجموعتها «شوكولاته سودا» التي وصلت أيضًا للقائمة القصيرة في جائزة الملتقى عالمها الخاص، وتدور حول عوالم الأنثى بشكلٍ محدد، وتكون قادرة من خلال قصص مجموعتها على تقديم لوحةٍ بانورامية للعديد من المشاعر الخاصة بالمرأة في المجتمع، تلك المشاعر والمواقف التي لا شك أنها تتماس مع حياة كل قارئ للمجموعة.
لاشك أن المجموعات القصصيّة في مصر والعالم العربي أكثر من قدرتنا على الرصد، ولكننا نشير هنا فقط إلى بعضٍ منها، محاولين أن نجمع بين أجيال وتجارب مختلفة.
الشعر: حضورٌ خـاص
من أبرز دواوين 2017
رغم ما يعاني منه كثيرٌ من الشعراء في مصر والعالم العربي من صعوبة نشر دواوينهم الشعرية، إلا أننا نجد بين الحين والآخر عددًا من التجارب الفارقة التي استطاعت أن تقتحم ميدان النشر بقوّة، سواء كان ذلك من خلال دور النشر التي تراهن على أسماء محترفة، أو من خلال شعراء يفرضون حضورهم على الساحة الشعرية بقوة.
من هنا جاء الاحتفاء النقدي والجماهيري على حدٍ سواء بدواوين عدد من الشعراء الكبار، مثل ديوان «بيتي له بابان» للشاعرة فاطمة قنديل الصادر عن دار العين، الذي اعتبره الناقد محمد السيد إسماعيل بمثابة «اصطياد للحظات الهاربة» وذكر أنه يعد تمثيلاً نموذجيًا لقصيدة النثر البسيطة العفوية المتحررة من القيود والتي تصطاد الجمال من تفاصيل عابرة، كما اعتبره سيد محمود بمثابة نقطة تحوّل في الشعرية المصريّة، وذلك أنها استخدمت في الديوان مساحات واسعة من السرد لم تضر بشاعرية الديوان على حد تعبيره.
كذلك جاء ديوان الشاعر الكبير «جمال القصّاص» «جدار أزرق» الصادر عن دار بتانة للنشر بمثابة حدث شعري كبير، التف حوله النقاد والقراء وتداولوا مقاطع منه بكثرة، ربما لأنه جاء معبرًا عن فضائهم الذي يمضون فيه وقتًا أطول، وهو فضاء العالم الافتراضي وخصوصًا «فيس بوك» الذي عبّر عنه الشاعر باعتباره «جدار أزرق»، ويصرّح الشاعر بأن هذا الديوان كُتب على شكل «ومضات شعرية» مباشرةً على صفحته على فيس بوك، بشكل عفوي ومباشر، ولم يكن يعتقد أن يجمعها ديوان، ولكن الأصدقاء والقراء حفزوه بشدة على فعل ذلك، حتى رأى الديوان النور وحاز على إعجاب واستحسان الكثيرين.
قريبًا من ذلك ما فعله ويفعله الشاعر «إبراهيم البجلاتي» الذي صدر له مطلع هذا العام ديوان «حكاية مطوّلة عن تمساحٍ نائم» الذي نشر مقاطع عديدة منه على فيس بوك، والذي لاقى رواجًا كبيرًا بين قراء الشعر والمهتمين به، بدرجةٍ لم يكن يتخيلها الشاعر نفسه، ذلك الديوان الذي يقدم «العالم الشعري نفسه فيه كأقرب ما يكون لحلم أعيد تشييده دون أن يفقد غرابته الأصلية وعلاقاته الأوتوماتية، عبر لغةٍ تنحو لتحقيق مجازات أشمل من حدود السطر الشعري» على نحو ما يعبّر الناقد طارق إمام.
من جهةٍ أخرى جاءت مغامرة دار النشر الحديثة «هن Elles» المهتمّة بالكتابة النسويّة بشكلٍ خاص لإصدار عدد من الدواوين الشعرية لشاعرات من مختلف الدول العربية كتجربة رائدة ومختلفة، واستطاعت أن تقدّم أصواتًا متميزة للمشهد الشعري، صدر عنها مؤخرًا ديوان «السيدة كليمونتين» للشاعرة التونسية «أمل خليف» والذي قدمه الشاعر الكبير محمد عيد إبراهيم واعتبره تجربة مهمّة تضيف الكثير للشعر العربي، كما أصدرت الدار ديوان «المخطوط» للشاعرة التونسية «سماح البوسيفي» وديوان «غودو يأكل أصابعه» للشاعرة الجزائرية «عنفوان فؤاد» وديوان «الدم الهارب من البرتقال» للشاعرة السورية ديمة حسّون.
ولكن المشهد الأدبي لم يعد قاصرًا اليوم على القصة القصيرة والشعر فحسب، بل ظهرت على الساحة أنواع أدبية أخرى تسعى لفرض حضورها لكونها كتابات فارقة ومتميّزة لأدباءٍ محترفين لم يتقيدوا بتلك الحدود، بل سعوا جاهدين لتقديم مادة أدبية مختلفة وجادّة، تغرّد خارج السرب في مواضيع مختلفة وإن كان يجمعها الأسلوب الأدبي المميّز.
الصحافة الأدبية
يمكننا أن نشير ببساطة إلى ظهور عددٍ من الكتب التي كانت نادرة وغائبة لفترة طويلة عن المكتبات، وهي تلك الكتب التي تؤرخ لظاهرةٍ ما أو لأدباءٍ ومفكرين بأسلوبٍ أدبي شيق، من هذه الكتب المهمة في هذا السياق كتابات محمد توفيق بشكلٍ عام، وقد صدر له هذا العام الجزء الأول من كتابه حول تاريخ الصحافة المصرية في مائة عام، في كتابه «الملك والكتابة» الذي يتناول فيه بأسلوبٍ أدبي رصين يسعى «توفيق» جاهدًا إلى تلخيص التاريخ المصري وإيجازه من خلال لقطاتٍ دالة ومواقف معبرة مرت بها علاقة الصحافة المصرية في مراحلها المختلفة بالسلطة، وذلك منذ ثورة 1952 وما قبلها وحتى التسعينات أيام مبارك، وما دار في تلك الفترة الكبيرة من أحداث ومواقف ذات علاقة بالأدب والصحافة والسياسة في آنٍ معًا.
كما جاءت كتابات الشاعر والناقد الكبير شعبان يوسف غنيّة ومهمة في هذا الصدد، إذ بعد أن أصدر كتابه المهم «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟» الذي ناقش وحللّ فيه الموقف من كتابة المرأة وتاريخ طويل من التهميش والإقصاء الذي تعرّضن له منذ عائشة التيمورية وحتى ابتهال سالم، يصدر هذا العام كتابين شديدي الأهمية أولهم عن «ضحايا يوسف إدريس وعصره» الذي تناول فيه بشكلٍ محدد ما جنته الثقافة المصرية بسبب استبعاد أسماءٍ بعينها واستقطاب أسماء أخرى تبعًا لقربها أو علاقتها بالكاتب الكبير «يوسف إدريس» آنذاك، ثم يأتي كتابه الآخر الذي يعد مرجعًا في بابه «المنسيون ينهضون» الذي يتناول فيه بطريقة العرض الموجز سيرة وحياة عدد من كبار المثقفين المصريين الذين طواهم النسيان، والذي يعكس فيه طبيعة الحياة الثقافية في وقتٍ مبكّر من تاريخها، وما وقعت فيه من أخطاء ومشكلات على أملٍ أن نتداركها في عصرنا الحالي، وأن نعيد الاهتمام والتركيز على مبدعينا السابقين أو المعاصرين بالشكل اللائق الذي يستحقونه.
كانت هذه جولة سريعة على أهم إصدارات العام من الأنواع الأدبية الأخرى، لاشك أنها ينقصها الكثير، ولكنها تشير وتؤكد ـ في النهاية ـ إلى أن الأدب العربي بخير وأنه في ازدهار رغم كل ما يحيط به من مسببات الإحباط والأسى، وأنه لا مفر للأديب والقارئ في النهاية إلا ذلك الإبداع القيّم الذي يجد فيه الآن ـ ربما أكثر من أي وقتٍ مضى ـ متنفسه الوحيد، ووسيلته الأجدر للخروج من ضيق الدنيا إلى سعة الأدب.