الحرب في الرواية: من توثيق الدمار إلى محاولات تجاوزه
عرف الأدب العالمي منذ وقتٍ مبكر تناول الحروب كموضوع رئيسيٍ له، وكان الحديث عن الحرب مرتبطًا طوال الوقت بحكاية العديد من تفاصيلها، بل وأفرد بعض الروائيين للحروب الكبرى العالمية عددًا من رواياتهم، فعرفنا الروايات الخالدة على مدار التاريخ التي توثق للحروب مثلما فعل تولستوي في روايته الشهيرة «الحرب والسلام» التي تناول فيها الحروب التي خاضتها روسيا في القرن التاسع عشر.
ولا شك أن عددًا كبيرًا من الروايات تناولت الحرب العالمية وآثارها في عدد من بلدان العالم لا سيما ألمانيا وإنجلترا واليابان وغيرها، وكان أشهرها ما كتبته الصحفية سفيتلانا أليكسيفيتش حينما وثّقت عددًا من الشهادات الخاصة بالناجين من الحروب في عددٍ من كتاباتها، التي استحقت بها جائزة نوبل في الأدب عام 2015 ولفتت النظر بشدة إلى هذا النوع من الكتابة.
امتد أثر الحرب العالمية ليصل إلى الدول العربية، وكانت بعض الروايات العربية قد تناولتها وأشارت إلى بعض تفاصيلها، مثلما نجده عند الروائي السوري حنا مينا في «الشراع والعاصفة» أو إبراهيم عبد المجيد في «لا أحد ينام في الإسكندرية».
أدب المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني
يمكن التأريخ لأدب الحرب عربيًا بالتزامن مع احتلال فلسطين، فمنذ عام 1948 بدأت حرب فلسطين ومع الاحتلال الصهيوني أصبح الاحتلال والمقاومة موضوعًا أساسيًا معتمدًا في الأدب العربي عامةً والأدب الفلسطيني بشكلٍ خاص، فبرزت أسماء كبرى عرفت بمشاركاتها النضالية وتكريس جهودها الأدبية في تصوير الحال الفلسطيني الداخلي، وأثر الحرب على المجتمع، ومشاهد مقاومة المحتل.
يأتي على رأس هذه الأسماء الروائي الفلسطيني الذي كرس لمفهوم أدب المقاومة وهو «غسان كنفاني» عبر كتابته الروائية والقصصية على السواء، وكانت روايته «رجال في الشمس» من أكثر الروايات تصويرًا للواقع العربي والتعامل مع القضية الفلسطينية. كما كتب الروائي الفلسطيني الكبير «إبراهيم نصر الله» مشروعه الكبير «الملهاة الفلسطينية»، الذي يحوي نحو 12 رواية تناول فيها تاريخ نضال الشعب الفلسطيني منذ القرن الثامن عشر الميلادي، ونضال الشعب الفلسطيني في سبيل تحرير أرضه والحصول على استقلاله، مرورًا بالاحتلال الإسرائيلي وحتى يصل إلى العصر الحديث.
كما كتب عن فلسطين والمقاومة عدد من الأدباء العرب، فوجدنا في لبنان رواية «باب الشمس» لإلياس خوري التي يتناول فيها حكايات اللاجئين الفلسطينيين وما مروا به من صراعات وأزمات ومشكلات. كما كتب الأديب الجزائري الكبير واسيني الأعرج روايته المتميزة «سوناتا لأشباح القدس» التي تحكي مأساة فنانة فلسطينية شابة تضطر لترك أرضها وترحل، وكيف تعاني وتحلم بالعودة إلى بلادها، ولا شك أن حلم العودة أيضًا أصبح أحد التيمات الرئيسية في الأدب الفلسطيني بشكل عام، وهو الذي عبّر عنه إبراهيم نصر الله ببراعة في روايته الأخيرة «ظلال المفاتيح».
من مصر نجد الروائية الكبيرة «رضوى عاشور» بروايتها المتميزة «الطنطورية» التي تناولت سيرة عائلة فلسطينية منذ الاحتلال عام 1947 وحتى سعيهم للجوء في عدد من الدول العربية من لبنان إلى الكويت حتى يستقر بهم المقام في مصر، وكل ما يدور في الكواليس من تطورات وتحولات القضية الفلسطينية في تلك الفترة الزمنية.
مصر وحرب أكتوبر
لا شك أن واحدة من أهم الحروب العربية في تلك المنطقة كانت حرب أكتوبر 1973، تلك التي تناولتها عدد من الروايات في مصر وإن بقيت في أذهان الكثيرين لم تنل ما تستحقه من التوثيق الأدبي.
من هذه الأعمال رواية «الرفاعي» لجمال الغيطاني التي تناولت حياة أحد أبطال حرب أكتوبر وهو الشهيد «إبراهيم الرفاعي»، الذي استطاع الغيطاني أن يستفيد من خبرته كمراسل حربي لكي يرصد بواقعية حياة ذلك البطل الاستثنائي الذي مات شهيدًا في الحرب.
ولعل أكثر الروايات واقعية في رصد الحرب المصرية كانت ما كتبه «محمد حسين يونس» في تجربة الأسر المريرة عام 1967 في روايته «خطوات على الأرض المحبوسة»، كما كتب عن هذه المأساة بشكل خاص الروائي فؤاد حجازي في روايته «الأسرى يقيمون المتاريس» التي يحكي فيها كيف تم التعامل مع الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، تلك الرواية التي تعد وثيقة أدبية تاريخية هامة، إذ صوّرت المجتمع المصري في وقت الحرب بشكلٍ بالغ وواقعي وموجز في الوقت نفسه.
هذا بالطبع بالإضافة إلى الروايات الرسمية التي تتناول حرب أكتوبر كانتصارٍ لا مثيل له، مثلما فعل إحسان عبد القدوس في روايته الشهيرة «الرصاصة لا تزال في جيبي».
الحرب الأهلية اللبنانية
كذلك كانت الحرب الأهلية اللبنانية واحدة من المواضيع الثابتة والأساسية لعدد من الروائيين في لبنان، داروا حولها طويلاً وأخذوا يعرضون ما سببته تلك الحرب من مشكلات وأزمات داخل المجتمع اللبناني وما أحدثته الصراعات من هزائم نفسية واجتماعية.
من هؤلاء الروائي اللبناني الكبير «جبور الدويهي» وعدد من رواياته التي تناولت عددًا من الحروب في لبنان، مثل «مطر حزيران» التي دارت أحداثها حول معركة مزيارة شمال لبنان عام 1957، ورواية «شريد المنازل» التي نرى أثر الحرب الأهلية اللبنانية في خلفية أحداثها.
كما كتبت «هدى بركات» روايتها «حارث المياه» التي تعرض فيها الكاتبة حال الشعب اللبناني أثناء الحرب، والتي تعتبرها بمثابة وثيقة خاصة حملت فيها موقفها من الحرب وما دار فيها. كما وجدنا أيضًا رؤية مغايرة للحرب في رواية «سينالكول» لإلياس خوري الصادرة عام 2012، وفيها تصوير واقعي للمجتمع اللبناني بفئاته المختلفة التي يمثل كل واحدٍ من أبطال الرواية واحدة منها، والتي يعكس من خلالها أثر الحرب الأهلية على المجتمع وما تركته فيهم حتى اليوم.
الغزو العراقي وحرب الخليج
في أغسطس 1991 كان الحدث العسكري الصادم والمفاجئ للعرب جميعًا، وذلك باحتلال العراق لدولة الكويت، ولا شك أن تلك الصدمة وذلك الحدث المزلزل كان محفزًا للكثير من أدباء الكويت والعراق في الوقت نفسه لكي يرصدوا كيف دارت رحى تلك الحرب غير المتكافئة، وكيف تعامل المواطنون المسالمون مع هذا الاحتلال الغاشم المهزلة، وكيف استطاعوا أن يواجهوه حتى تم تحرير الكويت في عام 1991.
من تلك الأقلام البارزة جاء الروائي الكويتي الكبير «إسماعيل فهد إسماعيل» بروايته السباعية الملحمية «إحداثيات زمن العزلة»، التي رصد فيها من خلال شخصية العمل الرئيسية نشاط رجال المقاومة الكويتية في سبيل تحرير بلادهم من جهة، كما عرض من جهة أخرى التحولات التي تمر بها تلك الشخصية وكيف كانت الحرب ومواجهة عدو غير محتمل فرصة لتطوير فهمه ووعيه بنفسه وبالعالم.
قريبًا من ذلك ما فعلته الروائية «ميس خالد العثمان» في روايتها «ثؤلول»، حينما تعرضت لمأساة من نوعٍ خاص تعرضت لها بطلة روايتها أثناء الاحتلال العراقي للكويت أيضًا، وكيف استطاعت تلك الفتاة رغم ما تعرضت له من ألمٍ وأذى أن تتغلّب على واقعها وما فيه من قسوة وصعوبة وتتجاوز ذلك كله وتنجو بنفسها.
العراق بين الحرب والطغيان والتحرير
لم تكن العراق أحسن حالاً من جارتها الكويت، بل إن أهلها ذاقوا من ويلات الحرب قبل احتلال الكويت وبعده، لا سيما بعد إعلان أمريكا الحرب على الإرهاب من خلال عمليات عسكرية كبرى في العراق وأفغانستان وغيرها، من هنا جاءت الروايات التي تؤرخ لتلك الحروب وهذه المآسي العربية الكبرى التي لا تنتهي، فكتب الروائي العراقي سنان أنطون روايته «فهرس» التي تحدث فيها بشكل مركز على مؤرخ يوثق الحرب بأسلوبٍ مختلف، ويمزج في روايته بين الماضي والحاضر، عارضًا أثر الحروب العراقية المختلفة على المجتمع العراقي وعلاقات الناس ببعضهم فيه.
كما كتب الروائي السوري فواز حداد روايته «جنود الله» والتي يتناول فيها تحولات الشباب العربي للذهاب لما يفترضون أنه جهاد في سببيل الله، وذلك بالمشاركة في الحرب العراقية على الأمريكان في العراق، فيعرض وجهة نظر الشاب العربي بوضوح شديد، كما يعرض على الجانب الآخر كيف يفكر الجندي الأمريكي في حربه التي تورط في المشاركة فيها في العراق، وعلى خلفية ذلك كله يرسم صورة واقعية لمأساة المجتمع العراقي والشعب الذي لا يجد منفذًا للحياة بين نيران الحرب داخليًا وخارجيًا.
سوريا وروايات الحرب بعد الثورة
من فلسطين والكويت والعراق، إلى أحداث ثورات الربيع العربي وما نجم عنها، تبرز سوريا والحرب التي تدور فيها منذ انطلاق ثورتها عام 2011 وحتى يومنا هذا، والتي نتج عنها الكثير من الأعمال الروائية التي استطاعت أن تعرض الحرب من وجهات نظر مختلفة، وأن توثق الحرب بالفعل روائيًا، وأن تجعل القارئ على وعيٍ شديد بما يدور في تلك الأراضي التي كانت آمنةً مطمئنة، وتحوّل الأمر فيها إلى الحرب والدمار الكبير كل ذلك بسبب القمع والطغيان الذي ترزح سوريا فيه منذ بداية حكم حافظ الأسد وحتى الآن.
كتب «فواز حداد» عن سوريا أثناء الحرب وما قبلها في روايته الملحمية الكبيرة «السوريون الأعداء»، التي تبدأ منذ أحداث مجزرة حماة الشهيرة عام 1982 التي ارتكبها الجيش السوري، وما تبعها من جرائم للسلطة في سوريا حتى قيام الثورة عام 2011، واستطاع من خلالها أن يصوّر حال المجتمع السوري بكل فئاته وطبقاته، وأن يكتب رواية ملحمية حقيقية تحمل كل مآسي الشعب السوري وما دار ويدور فيها حتى وقت كتابة الرواية الصادرة في 2015.
ويمكننا اعتبار النتاج الأدبي السوري بصفةٍ عامة منذ قيام الثورة السورية منصبًا على الحرب وما تركته من آثارٍ في المجتمع السوري، سواء في الداخل أو الخارج. وجدنا نحو ذلك في رواية ديمة ونوس «الخائفون» التي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر حيث ركزت على تصوير مأساة سوريا والمجتمع السوري من وجهة نظر نفسية بحتة، كما وجدنا توثيق الحرب السورية بشكلٍ أدبي مثلما فعلت مها حسن في روايتها «عمتِ صباحًا أيتها الحرب» وغيرها من الأعمال التي لا زالت تتوالى وترصد جوانب مختلفة من آثار تلك الحرب المستمرة.
كانت هذه إضاءة عامة ومحاولة للإلمام بأشهر الروايات التي تناولت الحروب العربية، وكيف تم تصويرها أدبيًا، وكيف استطاع الأدباء والكتاب أن يرصدوا من خلال تصوير هذه الحروب أحوال المجتمعات العربية وما يتعرّضون له من أزمات نفسية واجتماعية بسبب تلك الحروب التي يبدو أنها لا تنتهي.