الإسلام السائل
يعود مفهوم «السيولة» إلى أعمال عالم الاجتماع زيجمونت باومان، وهو معبر جدًا على مستوى الاستعارة للموضوع الذي يناقشه المقال. فالسيولة تشير إلى استعصاء الإمساك بالظاهرة وتحديدها، فهي، لسيولتها، تنجح دومًا في الهرب من بين أصابعنا، فلا نستطيع الإمساك بها وإعطاءها محتوى وشكلًا محددًا، بل تتغير وتتحول دومًا وبحسب الإناء الذي نضعها فيه.
السيولة تشير لعدم القدرة على ضبط وتقديم وصف محدد للمحتوى. لكن تفيد أيضًا معنى «الانتشار»، فالسائل ينتشر في كل مكان دون أن يشغل حيزًا واضحًا ومحددًا مثل الجسم الصلب. بالإحالة إلى السيولة كاستعارة، يمكن الحديث عن سيولة الإسلام بوصفها مفارقة في ثلاثة أوجه.
لن نختلف في أن الإسلام يتمتع بسطوة هائلة على حياة المسلمين، فغالبية ساحقة ومتزايدة من المسلمين تعلن أن سلوكها واعتقاداتها ومواقفها مشتقة من تعاليم الإسلام وما يفرضه عليها؛ إنها تحيا بحسب ما يمليه الإسلام. الآخرون، من غير المسلمين، يعتمدون بدورهم على الإسلام في تعريفهم لأعداد هائلة من البشر، فهم مسلمون، ولأنهم مسلمون يفعلون هذا وذلك.
ربما، تكفي نظرة سريعة إلى أخبار «الجزيرة» ليرى المرء شدة حضور الإسلام باعتباره المرجع الأساسي أو الوحيد في تحديد هوية المسلمين؛ فهذا رياضي مسلم يريد تغيير قواعد الرياضة بما يتناسب مع الإسلام، وهذه أول نائبة مسلمة في البرلمان، وذلك يقرأ الفاتحة قبل قيامه بعمل، وذاك قام بهذا الأمر لأن هذا ما تحتمه أخلاقه الإسلامية، وهذا طُرد من عمله لأنه مسلم والمسلمون مضطَهدون لأنهم مسلمون وهلم.
بالطبع، يمتلك كل واحد من هؤلاء عددًا كبيرًا من الهويات الأخرى غير كونه مسلمًا، وقد تكون مهمة كسبب لما حصل ولكنها لا تُذكر، والكثير من المسلكيات يتشاطرها غير المسلمين مع المسلمين ولكن لا يهم. كما أن من نجحت في الانتخابات قد لا تنظر إلى نفسها أساسًا بوصفها مسلمة، أو لم تحصل على هذه الأصوات لأنها مسلمة، ولكن هذا أيضًا لا يهم. كذلك ليس من الضروري أن تكون أسباب الاضطهاد مرتبطة بالإسلام، كما أن الاضطهاد لا يقتصر على المسلمين، وقد يكون المسلمون في صفوف المضطهِدين لبشر آخرين تصادف كونهم غير مسلمين، ولكن أيضًا هذا لا يهم.
«الجزيرة»، كمثل من طرفنا، تقدّم هوية ذات بعد واحد وهي «الإسلامية» لتعرف كل الأمور من خلالها، لكن من الطرف الآخر قد نرى شيئًا شبيهًا ولكن بالمقلوب. فالإسلاموفوبيا تُعرف عددًا هائلًا من البشر بهوية ذات بعد واحد وهو الإسلام، ولكنه هذه المرة شيء سيئ وشرير.
الإسلام هوية، ولا وجود لهويات أخرى إلى جانبها. ولأننا مسلمون، فإننا نتصرف بهذا الشكل. فكل ما نقوم به محكوم بكوننا مسلمين، ومن وجهة نظر«نا»، هو سلوك مثالي لأنه بحسب الإسلام، ومن وجهة نظر الآخرين، هو سلوك سيئ. بهذا الشكل يقدم الإسلام المرجعية القيمية والسياسية للجميع. بتعبير آخر، نحن ومنذ عقود نعلن وبشكل متزايد أننا نفعل ونتصرف بهذا الشكل لأننا مسلمون ولأن هذا هو ما يمليه علينا الإسلام.
معنى الإسلام
أمام مشهد الحضور الهائل للإسلام في تحديد كل الأمور والسلوك والقيم، يفترض المرء أن الإسلام شديد الوضوح ويحوز على اتفاق كبير على معناه ورموزه وممثليه، وهو ما يدعيه حقًا عموم المسلمين الذين يؤكدون على مركزيته في حياتهم. لكن وما إن نبدأ بالتساؤل عن هذا الإسلام حتى نقف أمام مشهد مختلف بالكلية. فبالكاد، نتفق على إسلامية سلوك ما، من تفجير انتحاري في محطة قطارات وصولاً إلى معايدة المسيحيين ومرورًا بالنقاب.
كل سلوك لدينا من يعتبره إسلاميًا ويقدم لذلك الأدلة والقرائن من القرآن والسيرة والشريعة، وهناك من يعتبره غير إسلامي ويقدم أيضًا أدلة من القرآن والسنة والشريعة. كل منهم يقدم أدلته على ما يعتبره «إسلاميًا» بقناعة تامة. لكن الجميع يفعل هذا، من مناصري الدولة الإسلامية إلى مناصري القاعدة وخريجي الأزهر والإسلام المعتدل والشيعي والإسلام الأوروبي أو حتى أنصار التأويل الحداثي للإسلام، وطبعًا لكل منهم مرجعيته وتفسيره وحججه.
عند السؤال عن معنى الإسلام، نشهد إسلامات عديدة ومتنوعة ومتباينة، وحتى متصارعة، وبشكل عنيف ودموي في كثير من الأحيان، على معنى الإسلام. لكن هذا التنازع على معنى الإسلام، وعدم قابليته للتحديد، لا ينتقص بالمرة من مركزية الإسلام في تعريف الجميع لأنفسهم وسلوكهم بدلالته.
هذا ما يطرح الوجه الأول من المفارقة التي يستدعيها العنوان، «الإسلام السائل»، وهي كيف يمكن لهوية طاغية الحضور بهذا الشكل في تحديد انتماء عشرات ملايين البشر وتحديد قواعد سلوكهم، مثل الإسلام، أن تكون في الوقت عينه عصية تمامًا على تحديد معناها، إذ إن أي محاولة تحديد تضع أعدادًا هائلة من «المسلمين» في دائرة الشبهة بإسلامهم. الأمر الذي يشهده المرء دومًا في مناكفات النقاشات حول الاتهامات المتبادلة لأنماط من السلوك بأنها غير إسلامية؛ النقاش حول النقاب، ومعايدات غير المسلمين، والجهاد وغيرها.
المرجعية الغائبة
يحيل هذا الوجه من المفارقة إلى وجه آخر مرتبط باستعصاء تحديد المرجعية أو المرجعيات الإسلامية. بالطبع، نشهد في أيامنا العامرة بصراعات السلطة قدرًا هائلًا من الانتهازية في التعامل مع المرجعيات، مثل التعامل مع الأزهر على سبيل المثال، الذي قد يُهاجَم لأنه يخضع للسلطة، وفي مناسبة أخرى يصبح مرجعية شبه مقدسة وكرامتها من كرامة المسلمين لأنه يواجه السلطة حول موقف ما، برغم أن المؤسسة هي نفسها بمشيختها ورجالها. لكن هذا التعامل الانتهازي هو جزء من الظاهرة، وهي تدهور مكانة المرجعيات الإسلامية وسلطتها المعنوية.
اليوم ومع الصراعات السياسية بين المحاور الكبرى (القطري/ التركي في مواجهة السعودي/ الإماراتي، ومن بينهما أو على ضفافهما من محاور فرعية) نشهد كل محور ينشئ مرجعيته الإسلامية التي تهاجم وتهين مرجعية الطرف الآخر. وفي خضم هذه المعركة، تُهان كرامة العديد من رجال الدين والمشايخ وحتى المؤسسات.
فاليوم لا يوجد أسهل من انتقاص قيمة أي شخصية مرجعية بكونه شيخ سلطان أو يقبض من هذا أو يفتي بحسب رغبة ذاك. لا يوجد اسم مهم في جماعة «علماء المسلمين» لا يتم الانتقاص من قيمته وإهدارها والسخرية منها بشكل يصعب تخيله قبل سنوات قليلة. طبعًا قبل عقود كانت منزلة الشيخ شديدة التقدير، وتدهورت لاحقًا مع توسع التعليم ونشوء طبقة وسطى حديثة ومتدينة تهتم بنفسها بشؤون الدين والمعرفة به، متحررةً وبشكل كبير من خرافات المشايخ القديمة. لكن هذا التدهور مختلف عن التدهور الذي نشهده اليوم، وقتها ارتبط بصعود تدين أكثر عقلانية ولمصلحة نشوء فئة حديثة من المشايخ مرتبطة بتعليم ديني أكثر حداثة.
ما نشهده الآن مسألة تتجاوز هذا بكثير؛ هو انحطاط في المكانة مرتبط بتنازع على تشظي معنى الإسلام بين جماعات متصارعة وعدم قدرة أي مؤسسة مرجعية على تلبية شروط التصدي لتمثيل الإسلام، والصراعات الداخلية بين المرجعيات التمثيلية وما ارتبط بها من انتهازية ورهانات سياسية مباشرة وحتى مبتذلة. المسألة الحاسمة، هي أنه من السهل اليوم التقليل من شأن أي مرجعية إسلامية والانتقاص من قيمتها والاستهزاء بها. أو بشكل آخر، من الصعب أساسًا الحديث عن وجود أي قطب يستطيع لعب دور مرجعية أساسًا.
احترام الرموز والمرجعيات لم يعد سوى مسألة سياسية وانتهازية في إطار المنازعات، نحن نتذكر أن هذا الشخص مرجعية، فقط إذا أهين من خصمنا السياسي، لكن هو بحد ذاته لم يعد يعني شيئًا. هذا هو الوجه الثاني للمفارقة، بغياب المرجعيات الإسلامية، بل حتى الانتقاص منها، يظهر الإسلام بوصفه «المرجعية»، الرمز الأشد قداسة متمتعًا بسلطة قاهرة وطاغية.
السطوة الغامضة
هنا يطرح السؤال نفسه، مع عدم القدرة على تحديد معنى للإسلام وبغياب مرجعيات معترف بها وتحظى برأسمال رمزي لتمثيل الإسلام، برغم كل هذه الغيابات يظهر الإسلام بوصفه الهوية والمحدد والمعيار. لكن كيف؟ وعلى أي أساس؟ السيولة تؤطّر التساؤل حول مصدر السلطة للاسلام، التي يتم التسليم بها والتأكيد على مركزيتها دومًا، في مقابل التشظي التام لمعنى الإسلام والرفض لأي سلطة مرجعية لهذا الإسلام والانتقاص من قدرها والهجوم عليها.
سيولة الإسلام تحيل إلى هذه المفارقة التي تجمع العجز عن تحديد معنى وغياب لمرجعية تملك رصيدًا كبيرًا ومعترفًا به من الرأسمال الرمزي من جهة، مع مركزية الإسلام وحصريته في تعريف النفس واعتباره المرجع لتحديد معايير السلوك.
بالمقابل، علينا أن ندرأ سوء فهم ممكن لهذه السيولة قد يربطها بتوسع الحريات؛ حرية التأويل والفهم الخاص بالإسلام. فالسيولة لا تحيل إلى توسع هامش الحرية. على العكس تمامًا، وهنا نصل إلى البعد الثالث لمفارقة سيولة الإسلام، فنحن نشهد ضيق أفق هائل وتحجر وتعصب.
مرة أخرى، تكفي نظرة إلى قضايا التكفير والتضليل والتوسع في التجريم القانوني لتناول الإسلام أو طرح قضايا بعينها، كما في التغول أو التوحش في ممارسة القمع الاجتماعي ضد أنماط سلوك كانت عادية تمامًا لسنوات قليلة خلت، بدعوى أنها غير إسلامية أو متعارضة مع الإسلام (وأحيانًا بالتعارض المباشر مع المأثور الإسلامي المُقرّ في هذا الموضوع).
لا يقتصر هذا التوسع في التضييق على الأمور التي تتناول الدين، بل مرتبط بتوسع معنى الدين بحيث يشمل كل شؤون ومجالات الحياة التي تبدو وكأنها خارجه، فلا يعود هناك شأن ما لا يتعلق بالدين، من النظريات العلمية إلى تناول الشخصيات التاريخية العادية وليس حصرًا المقدسة، حيث كل الأمور تحيل إلى الدين والإسلام بطريقة أو بأخرى.
سيولة الإسلام هي مفارقة بثلاثة أوجه، مفارقة تحيل إلى مركزية الإسلام وحصريته في النظرة إلى العالم ولأنفسنا وبشكل متشدد ولا يقبل الاختلاف حتى داخل الإسلام (الوجه الثالث)، برغم التشظي الهائل في معناه (الوجه الأول) وغياب لأي مرجعية حقيقة (مؤسسة أو حتى طبقة رجال دين غير مأسسة) تملك سلطة في التحدث باسمه أو فرض قواعده (الوجه الثاني). هذه المفارقة تتركنا أمام سؤال مركزي وهو كيف نجمع كل هذا؟