الإسلام السائل: سيرة موجزة للعدالة والتنمية المغربي
كألوان الطيف هم الإسلاميون، تبدأ من الألوان الداكنة وتنتهي بالألوان الفاتحة شبه الشفافة. أمام عشرات الآلاف من الإسلاميين المتحمسين، وقف الشيخ علي بلحاج يوم 9 دجنبر (ديسمبر/كانون الأول) 1990 خلف مايكروفون يُسمِع من هم خارج ملعب 5 جويلية الذي احتضن مؤتمر توأمة القدس والجزائر أكثر مما يسمع من هم داخل الملعب.. صراخ وتهديد ووعد ووعيد، وتأكيد أن الجزائر ستكون تلك النقطة التي ستنطلق منها دولة الإسلام في العالم.. معلنًا في نفس المناسبة كفره بالأنظمة السياسية التي تدين بالعمالة للخارج.
بدا هدف بلحاج واضحًا، وإن كان هدفًا خياليًا سرياليًا بعيدًا كل البعد عن التحقيق، طرد الحكام المسلمين من على كراسيهم، ثم التوجه إلى فلسطين لطرد المحتلين الصهاينة. القيادي الإسلامي أعلم الجميع بأن لائحة المتطوعين للسفر إلى فلسطين مفتوحة وأنه سيكون أول الواضعين اسمه؛ لكن ليس الآن، بل بعد إقامة النظام الإسلامي في الجزائر أولًا.
على الجانب الآخر، غير بعيد عن الحدود الغربية للجزائر، كانت هنالك مجموعة من الشباب الإسلامي في المغرب تضع اللمسات الأخيرة على «مراجعاتها» الفكرية وعلى التعديلات المسطرية في قانونها الأصلي حتى يصبح قادرًا على الذوبان داخل النظام السياسي للبلاد، وغيرت بالمناسبة اسم حركتها من «الجماعة الإسلامية» – الاسم الكفيل بالزج بقياداتها في أي سجن عربي – إلى «حركة الإصلاح والتجديد»، لتنطلق تجربة إسلامية مختلفة وفريدة، سائلة جدًا، فاتحة حد ملامسة الشفافية، ومختلفة عن باقي الحركات الإسلامية.
البداية السائلة
في يوم 6 ديسمبر/كانون الأول 1975، استفاق المغرب على خبر اغتيال المعارض اليساري الشهير عمر بنجلون. توجهت أصابع الإتهام نحو جميع أعداء هذه الشخصية المهمة والذين كان من بينهم النظام السياسي والحركة الإسلامية، لكن السلطة المغربية المغربية وجهت الاتهام لطرف آخر هو جماعة «الشبيبة الإسلامية» ومؤسسها عبد الكريم مطيع الحمداوي الذي فر من البلاد بعد ذلك موجهًا اتهامه للنظام بقتل بنجلون وإلباس الإسلاميين التهمة للتخلص من الاثنين بحجر واحد.
بعد خروج مطيع من المغرب، واجهت الشبيبة الإسلامية مصير التشرذم والانشقاق. كان من بين القافزين من باخرة الحركة قبل أن يدركها الغرق 6 شبان أُطلق عليهم «جماعة الستة»، يتزعمهم قيادي جديد اسمه عبد الإله بنكيران، هو نفسه الذي سيصبح لاحقًا الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة المغربية. قرر بنكيران وإخوانه تأسيس منظمة جديدة أطلق عليها اسم «الجماعة الإسلامية» التي أصبحت فيها بعد «حركة التجديد والإصلاح» ثم بعد ذلك حركة «التوحيد والإصلاح» بعد اندماجها مع حركة أخرى هي «الشباب الإسلامي».
لم تكن هذه الحركة الجديدة ذات الطابع الإسلامي تملك مرجعية إسلامية واضحة، أي أنها لم تتبنَّ الالتزام بأحكام الشريعة الكلية والجزئية في مشروعها الإسلامي، بل أظهر إخوان بنكيران ليونة كبيرة في تعاملهم مع النصوص الشرعية ومحاولة ملاءمتها للواقع السياسي في المغرب، حيث أكد بنكيران في أكثر من مناسبة أن «جماعة الستة» لم تكن ترتبط بمرجعية دينية وشرعية ذات أرضية دينية صلبة لإنزال الأحكام والتصرف على ضوئها، بل كانت تتداول في القضايا والنوازل بنفس شبابي إسلامي سياسي، دون الالتزام بالرجوع إلى العلماء الكلاسيكيين.
كان الهدف الأساسي لهذه الحركة الجديدة هو إيجاد موطئ قدم داخل النظام السياسي المغربي، وتقديم القرابين والعرابين للتأكيد على إخلاصها لثوابت المملكة المغربية: الله، الوطن، الملك؛ في ظل جو انعدام الثقة الذي يسود بين الأنظمة السياسية العربية والحركات الإسلامية بمختلف مشاربها. انتظرت الحركة كثيرًا حتى تتمكن من تأسيس حزب سياسي تلعب به لعبة السياسة بعد رفض السلطات الترخيص لها بتأسيس «حزب التجديد الوطني»، فاختارت الانضمام إلى حزب «الحركة الشعبية الدستورية» الذي كان يرأسه الدكتور عبد الكريم الخطيب، أحد أقدم القيادات السياسية الإسلامية في المغرب، ليغير الحزب اسمه سنة 1998 إلى «حزب العدالة والتنمية».
ظلت الخلفية الدينية للحزب المرتبطة بحركة التوحيد والإصلاح حاضرة في الخلفية، قبل أن يقرر رفقاء بنكيران التخلص منها تمامًا بعد تفجيرات الدار البيضاء 2003، إذ قرّر العدالة والتنمية فصل الديني عن الدعوي، ما سيعطيه حرية أكبر في ممارسة السياسة دون التقيد كثيرا بالخلفية الشرعية التي ستكون أحيانًا معرقلة له في الشأن السياسي.
التعامل السائل مع القضايا الكبرى
عكس غالبية الحركات الإسلامية السياسية، رفض حزب العدالة والتنمية المشاركة في مظاهرات 20 فبراير/شباط 2011 التي تزامنت مع حراك الربيع العربي. كان بنكيران هو من اتخذ هذا القرار وأنذر مخالفيه بالطرد من الحزب ولا كرامة. قبِل الجميع الأمر الواقع إلا قلة قليلة، وفاز بنكيران بالرهان إذ تمكن من الوصول بحزبه «الإسلامي» لرئاسة الحكومة المغربية لأول مرة في تاريخه، كانت ابتسامته رفقة أعضاء حكومته رفقة الملك تقول كل شيء.
اصطدم حزب العدالة والتنمية الإسلامي بالعديد من القضايا الشائكة، كان الجميع يعرف ذلك، وكان الحزب قد أعد نفسه ببراغماتية سياسية يمثلها عبد الإله بنكيران خير تمثيل، ممتصًا الصدمات وواضعًا النصوص الشرعية في الرف إذا ما اقتضت الضرورة ذلك. هذه الفلسفة الجديدة في تعاطي الإسلاميين مع الحكم دون الدخول في أي صراعات أيديولوجية، لا مع القصر ولا حتى مع الفرقاء السياسيين، وإن بما يضمن الحد الأدنى من التزام الحزب بالمرجعية الإسلامية، سيشرحها عبد الله بوانو، القيادي في الحزب، في تصريح له قال فيه: «أنا كسياسي ليس مطلوبًا مني استحضار الآيات في ممارستي للسياسة، بقدر ما أنا مطالب بتطبيق القانون والتشريع».
رغم التحديات، تمكّن العدالة والتنمية من إنهاء ولايته الأولى واللعب على كل الحبال بنجاح كبير، فكان يجمد النصوص الشرعية في سبيل المصالح العليا للوطن تارة، ويستدعي الخطاب الإسلامي للشحن وللتأكيد في المهرجانات الخطابية على أن ممارسة السياسة هي «تجارة» مع الله وليست مجرد لعبة كراسي. لكن مع بداية الولاية الثانية وإعفاء بنكيران من تشكيل الحكومة بسبب عدم نجاحه في تكوين أغلبية ومجيء الدكتور سعد الدين العثماني، ستتغير موازين اللعبة، وسيظهر العدالة والتنمية قدرة أكبر على التخلي عن قناعاته الأيديولوجية؛ «تمامًا» إذا ما اقتضت الضرورة ذلك.
الفرنسة ثم المخدرات فالتطبيع
هذه الأهمية القصوى للغة العربية داخل إطار المشروع الإسلامي تزيد أهمية في المغرب الذي تسيطر فيه الفرنسية على كثير من القطاعات الحيوية المهمة كالتعليم العالي ومجال العمل بشكل شبه كامل، مع توسع الطبقة الفرانكفونية بشكل كبير يجعل من اللغة الفرنسية ليس مجرد لغة ولكن أسلوب حياة متكامل.
يشرح الدكتور فريد الأنصاري هذه النقطة في كتابه «الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب» حيث يقول:
لكن، ورغم الأهمية الأدبية والأيديولوجية في معركة «التدافع المجتمعي» للغة العربية، سمح حزب العدالة والتنمية لمشروع قانون «الفرنسة في التعليم» في المغرب بالمرور تحت قبة البرلمان. برلمانيو الحزب امتنعوا عن التصويت رغم أن إسقاط مشروع القانون كان بإمكانهم لأن عددهم كان أكثر من المصوتين بنعم. مرّ مشروع القانون بطريقة تعكس طريقة تعامل العدالة والتنمية مع التحديات الأيديولوجية الكبرى : لن نظهر موافقتنا العلنية لكننا لن نتدخل لمنع الأمر.
ثاني موضوع مهم شكّك في «إسلامية» العدالة والتنمية، كان قانون تقنين مخدر «الكيف» للاستعمال الطبي. هذه المرة لم يختبئ قياديو الحزب وراء «عدم التصويت» بل تبنوا المشروع كاملًا وخرجوا للدفاع عنه، متحدّين جميع المعارضين له وعلى رأسهم رأسهم عبد الإله بنكيران الأمين العام السابق الذي نشر على صفحته الفيسبوكية رسالة أخبر فيها بتركه للحزب وقطعه علاقاته مع عدد من قياداته وعلى رأسهم سعد الدين العثماني رئيس الحكومة، ومصطفى الرميد وزير حقوق الإنسان، والحسن الداودي الوزير السابق للتعليم العالي، قبل أن يتراجع عن استقالته من الحزب بعد تدخل بعض القيادات الأخرى.
أما الموضوع الأهم، فكان ولا شك، موضوع «تطبيع العلاقات مع إسرائيل». هذا الموضوع يمكن اعتباره خلاصة للمدرسة الفكرية الجديدة التي وضع العدالة والتنمية أسسها لباقي الإسلاميين من الذين سيرغبون ربما في أخذ طريقه في تسيير الشأن العام السياسي في بلادهم.
ستنطلق الحكاية يوم 23 أغسطس/آب 2020. رئيس الحكومة والأمين العام للحزب الدكتور سعد الدين العثماني سيؤكد للمغاربة، ومن خلفهم أعضاء حزبه، أن المملكة لا تضع التطبيع ضمن مخططاتها السياسية، وأن المغرب لن تربطه بالكيان الصهيوني علاقات دبلوماسية. وفي خضم هذه الشعارات الحماسية، خرج مصطفى السحيمي، أستاذ القانون في جامعة الرباط، ليهدئ من روع العثماني ويعيد تنشيط ذاكرته بتصريح قال فيه: «على رئيس الحكومة أن يعلم أن العلاقات الدبلوماسية ليس من اختصاصه».
وفي يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول، أعلن دونالد ترامب، الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية، أن المملكة المغربية ستبني علاقات دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل، بعد أن سبقتها كل من الإمارات والبحرين إلى ذلك. لم يتمكن الحزب من هضم الخبر، وذكرت مصادر من داخل العدالة والتنمية أن العثماني نفسه لم يعلم بالأمر إلّا بعد أن نشرته وكالة المغرب العربي للأنباء.
خرج الحزب ببلاغ بعد ذلك هنّأ فيه الملك على الانتصار الدبلوماسي الكبير بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء (القضية الوطنية رقم 1 في البلاد)، لكن تحاشى الحديث عن موضوع التطبيع أو ذكر إسرائيل. بعدها سيخرج العثماني على قناة الجزيرة ليعيد بصيغة شفهية هذه المرة صيغة البلاغ، مؤكدًا أن الملك تعهد بعدم إيقاف دعمه القضية الفلسطينية، ثم جاء بعدها دور عبد الإله بنكيران الذي خرج مخاطبًا قواعد الحزب الغاضبة مؤكدًا أن مصلحة المغرب هي العليا، معاتبًا في نفس الوقت المهرولين نحو التطبيع الكامل الذي لم يهدف له الملك.
الطامعون في رضا القصر والشعب
رغم الخصومة الكبيرة بين قيادات العدالة والتنمية وزعيمهم السابق عبد الإله بنكيران، فإن الأخير لم يفوّت الفرصة لدعمهم باعتبار أن الحزب لا يملك التقرير في القضايا الكبرى وعلى رأسها الدبلوماسية الخارجية للمغرب، لكن بنكيران لم يتوان عن انتقاد إخوانه بشكل حاد في قضايا تشريع الفرنسة والمخدرات، ذلك لأنه يعلم جيدًا أن لعبة التوازنات تحتم دعم القصر في القضايا الكبرى التي لا يملك الاعتراض عليها (كقضية الصحراء ذات الإجماع الوطني) لكن لا يتوانى عن المشاكسة في القضايا التي تحفظ له الصورة «الإسلامية» التي سيحتاجها في العديد من المحطات المهمة وعلى رأسها الانتخابات التشريعية، عكس باقي القيادات الذين يتهمهم الأمين الحزب للعام بالانبطاح الكامل طمعًا في المكاسب السياسية.
في تقرير لها حول التجربة الإسلامية في المغرب، قالت مجلة جون أفريك، إن المشروع الإسلامي في المغرب انتهى بعد 10 سنوات من وصول الإسلاميين للحكم. في البداية كان توجه القيادات الحزبية هو إصلاح النظام من الداخل، إلا أن النظام هو الذي غيّرهم بعد أن أصبح حزبهم مجرد حزب محافظ له هوية قومية ووطنية كاملة، وهو ما يعبّر عنه الدكتور البشير بن عصام المراكشي بتحول الأحزاب الإسلامية من أحزاب ذات مرجعية دينية إلى أحزاب ذات تاريخ وماض إسلامي، تشترك مع باقي الأحزاب ذات التوجه الأيديولوجي المختلف في هويتها الوطنية، وتدور معركتها الأساسية حول إعلاء قيم الديمقراطية وروح القانون وتحقيق المصالح العليا للوطن.
هذا الماضي الإسلامي رغم تنصل قيادات الحزب منه في عدة مناسبات بشكل واضح وصريح فإنه يعيق العدالة والتنمية في حيازة ثقة الدولة ولعب دورًا أكبر من دورها الحالي، إذ يطمح الحزب إلى الاستفادة من شعبيته ليصبح حزب استقلال جديد، لكن الأجهزة الداخلية للدولة ليست متحمسة لذلك. ففي انتخابات 2017، خرج بنكيران واتهم وزارة الداخلية مباشرة في محاولة التلاعب في نتائج الإنتخابات. كما أن نفس الوزارة أعدت قانونًا جديدًا تم المصادقة عليه يسمى «القاسم الانتخابي» يهدف إلى عدم منح مقاعد البرلمان على اعتبار عدد الأصوات، وهو الأمر الذي اعتبره العدالة والتنمية محاولة منعه من الفوز مجددًا بالانتخابات التشريعية.