ذكر الأسد «سكارفيس» وما صح من أخباره
لو حَسن حظك وكنت مع صحبة في سيارة، ولك حس عاقل يبقيك فيها وشجاعة قليلة وفضول كثير، وتتبعت الصوت المسموع في محمية ماساي مارا بكينيا؛ لاقتربت ورأيته، ليس الصوت بالزئير المهيب الذي يرسله حين المعركة والغضب، إلا أنه يسري حتى ثمانية كيلومترات، ولا يزال يخبر عنه ويُعْلِم عن منطقته التي يحميها، وهو لا يحكمها كالقصص والحكايات، بل يصون مصالحه فيها، من أمل قريب في صيد فرائسها، وأمل أبعد في التزاوج مع الإناث، وتدبير طويل قياسًا إلى عمره، مربك بنظر طبائعنا البشرية؛ يقضي بأن يحمي أشباله حتى تقوى، فإن هي فعلت دفعها بكل طريقة أن تهجر حمايته.
فإن عاينته وجدته أسدًا أفريقيًّا في طلته المهيبة، بجسده أثر خدوش وجروح قديمة، وربما في قدمَيه وحل جولته الليلية، تذكر فيه ما قال الجاحظ في الحيوان عن جنسه: “لو لم يكن له سلاح إلا زئيره، وتوقد عينيه، وما في صدور الناس له لكفاه”، ولو عاينته وقت العتمة أو الفجر فلعله يراك ببصره الليلي أحسن مما تراه، على الرغم من أن الندبة المعروفة تحل محل عينه اليمنى، ولكنه يراك فلا تشغله ولا يهم بك إلا أن تكون معتديًا، فليست رائحتك وطعمك وعواقب أمرك المرتقبة تجعلك خير فريسة، وهو ذكر مسيطر في زمرته فليس الصيد عبئه بل عبء الإناث.
وقد ولد في عام ٢٠٠٨ وأصيب بندبته في عام ٢٠١١، وهذا على التقريب، وكل ما نعرفه عنه هو بالتقريب في الزمان والمكان والحدث، فإنه يصعب رصد الحيوان في البرية كل الوقت، حتى إن ذاع صيته واشتهر، والأسود فوق هذا تحسن التواري والاختفاء، ففيه نجاتها من شرور كثيرة.
والزمرة، أو عائلة الأسود، ميزة حصرية لهم دون باقي القطط الكبيرة، بل دون كل القطط؛ فما الصغيرة بعائلية كذلك، والإناث هن قوام الزمرة المستقر، فكل إناث الزمرة ذوات قرابة، والذكور غريبة تنزع الهيمنة من سابقيها غصبًا وحربًا، والأشبال التي لا حول لها ولا قوة يموت منها سبعة من كل عشرة، ومنها ما يقتله الذكر المهيمن الجديد دفعًا بالإناث للتزاوج، وإن الأشبال نجت وكبرت تبقى الإناث منها وتخرج الذكور طلبًا لأخذ زمرة أخرى من أسد أو أسود أضعف، فيكون هذا أحفظ للنسل بالتزاوج بعيدًا عن ذوي قرابتهم، وأوفر للطعام فلا ينازعهم فيه كثرة مجحفة، غير أن هذا لا يحدث إلا بعد أمد، فالذكور البالغة تمضي حينًا أسودًا جوالة، تتخفَّى بالنهار وتتحرك خلسة بالليل، حتى تزداد خبرة وقوة وتكوِّن أحلافًا، لا سيما إن خرجت من أهلها وحيدة، فالوحدة قاتلة للأسد، وليس على سبيل المجاز.
وقد ولد صاحبنا في زمرة أولكيمبيو وتُعرَف أيضًا بزمرة شجر التين، وكان يسيطر عليها خمسة ذكور، شيزا وسالا وجنيور ولولبارت وأولبارنوتي، وهم إخوة أو أولاد عم، وأبوه واحد من أول ثلاثة، فلقد انفصل لولبارت وألبارنوتي عن التحالف مبكرًا أملًا في أن يصيبوا زمرة أخرى فيهيمنوا عليها بمفردهم، وعَمَّر لولبارت ذو الشعر الكبير طويلًا، خمسة عشر عامًا أو يزيد، وهذه مائة من عمر البشر أو تكاد، فالأسود في البرية تموت عند عشر سنين أو قريب من ذاك، وما بعد ذلك فهو الهِرم، وليست البرية رحيمة بذوي السن، أو ربما الموت رحمة لها، فإنا لا ندري ولا هي تدري، فلسنا نعلم أمر كل شيء، وليست تعير هي اهتمامًا للمصطلحات المعنوية والأفكار الفلسفية، وهذه ليست قصتنا، وإنما قصتنا أن صاحبنا إذ أنجته قوة عصبته من الموت شبلًا؛ لزم عليه أن ينجو بعد ذلك بالخروج منها في سن عامين ونصف تقريبًا، وخرج معه ثلاثة من إخوته، فكانوا أربعة أسود جوالة غرقى بهرمونات القوة والغضب والتزاوج، وتتلقاهم المتاعب، فإن هي رغبت عنهم خرجوا في طلبها، ينحون شمال غرب موضع مولدهم، ولا يأمنون لأحد ولا يأمنهم أحد.
وفي هذه المدة أصيب هو بجرحه ولقي ندبته، وقيل إنها أثر رمح راعٍ من رعاة الماساي، وهو القول الأشهر، وقيل بل مشاحنة مع أخ له، وهو الأرجح عندنا، فلعل رعاة الماساي يحبون قولهم نحن أصبناه، وإنما لا يشبه الجرح ما قد يصنع الرمح بالوجه. وتهتك حاجبه الأيمن، فطببت إدارة المحمية ما استطاعت منه بما تبيح قواعدهم من علاج ميداني، وصار له اسم علم، وهو سكارفيس، أي الوجه ذو الندبة، وصار هذا الوجه يُعرَف ويُألَف حتى لمن تتشابه عليه الأسود، واهتم خلق كثير بأمره وإخوته، وكان هو في إخوته أطولهم وليس بأضخمهم، فأضخمهم كان اسمه موراني، أي المحارب، وأما الثالث والرابع فاسماهما: سيكيو، أي الأذن لما فيها من قطع، وهنتر، أي الصياد لبراعته في صيد الجاموس. ولما نظر الناس لأحواله وإخوته أراهم من شأنه ما يرضيهم ويحبون أن يحكوه.
والناس مذ كتبت التاريخ رأت في الأسد شرفًا في الطبع، واختار الملوك أن يكونوا أسودًا منذ سومر وأبي الهول، واختير الأسود ليكونوا ملوكًا منذ آيسوب وابن المقفع، والأسد عند الناس سيد السباع ومَثَل الإقدام والشجاعة، وفي هيئة ذكوره مهابة، وفي هيئة إناثه شراسة، وفي هيئة أشباله وداعة. لكن البشر أعجب المخلوقات، تُهلِك ما أحبت، وتعادي ما أعلت قدره، ولا يأمن شرها حين تطأ موطئًا سبع ولا بهيمة، فترى الأسود انحسرت إلى أفريقيا إلا قليلًا، ثم ينقص عددها لأقل من عشرة في خمسين سنة، فتدبر.
وأغار سكارفيس وإخوته الثلاثة، وقد صار اسمهم الفرسان الأربعة، على زمرة الأهوار، وهي بين زمر الأسود هنالك الأشهر بين الناس، فقد تتبعها وثائقيون، تُعرَض أيامهم مع القطط الكبيرة بالسنين عبر هيئة الإذاعة البريطانية، وكانت هبتهم تلك في ٢٠١١، وكانت زمرة الأهوار يومئذٍ تحت أسدين متحالفين، اسمهما كلاويد، أي ذو المخالب، وروميو، كاسم العاشق عند شيكسبير، وفر العاشق شرقًا حين رأى غارة الفرسان الأربعة، فعبر النهر فزعًا لا يبالي بتماسيحه ولا أفراسه جهة تلال وحيد القرن، وأما ذو المخالب فثبت وقاتل حتى جرح، وانسحب وما فيه إلا قوة قليلة أراد بها صيد بهيمة راعٍ فقتله الراعي وأكلته الضباع.
فلما انقضى العام للذي يليه، وبدا الخير والمنعة لسكارفيس وإخوته، وأنهم آمنون من كل وحش وضارية وسبع بقوتهم ولُحمتهم، ضُرب سكارفيس برمح في بطنه من أحد الرعاة، وما ينبغي للرعاة الرعي بالمحمية، وإنما يدخلونها خلسة بالليل، أو يرعون بأطرافها تسللًا نهارًا، فإنما هم بذلك قد اعتدوا عليه مرتين، مرة إذ كانوا حيث لا ينبغي لهم، ومرة إذ ضربوه بالرمح، والقتل بلا قتال أكثر خسة من طبع الضباع، وهي شر الحيوانات عند الأسد، فهي تنازعهم الغنيمة بعد الصيد، وتقتل الأشبال، وتستكثر بأعدادها على وحيدهم وعجوزهم وتأكلهم، وقد كره الناس الضباع ما أحبوا الأسود، ورأوا في خُلقها خسة وفي طبعها رجسًا، وزادوا فرأوا في وجهها قبحًا وفي تسلط إناثها انتكاسًا، وما يصح ذلك في وصف الحيوان، فإنما هي مسخَّرة ومُيسرة.
وقد عالج الإنسان بالطب ما صنع أخوه بالرمح، فداووه وتعافى، وكأنه كره موضعه بالأهوار وزمرتها بعدها، فزهدها هو وإخوته وانطلقوا إلى غيرها، وهذا من حسن ما قُدِّر له، فالزمرة بعد عامين أو أقل، أي في ٢٠١٥، آذاها جثة مسمومة تركها الرعاة، فأصابت ثمانية من أسودها وعيت، ثم حكم الزمرة في ٢٠١٦ أسدان ذكران اسمهما، تاتو وريد، أي الثالث وأحمر، وقيل إنهما من نسل سكارفيس وإخوته، وهو غير مرجح، فساساها ثلاث سنوات حتى اختفيا في ٢٠١٩.
وأما الفرسان الأربعة لما تركوا الأهوار في ٢٠١٣ فقد اتجهوا جنوبًا وشرقًا إلى سهول الجنة، وقيل إن الزمرة التي تسكن في وسطها، واسمها زمرة الجنة كذلك، خير زمر المحمية صيدًا وسلبًا، وربما أراد سكارفيس وإخوته قبل أن يولي شبابهم إذ توسط بهم العمر أن يضمنوا أنعم العيش المتاح، وهم يومئذٍ عمرهم ست سنين أو يزيد، فصاروا يأتون السهول من أطرافها، وفيها زمرة أخرى اسمها ريكيرو، وهي والجنة وغيرهما من زمر السهول يحميهم ذكران اسمهما ليبستيك، أي طلاء شفاه، وبلاكي، أي ذو السواد، فأراد الفرسان ضم ريكيرو إليهم، وظنوا أن لن يُغلَبوا عن قلة، فخاب سعيهم ورجعوا بالهزيمة، غير أنهم عاودوا بعد بضعة أشهر، فكان لهم ما أرادوا، وظلوا يناوشون غريمَيهم حتى أجلوهما عن سهول الجنة كلها، واستقرت لهم زمرها، ومنها زمرة الجنة وهذا في ٢٠١٦.
ونالوا بهذا أجود ما يكون لأسود في عمرهم في تالي الأيام، وكانوا بخلاف قوتهم في الحماية، بارعين في الصيد، واشتهر عنهم ما أجادوا من صيد أفراس النهر، وهي أشق حيوانات هذه البرية صيدًا، فإن لها جلدًا سميكًا أملس، ويثقل جسمها حتى تزيد عن الطنين، وهي غضوب أشد ما يكون الغضب، حتى إنها تنال من البشر في أفريقيا أكثر من أي دابة أخرى، فصيدها ليس كصيد الحمر الوحشية ولا الجاموس، وقيل إن سكارفيس كان ينفرد وحده بصيد الواحد منها، وهو أمر جلل إن صح. وزاد الإخوة في عدة الزمر التي في حمايتهم حتى بلغت ستًّا، وقيل سبعًا، ولكن ما بلغنا هو ست، وهي زمر: الجنة، وريكيرو، وموجورو، والتلال الصينية، ونهر مارا، والمرصد، وقد مالوا للعيش قرب الأخيرة في ما تلا من أيامهم، وهي أميل ما يكون للجنوب والغرب في منطقة سطوتهم التي وسعت عشرات الآلاف من الأفدنة.
وأتى الناس من كل فج يشاهدون سكارفيس، وتفاضل من رآه من زوار المحمية على من لم يرَه، حتى إن كان نائمًا ساكنًا، وأغلب يوم الأسود تقضيه في النوم، أو يُرى وهو في إخوته وفي ذاك رهبة بالغة، ولربما رأوه تلاعبه الأشبال وتعابث لبدته الكثيفة الداكنة على غير العادة مما بين الذكور والأشبال من جفاء، وإن تراه يمشي تجد في مشيته عرجًا ظهر منذ ٢٠١٦، لخلع في مفصله الخلفي دون جرح ظاهر، وزاد أثره مع السنين، وما كان لأسد آخر في تحالف آخر أو في إخوة آخرين أن يطول به العيش بمثل هذا، وكأنه كما قال جوناثان سكوت، وهو مصور: إنه لو أن لقط حقًّا تسع أرواح فهو سكارفيس، فليست العيشة الهنية بالتي تخلو من المعارك الضارية، يذكر منها ما كان من أمرهم مع أولاد سالا؛ وهي أسود شابة ثلاثة عُرِفت بشغبها وحماستها، إلا أنهم لم يفلحوا حين أرادوا أن ينزعوا من سكارفيس وإخوته زمرة ريكيرو، وردهم الفرسان عنها في عام ٢٠١٩.
والأمور إن صفت أو غامت لا تدوم، ففي عام ٢٠١٩ نفسه اختفى هنتر ولم يُرَ مدة يرجح معها موته، ثم بعدها بعام أو يزيد أصيب سيكيو بشدة، ولم نقف على سبب لإصابته، وانفرد بنفسه بعيدًا عن إخوته، واتجه إلى موضع ميلاده شمالًا، ثم لم يُرَ هناك ولا في غيره من الأماكن، وقيل بل وجدت جثته في محمية أخرى، والله أعلم، فحينها قد حل الوباء بالبشر، وقل مجيئهم وذهابهم ببرية ماساي مارا، ثم اختفى سكارفيس، وأُشيع أنه مات، حتى ظهر نهاية ٢٠٢٠، ولم يبقَ من رونقه إلا عز وجاه من ينتظر الموت في كرامة، فقد ضعف جسده ونحل، وساءت إصابة مفصله، فكأنه خاف عبئه على أخيه موراني، فسلك مسلك سيكيو واتجه شمالًا، حتى إذا كان قرب شجر التين موطن مولده، وقد صار المكان يحميه أولاد سالا وهم له أعداء، شوهد هنالك قرب النهر يستريح من سنه وتعبه، وأولاد سالا يمرون إلى صيدهم مبجلين فلا يناوشونه ولا يرهبونه، ويتركون له ما يستقوي به فلا يهلكه الجوع وطمع الضباع، ثم كانت أيام قلائل وقف الناس فيها يرقبون هذا المخضرم يحيِّي الموت وقد طالت عداوتهما، فمات في ظهيرة هادئة بلا قتل ولا واعتداء، وكبر على الناس أن يُترَك مثله للضباع والطير فدفنوه، ونعاه الناس وأكثروا، وكذب عليه من لا علم لهم تكسبًا من شهرته، فقالوا ما لا يعقل ولا يصح، فأردنا أن نقص ما رجح من أمره العجيب على قول العارفين بمثل أمره، وما أخطأنا فيه فمن غير قصد ولا غرض، وسبحان الذي يعلم أمر كل دابة في الأرض ثم إلى ربهم يحشرون.