«الحب السائل»: لماذا يفشل جيلنا في الحب؟
في الأصل يكون التفكير في الحب تفكيرًا في نوع من الرابطة الروحية مع ذات أخرى، تمنح المحب نوعًا من الاستقرار الذي يفتقده في حياته اليومية، تلك التي تتميز بدرجة مرتفعة وقاسية من التغير، أو بلفظة «هيرقليطس»: «الثابت الوحيد في هذا العالم هو أن العالم يتغير».
الحب بهذا التصور هو فعل للبحث عن السكينة، بحث عن مطلق وثابت، يخرج الأفراد من نسبية اليومي والمعاش. يصح إذن أن نقول إن رحلة البحث عن الحب هي رحلة البحث عن المطلق في عالمٍ تتحرش به النسبيات.
تغيرت هذه المعادلة، يقول «باومان» في كتابه «الحب السائل». فالحب أو العلاقات العاطفية برأيه لم تعد مركزًا لهذا الأمان، بل صار الحب هو الآخر واقعًا حد اللجاج في نسبية اليومي المتغير والمعاش.
مفسرًا هذا التحول الدراماتيكي، يرى «باومان» أن مجتمعنا الحداثي يقع وبشدة تحت وطأة أنماط استهلاكية عالية، والعلاقات الاجتماعية والعاطفية تقع في القلب منها. حيث يتم التعامل مع الآخر على أنه سلعة استهلاكية يتم التنازل عنها بمجرد ظهور سلعة أخرى تغوي بفرصة أكبر، وبمستوى إشباع أعلى.
للتقريب، فلتتخيل معي أن لديك أسهمًا معينة في البورصة، وظهرت أسهم أخرى تحقق أو يتوقع أن تحقق أرباحًا أعلى مستقبلًا، تجد نفسك هنا مضطرًا لبيع هذه الأسهم القديمة من أجل الأسهم الجديدة التي تغوي بفرصة أكبر للربح. وهو بالضبط ما يحدث في العلاقات العاطفية.
تتم معاملة الطرف الآخر على أنه سلعة مؤقتة يتم استنفادها، وفي لحظة ما يتم التخلي عنها بدون النظر إلى الخلف، فقط نعبر إلى سلعة أخرى تقدم إشباعًا أكبر أو هكذا بدا لنا. وبهذا الشكل لا يستقر المرء في علاقة واحدة، بل يتنقل من علاقة لأخرى بدون وجود أي التزام للآخر بالبقاء.
هنا تنتهي وعود الماضي بالحب حتى الموت، لا تستعاد رومانسيات العهد القديم، حيث يضحي المحب بحياته لأجل محبوبته، تنتهي قصص «روميو» و«جولييت»، «قيس» و«ليلى». لا ديمومة هنا ولا تضحيات، لا داعي في الحقيقة لبكاء سلعة انتهت، فالسوق يمنيك الأماني بسلع أخرى ربما أكثر إشباعًا، فلا تبكِ.. يخبرك السوق.
تعاني العلاقات الاجتماعية عادة من الرتابة والملل في بعض الأحيان، هذا أمر لا مفر منه بما أننا نتعامل مع كائن بشري ملول بطبعه.
قبل عصر الاستهلاك الضخم كان الأفراد يميلون غالبًا إلى التكاتف ليعبروا جسر الملل إلى جسر أكثر شغفًا. فحين كانت تشعر ذات المحب وآنا المحبوب بخطر الملل أو الرتابة المهدد لاستمرار العلاقة، فإن نوعًا من التكاتف كان ينشأ لمواجهة هذه الرتابة وتخطيها، هذا لأن النظرة إلى العلاقة لم تكن أبدًا على أنها مجرد علاقة مؤقتة، بل اتسم النظر للعلاقات حين ذاك بشيء من الديمومة، لذا فلا يمكن القفز من المركب والبحث عن مركب آخر –علاقة أخرى-، كان الخيار يبدو واضحًا وهو إصلاح المركب، حتى لا تغرق سفينة العلاقة.
العلاقات في زمن الحداثة السائلة تختلف عن هذا بالكلية، فطرف العلاقة وبمجرد أن يواجه إحساسًا بالرتابة والملل؛ فإنه ينهي العلاقة مباشرة، باحثًا عن علاقة أخرى تحقق له شغفًا آخر، وهكذا يظل الأفراد في هذه الدائرة اللانهائية من البحث عن الشغف وبالتالي في التنقل بين العلاقات.
الأمر أشبه ما يكون بوجبة غذائية تشتريها لأيام متتالية، وحين تمل منها فإنك تقوم بشراء وجبة أخرى، ويتكرر الملل مع هذه الوجبة الجديدة، فتنتقل لوجبة أخرى وهكذا بلا نهاية. فكما يقول «باومان»: «إن المواد القابلة للاستهلاك مغرية والنفايات منفرة»، فالتأقيت والمدى القصير اللذان تقوم عليهما حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث يقومان بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات.
في هذا المجتمع الذي يطغى عليه هذا النوع من الاستهلاك لكل شيء بما فيها العلاقات، يبدو أنه لا يوجد أمام الفرد سوا خيارين: أولهما أن يخلص لشخص واحد يتحمله بكل ما فيه من محاسن أو عيوب. والخيار الثاني هو أن يتنقل الفرد بين العلاقات باحثًا عن إشباع رغباته الجنسية، دون الحاجة إلى تقديم التزامات أو حمل عبء إصلاح العلاقة حين يواجهها أي خلل.
لأن مجتمع اليوم الاستهلاكي يدعم الخيار الثاني ويقدمه للأفراد على أنه الخيار الأفضل؛ نجد هذا المجتمع يعاني من الهشاشة في علاقاته، وانتهاء كل ما ميز الحب قديمًا من صفات الديمومة والتلقائية والعفوية. يفسر «باومان» هذا بقوله: «عندما يخذلك الكيف، فإنك تطلب النجاة في الكم. وعندما يكون الدوام غير معقول ولا مقبول، فإن سرعة التغيير هي التي يمكن أن تنجيك».
الخوف الشديد من الدخول في روابط التزام عاطفي نحو آخر، بات كذلك سمة هامة تميز طبيعة علاقات عالم اليوم، وهو ما تمت صياغته مؤخرًا في مصطلح «Commitment Issues – الخوف من الكوميتمنت». ينتشر هذا المصطلح في الأوساط الشبابية بشكل كبير، وربما يصلح أن نعتبره مرادفًا لمصطلح قديم نسبيًا وهو الخوف من المسؤولية.
لكن الجديد هنا أن الخوف من الالتزام برابطة حب نحو آخر، لا يرتبط بالخوف من المسؤولية المادية وتكاليف المعيشة، بل إن الخوف بالأساس بات عاطفيًا، يتعلق بشك الفرد في مقدرته على منح الآخر مشاعر صادقة ودائمة، وهنا يفضل الفرد عدم إعطاء هذا الالتزام، ويستبدل هذه العلاقة المطلوب فيها قدر كبير من الديمومة أو الاستمرارية، بعلاقات أخرى لا يطلب منه فيها أي نوع من الالتزام، لا وجود هنا لقصص رومانتيكية حيث يتعهد الطرفان في بدايتها بالحب حتى الموت. تغير هذا العهد ليكون عهدًا ضمنيًا: أحبك حتى تأتي فرصة أفضل!
هذا الأمر يفسر كثيرًا إقبال البعض على إقامة علاقات عاطفية عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، والسؤال هنا هو: ما الذي تمنحه هذه الوسائل يزيد من إقبال جيلنا على التواصل العاطفي من خلالها؟
في الحقيقة إن أهم ما تمنحه وسائل التواصل الاجتماعي لجيل اليوم، هو الفرصة الدائمة للرحيل بشكل هادئ ومسالم من أي علاقة، فقط بضغطة زر «Block» تمحو وجود الطرف الآخر، والعلاقة معه بشكل كامل، لا ضجيج هنا، لا ضغوط من الآخر، لا دموع للفراق ولا لوعة للشوق، لا شيء في الحقيقة. بدأ الأمر في الافتراض وكذلك ينتهي.
هذا النوع من التواصل يخلصنا من خوفنا الأبدي –أعني من تأنيب الضمير- بسبب رحيلنا غير المسبب عن شخص آخر، فكثير من العلاقات لا يمنع تفككها إلا خوف الأفراد من هذا التأنيب، لكن هذا النوع الجديد من التواصل الافتراضي يلغي هذا التأنيب، ضغطة زر واحدة وينتهي الأمر.
يعتقد البعض أن كل هذه الأشكال الجديدة من العلاقات ليست بحب على الحقيقة، بل هي جرائم ترتكب باسم الحب، وواحدة من هذه الجرائم هي المفهوم الجديد واسع الانتشار الـ«كراش»، وأزمة هذا المفهوم هو أنه يسحب القداسة عن الحب، فبعد أن كان الحب في جوهره قطعًا للمسافات، وافتعالاً للمحاولات لوصل المحبوب، وكشف الحجب عنه، لاختراق كيانه والوقوع في حبه. انتهى كل هذا أو يوشك أن ينتهي.
فلفظة الـ«كراش» هي بشكل ما تبسيط مخل ومختزل لحالة الوقوع في الحب، فالأمر لا يحتاج لكثير من الجهد لتحكم على شخص ما بأنه كراش، وبأنك واقع في الإعجاب به، قد لا تحتاج أكثر من رؤية صورة له، أو ترى عدد معجبيه الكثر على وسائل التواصل الاجتماعي، السؤال هنا في حقيقة الأمر عن معايير الإعجاب بالآخر عند جيل اليوم.
فعملية الوقوع في الإعجاب بطرف آخر باتت تتبع بالأساس هي الأخرى لمعايير السوق، فنحن حين نختار سلعة معينة لشرائها فإن معاييرنا تكون من قبيل: ارتفاع الطلب عليها من الأفراد الآخرين، مدى شهرتها ومكانتها، مقدار ما تحققه من إشباع وهكذا. وهي نفسها المعايير التي باتت تتحكم في إعجاب جزء كبير من جيلنا بطرف آخر للوقوع في الإعجاب به، ومن ثم الوقوع في الحب.
فيتم تقييم الأفراد الآن بمقدار شهرتهم في محيطهم الاجتماعي، أو عدد متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ونوع ماركة الملابس، والمظهر الخارجي وغيرها.
الفن السابع –السينما- كان له إسهامه هو الآخر في توضيح فارق آخر جوهري بين فهم جيلنا للحب، وبين فهم من سبقونا، وهذا الفارق هو رؤية كل جيل لديمومة الحب. حيث يرى جيلنا في الحب شيئًا عابرًا ومؤقتًا، على عكس الأجيال السابقة التي نظرت للحب على أنه أبدي ودائم.
تعتبر سينما المخرج الأمريكي «وودي آلن»، رائدة في نقاش سؤال أبدية الحب من عدمه، ومقدار ما يميز الحب من ديمومة، حيث يرى المخرج الأمريكي أن الحب في زماننا عابر، وليس بأبدي كما يتخيل البعض، وحتى إذا حاول الفرد أن يجعل علاقاته العاطفية تتسم بشيء من الديمومة، فإنه سيعجز في تحقيق ذلك، وستنتهي العلاقة في مرحلة ما من مراحلها، بغض النظر عن التمثل الذي ستأخده النهاية، سواء باتفاق الطرفين، أو بقرار فردي بإنهاء العلاقة من أحد الطرفين منفردًا.
تدافع أفلام «وودي» عن هذه الفلسفة باستماتة، فنرى في فيلمه «Midnight In Paris» كيف أن بطل الفيلم يتنقل بين العلاقات العاطفية بسلاسة وسهولة، مع وصفه لعلاقاته العاطفية الأولى والثانية والثالثة بأنها علاقات حب حقيقية، وليست ممارسات جنسية عابرة، فالتنقل بين العلاقات العاطفية بهذا المنطق، لا ينقص في رأيه من درجة صدق أي منها.
يتكرر الأمر نفسه في فيلمه «Annie Hall»، فنرى أنه ورغم محاولة بطل الفيلم المستميتة لجعل علاقته الأخيرة وحبه الحقيقي أبدية عن طريق طلب الزواج، إلا أن العلاقة لا تكتمل وتنتهي لينتقل من بعدها من علاقة لأخرى.
أصبح الحب إذن في أغلبه ماديًا وموغلًا في ماديته، وفقدَ كل ما يميزه من ديمومة، وبات مؤقتًا وعابرًا يسكن الهوامش، وكل ما تبقى من أساطير الحب القديم باتت على الأغلب أطلالاً نقرؤها في كتب الأدب القديم، أما علاقات هذا المجتمع الحداثي فإنها مادية بامتياز، وتتبع لقوانين السوق والاستهلاك بشكل كبير.
لا حل يبدو في الأفق لهكذا أزمات، لكن ربما واجب اللحظة هو محاولة الفهم والتفكيك لهذه الإشكاليات.