كتاب «الخوف السائل»: حينما يضعك العالم في قبو صغير
لم يتوقف المسار الزمني أبدًا عن التحرك بسرعته المعتادة، حاملاً معه التغيرات المنطقية التي يطرحها الإنسان من وقت لآخر، معتقدًا بذلك أنه وبكل تغيير يقدمه سيجعل من العالم مكانًا أفضل، سيقلل الأضرار والمخاوف التي تداهمه، لكنه وبصورة غريبة بدأ يخلق مخاوف جديدة، أكبر من ذي قبل، وبعدما كانت المخاوف في حاجة للمواجهة المباشرة حتى تصبح مخاوف منطقية وواقعية، أصبحت المخاوف ذات طابع مجهول، واتسع نطاقها، وصار أثرها أبعد من ذي قبل، ومباغت أكثر مما نظن.
تبدلت المخاوف وتغيرت في مظهرها، لكنها ظلت محتفظة بتهديدها المباشر لتلك الحاجات التي تحرك حياة البشر، حاجات يشكل فقدانها خطرًا يستدعي تطور أفعال البشر وتغيرها وتطور آليات المقاومة.
في كتابه «الخوف السائل» (الشبكة العربية للأبحاث، 2016)، يقودنا باومان ضمن سلسلته العبقرية «السوائل» عبر منحنيات المخاوف البشرية المنطقية وغير المنطقية وكيف تحولت بشكل جذري عن مخاوف البشر في عصور ما قبل الحداثة والرأسمالية، لتتحول إلى كوابيس لا يمكن النجاة منها، كوابيس يضطر البشر إلى التعامل معها حتى النهاية.
خوف الفردانية والحداثة
إذا عدنا بالتاريخ إلى مجتمعات القبليات والمجموعات البشرية المشتركة في روابط موحدة، بعيدًا عن مفاهيم الدولة ومسئولياتها، فالخوف كان جزءًا من المواجهة الجماعية للمجموعة البشرية، قدمت المقدرات المشتركة في الحرب والترحال والزراعة والطعام، شعورًا جماعيًا بالاتحاد في مواجهة المخاوف المنطقية التي لا تخلو منها الحياة، كالكوارث الطبيعية (جفاف – سيول) أو كوارث اقتصادية وسياسية كالحرب أو القحط الغذائي.
وفرت المجموعات القبلية شكلاً من أشكال الدولة المحكومة بقيادة وبمصير مشترك، لذا فالخوف كان موزعًا على دولة القبيلة في صورتها المقربة، في ظل الاعتماد على منظومة قيمية وعقدية تحكم مجتمع الدولة القبلي الصغير، والذي حصل في فترة لا بأس بها من التاريخ على صِبغة دينية واضحة شكلت خط دعم هام للغاية لضمان الثبات المطلوب لمجتمع الدولة القبلية في مواجهة المخاوف المتكررة.
تفكك الفكر القبلي تمامًا، سواء كان ذلك في الشرق أو الغرب وبدخول حقبة الحداثة وما بعدها بدأت الفردانية شيئًا فشيئًا في التغول على حياة البشر، وهو ما خلع فكرة المواجهة الجماعية للمخاطر والمخاوف، وخلق حتمية المواجهة الفردية للمخاوف، فالملكية الفردية وما يتبعها من قرارات ورغبات ومتطلبات ينتفي فيها أثر الدولة بمختلف مفاهيمها الجامعة عن التدخل سمحت لأنواع مختلفة من المخاوف بالنمو بوضوح داخل المجتمعات الحداثية.
احتياجات جديدة بمخاوف جديدة
بإمكاننا القول إن هذه هي القاعدة التي حكمت الشق الأكبر من عصر الحداثة بكافة صوره، فالاستهلاك وفي تلك اللحظة التي تحول فيها من وسيلة للبقاء إلى غاية في حد ذاته، ارتبط بأشكال جديدة من المخاوف، كفقدان الطبقات البرجوازية الجديدة وما يعلوها القدرة على اللحاق بكل ما يجد من احتياجات جديدة.
هذه هي الصورة الأكثر شيوعًا في تعريف الاستهلاك لسنوات الحداثة، لكن الفحص يظهر أن الكثير من الحاجات البشرية – إن جاز تسميتها بالبشرية – كما أطلقها أصحابها صارت جزءًا لا يتجزأ من حياة البشر، ونشأ معها احتياج هام لحمايتها والحفاظ على بقائها، والعمل مستقبلاً على مواجهة ما ينتج عنها.
فالحواسب والهواتف الذكية على سبيل المثال، في الوقت الذي ارتبطت فيه بحياة البشر، صارت جزءًا من نطاق المخاوف الجديدة التي يجربها البشر للمرة الأولى، مخاوف أن يخترق أحدهم بريدك الإلكتروني أو حسابك البنكي أو كاميرا هاتفك ليخترق حياتك الشخصية، دون أن يحرك أي منكم ساكنًا، وهو نوع صادم من المخاوف تشكل خلال السنوات الماضية، مخلفًا وراءه الصورة القديمة للمخاوف البشرية التي يمكن التخلص منها بإغلاق باب المنزل ووضع قفل كبير عليه.
هلع الرأسمالية الحديثة
واحدة من أفضل أبيات الشعر في تاريخ اللغة العربية، تناقلها الكثيرون للتحفيز والحراك والعمل، لكن أحدًا لم يكن يظن أو يصدق أن الفكرة برمتها قد تتحول إلى كابوس حداثي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالسير في طريق المخاطرة والإعلان عن خوضها صار من مدعيات التفاخر.
يبدأ الأمر بالحديث عن ضرر البقاء في وظيفة ما لمدة طويلة، خشية فقدان المهارة والتوقف عن التطور، ثم يتطور الأمر إلى البحث عن فكرة مشروع جديد والدخول في عالم ريادة الأعمال الذي نجح أصحابه في تحقيق الملايين في سنوات قليلة، ثم التأكيد في الوقت نفسه على أن ريادة الأعمال محفوفة بالمخاطر، والنجاح فيها صعب للغاية، مما يعني أن الخطر موجود طالما كان المشروع موجودًا.
تلك هي الفكرة التي يقوم عليها عصر الحداثة خلال السنوات الماضية، التعامل مع الخطر على أنه حالة طبيعية يُفترض أن تستمر طويلاً، ويٌفترض أن يكون العمل على مواجهتها طوال الوقت هو السبيل الطبيعي لممارسة الحياة، لنبدأ في مواجهة نوع جديد من المخاوف، يتعلق باحتياج بشري أساسي تحدث عنه ماسلو في هرم الاحتياجات وهو الأمان الوظيفي باعتباره من أهم عوامل الاستقرار النفسي للبشر.
لذا فليس من المستغرب أن يكون ذلك جزءًا من نموذج الحداثة السائلة الذي قدمه باومان في سلسلته، نموذج العصر الذي يتفنن في ابتكار المخاوف المستمرة، والصراخ عند اقترابها والفشل في مواجهتها، لتمثل بذلك عالماً غير مستقر نفسيًا على كافة الأصعدة، كما يمكن لمجتمع حداثي أن يكون.
صورة الغياب الإلهي المزعومة
قامت أفكار الحضارة في الجزء الغربي من الكرة الأرضية في العصر الحديث على انتفاء التدخل الإلهي في مسارات الحياة، والتعامل مع المخاوف والنتائج باعتبارها نتائج ثابتة لمقدمات محددة سلفًا، لتتحول الصورة بأكملها إلى حالتها المادية البحتة المنُكرة لأي قوى عليا، مما خلق حالة واضحة من فقدان الاستقرار البشري في مواجهة مخاوفه والتي يمكن الاعتماد على الدعم الإلهي في مواجهتها، هنا صار بإمكاننا أن نرى المادية تُهزم في كثير من المواجهات لافتقار الروح.
ومن هنا انتقلت المخاوف إلى مرحلة مادية بحتة تخضع للمقدمات والنتائج، ليجد البشر أنفسهم في مواجهة مخاوف غير منطقية.. مصطنعة بفعل التغير المجتمعي، بعضها يمكن مواجهته بالحلول البشرية ذات التكلفة النفسية المجتمعية العالية، وبعضها وهمي يمكن التخلص عنه، بالتخلص من مكتسبات الحداثة الوهمية التي اقتنع البشر مؤخرًا أن خسارتها قد تدمر الحياة وتوقفها.
وفي النهاية وجد إنسان ما بعد الحداثة نفسه، في مواجهة مخاوف تغلف الحياة، بدلاً من القضاء على المخاوف المؤقتة التي هددت حياة البشر على فترات وتلاشت.