كتاب «الأزمنة السائلة»: حين تموت المرجعيات الكبرى
وقفت حائرة أمام أرفف الكتب أتأمل عناوينها، تبحث عيناي عن صيد معرفي جديد أقتنص به متعة فكرية من نوع مختلف عما اعتدت قراءته، بعد أن أعياني التنقل بين العناوين، سألت مالك المكتبة عن الإصدارات الحديثة التي وصلته، فرشّح لي سلسلة «السوائل» لزيجمونت باومان. رسمت الدهشة معالمها على وجهي، وجاهدت نفسي لأكتم ضحكة كادت تفلت رغمًا عني وأنا أسمع عناوين كتب السلسلة: «الحب السائل»، «الخوف السائل»، «الشر السائل»، «الحياة السائلة»، «الحداثة السائلة»، «الأخلاق السائلة»، و«المراقبة السائلة». أخشى أن يجرفني طوفان السوائل تلك!
عقدت أمري على خوض تجربة القراءة لسلسلة السيولة، فكان لقائي الأول مع كتاب «الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللا يقين»، يشبه الوقوع في الحب من الكتاب الأول.
«السيولة» هي المصطلح الذي اختاره المفكر البولندي زيجمونت باومان الذي رحل عن عالمنا في مطلع عام 2017 عنوانًا لسلسلته التي تناول فيها الحداثة وما بعدها، فماذا يقصد باومان بالسيولة؟
لم يجد باومان توصيفًا أدق من كلمة السيولة ليعبر عن حالة تفكك النظم والمبادئ والقيم، وتخلخل الروابط التي كانت تجمع المواد الصلبة (الأخلاق والمرجعيات والقيم). فقد باتت المرجعيات الكبرى المحددة سلفًا تتبدل وتتغير وفقًا للمصلحة الفردية المتغيرة دومًا، والتي لا يمكن التنبؤ بها. تشبه المواد السائلة التي يتغير شكلها بتغير الحيّز الذي توضع فيه. فالحداثة السائلة كما يعرّفها في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه تعني:
الخوف السائل: المتاجرة بالخوف
يقول فرويد:
يستعرض باومان في كتاب «الأزمنة السائلة» مظاهر التحول في دور السلطة والدولة الذي انتقل من دور الرعاية الاجتماعية، وتقديم الخدمات للمواطنين، وتأمين الضمان الاجتماعي، ومكافحة الفقر والبطالة، إلى دور الدولة الأمنية التي تتمثل غايتها في مكافحة الاٍرهاب والتهديدات الخارجية، وتتسع مظلة الخوف التي تحملها السلطات لتتعدى باسمها على بعض الحريات المدنية. فيقول:
في سبيل التصدي لهذه المخاوف تسنّ الدولة عددًا من التشريعات التي تبيح للسلطة مراقبة الأفراد أو اتصالاتهم أو عملياتهم التجارية والإلكترونية؛ بدعوى حمايتهم من اختراقات محتملة لجهات إرهابية. ويجد الشعب نفسه مضطرًا للاستجابة لهذه التجاوزات بدعوى أنها إجراءات احترازية لا مفر منها لتخليصه من مخاوفه وتوفير الأمن الذي بات حلمًا لا يمكن تحقيقه، فكل ما يحيط بنا في زمن الحداثة يتاجر بالخوف.
يقول آدم كيرتس:
لم تقتصر المتاجرة بمخاوف الشعب على الجانب السياسي، ففي المجال الصحي والغذائي وُظّف الخوف في تسويق العديد من المنتوجات. تتسابق بعض شركات الغذاء بدعم عدد من الأبحاث التي تتناول بالدراسة مخاطر بعض الأغذية الرائجة. في واقع الأمر تستند الدراسات إلى بذرة حقيقية عن خطر تلك الأغذية، لكنها تعمد إلى تهويل تلك المخاوف. وفي المقابل تسويق للأغذية التي تنتجها الشركات الممولة للدراسة، والتي تتسم أغذيتها بطابعها الصحي والذي يصادف ويا للغرابة بارتفاع أسعار منتوجاتها بشكل مبالغ فيه. لا يختلف الأمر كثيرًا مع شركات الدواء والسيارات وشركة الأمن والحراسة في توظيف الخوف اللا متناهي الذي تتصف به حياتنا المعاصرة من كل شيء لتكسب ثروات هائلة. فمنتوجات تلك الشركات من السيارات المصفّحة، والأسلحة الفردية للدفاع عن النفس، والأبنية المسوّرة، وأنظمة الحماية، والمستحضرات المقاومة لعلامات التقدم بالسن، هي الحل الأمثل للحد من حالة «الخوف» الذي يجعل العالم أكثر إثارة للهلع.
اللاجئون والخوف
يتحدث باومان عن اللاجئين كمخرج من مخرجات الحداثة فيقول:
تكفي نظرة سريعة لما حل ببلادنا العربية والبلاد المجاورة في الآونة الأخيرة لندرك أن مشكلة اللاجئين تتجاوز في أثرها الحيّز المحلي لتمتد إلى كافة أنحاء العالم. فالدول المتقدمة التي تدخلت في إدارة الصراع والثورات بما يخدم مصالحها بالدرجة الأولى، قد ساهمت في ارتفاع معدلات اللاجئين بعد ما يسمى بـ«الحرب على الاٍرهاب» في العراق وأفغانستان قد تأثرت بقضية اللاجئين، لا يمكننا أن نغفل تأثر الدول الغربية بالأفواج البشرية التي عبرت البحر الأبيض المتوسط؛ لتهاجر إلى أرض الأحلام أوروبا. فهل حلّت المشاعر الإنسانية فجأة على الدول الغربية وشعرت بمسؤوليتها الأخلاقية تجاه شعوب المنطقة؟
يشير زيجمونت باومان إلى أن عملية استقبال اللاجئين، ومنحهم حق اللجوء، تخضع لعملية عقلية تستند إلى مصالح الدول المستضيفة، ومدى حاجتها إلى القوى والموارد البشرية، خاصة مع انخفاض نسبة المواليد بين سكانها في القارة العجوز، وحاجتها لسد النقص من الأيدي العاملة، وقد خضع هذا القبول إلى «دراسة كفاءات اللاجئين» وحاجة السوق الأوروبية إلى تلك الكفاءات.
أما الحديث عن قيم إنسانية بحتة للتعامل مع ملف المهاجرين واللاجئين يبدو أمرًا ساذجًا في عصر لا يتصف إلا بالسيولة الأخلاقية وتقديم المصلحة الفردية على كل اعتبار كما يصفه باومان. فخوفًا من تدفق اللاجئين إلى أوروبا؛ أقيمت مخيمات للاجئين في دول الطوق؛ أي الدول المحيطة بمناطق الثورات والنزاعات مثل مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأْردن، وتقديم المنح والمساعدات للدول المستضيفة لتلك المخيمات، مشترطة عليها أن تبقي اللاجئين فيها الدول المتقدمة في منأى عن «النفايات البشرية» كما يصف زيجمونت باومان نظرة الدول المتقدمة للاجئين.
وحين اضطرت الدول الأوروبية لاستقبال اللاجئين حاولت حصرهم في الدول الأوروبية الأقل تقدمًا، مثل: اليونان والمجر، ولكن حين تمكن عدد من اللاجئين من الهروب والوصول إلى بعض الدول المتقدمة تم إنشاء مراكز الإيواء المحصنة على أطراف الغابات وبعيدًا عن المراكز الحضرية. هذه المخيمات التي أقيمت على أنها مخيمات «مؤقتة» تتحول إلى دائمة. فاللاجئ سيُصبِح لاجئًا إلى الأبد؛ فبعد مرور سبعين سنة على نكبة فلسطين ما زال مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين في الأردن شاهدًا على عصر اللجوء.
مشكلة اللاجئ تتبدى في أنه في المكان ولكن ليس منه، وسيبقى ينظر إليه كدخيل وغريب لا ينتمي للمكان!
مجتمع التماثل
يلجأ المهاجرون في بلدان الحداثة إلى تشكيل مجتمع متماثل. يدفعهم الخوف من ضياع هويتهم الذاتية إلى الانضمام لجماعات عرقية أو طائفية. يقول باومان: «ولكن ممارسة الانفصال المكاني هي دواء الخوف من الاختلاط وداؤه في الوقت نفسه». فالخوف من الاختلاط يقلل من مهاراتهم في تعلم فن التفاوض والعيش المشترك ويخلق حالة من الهلع من لقاء الغرباء، لا تشفع كل محاولات اللاجئ للاندماج في المجتمع الجديد له، فسيبقى يحمل وصمة الحرب في نظر أهل البلد المستضيف يذكرهم بالدمار والقرى المحروقة، ويسود التخوف منه والشك والريبة والرهبة، على حد توصيف باومان. توظّف بعض السلطات تلك المخاوف فتصور المهاجرين بأنهم «الشرير الحقيقي»، وتلقي بكل متاعبها وفشلها على عاتق وجود اللاجئين ويتحول الغضب الشعبي إلى كراهية شعبية للغرباء اللاجئين، حتى وإن لم يكن لهم علاقة أبدًا بألوان معاناة الشعب أو مخاوفه.
يتحول ملف اللاجئين إلى «كرت انتخابي»، وتجتهد الأحزاب المرشحة لخوض الانتخابات إلى توظيف ذلك الكرت بما يحقق لها جماهيرية بين الناخبين، يظهر للسطح من جديد «الخوف من الدخلاء». فبعض الأحزاب تعد بترحيل تلك «النفايات البشرية» كما تسميها إلى بلادها أو إلى بلاد أخرى بعيدة عنها ليبقى النسيج المجتمعي في البلدان المتقدمة متجانسًا. وتتعالى هتافات اليمين المتطرف ودعاة القومية في كل محفل مرددة الشعارات العنصرية. بينما تتحدث بعض الأحزاب عن عملية دمج وتأهيل، تنادي أحزاب أخرى بإقامة المخيمات في مناطق بعيدة عن الحضر، لتكون أشبه بـ«الجيتوهات الجماعية».
مدن الأشباح
على صعيد آخر يتطرق باومان للحديث عن المشاريع الإسكانية المغلقة لطبقة الأثرياء التي أوجدتها الرغبة في التمايز عن الطبقات الدنيا من الشعب، والرغبة في الحماية والأمان من التهديدات عبر الإقامة في مشاريع سكانية لها بوابات حماية وأمن وتخضع للرقابة. في انفصال كلي عن هموم المجتمع وطبقاته المسحوقة. فالأثرياء لا يريدون أن يروا في مجمعاتهم السكنية النخبوية مشردين وفقراء ومرضى. هم قد انسلخوا روحانيًا من مجتمعهم حتى وإن كانوا فيزيائيًا ينتمون له، لا يشعرون بأية مسؤولية أخلاقية تجاه التعامل مع مشاكل مجتمعهم أو المساهمة بأي دور في تغييره!
فهل تجنى باومان على الأغنياء؟ وهل ما يحمله كلامه من إدانة مبطنة لهم أمر مقبول، أم أنه يغالي في مثالية حالمة حين ينتقدهم؟ فمن منا لا يتمنى العيش في بيئة تتسم بالأمان والرفاهية إن امتلك القدرة على ذلك؟ هل ستحقق المصلحة الذاتية الشعور بالسعادة في عصر اللا يقين؟
اقرأ أيضًا: «الأزمنة السائلة»: استثمار الخوف في المجتمع الحديث
يختم باومان كتابه بمقاربة جادة للإجابة على هذا السؤال، فهو يرى أن الحداثة تمركزت حول الأنا وعملت على تضخيمها، ولم تجر للبشرية إلا الخراب والدمار. وبتنا نحيا في عصر اللا يقين من كل اختياراتنا، فهل يبالغ باومان بتخوفاته من الحياة السائلة في أمنياته حين يقول: