التخلص من الممحاكات: ثورة علماء اللغة على قواعد النحو
كثيرًا ما نسمع بعض الطلاب والكتاب والمثقفين يقولون إن قواعد العربية صعبة التعلّم، وبالتالي شاع الخطأ عند الكتابة والكلام بين المثقفين والطلاب. والسؤال إذاً: هل بالفعل قواعد العربية صعبة في ذاتها أم إن طرق عرضها وتعليمها هي التي خلقت تلك الصعوبة؟ وللإجابة على هذا التساؤل فإننا نستعرض آراء العلماء المتخصصين الذين ناقشوا تقديم قواعد العربية لمتعلميها وكذلك نلقي الضوء على بعض العلامات الفارقة في تقديم العربية سهلة رشيقة للمتعلمين.
مماحكات غير مفيدة
يُفترض أن قواعد العربية وُضعت من البداية لتسهيل التعامل مع اللغة وفهمها فهمًا سليمًا ولكن المنظِّرين والمقعِّدين للعربية منذ القدم قد بالغوا حتى جعلوا هذه القواعد معقَّدة. ويصف ابن مضاء القرطبي (ت. 513هـ/1196م) في كتاب الردّ على النحاة: «إني رأيت النحويين -رحمة الله عليهم- قد وضعوا صناعة النحو لحفظ كلام العرب من اللحن وصيانته عن التغيير، فبلغوا من ذلك الغاية التي أمّوا، وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوه، والتزموا ما لا يلزمهم، وتجاوزوا فيها القدر الكافي فيما أرادوه منها فتوعَّرت مسالكها، ووهنت مبانيها، وانحطَّت عن رتبة الإقناع حجتها».
هنا يبيِّن ابن مضاء مخالفة النحاة للهدف الذي وُضعت من أجله القواعد ويؤكد ضرورة العودة وتصحيح المسار: «على أنها -أي قواعد النحو- إذا أُخذت المأخذ المبرَّأ من الفضول، المجرد عن المماحكات والتخييل كانت من أوضح العلوم برهانًا، وأرجح المعارف عند الامتحان ميزانًا».
وقد قاد ابن مضاء صاحب هذه الكلمات في كتابه «الرد على النحاة» ثورة على ما وجده من تعقيدات غير مفيدة في تعلم العربية مناديًا بتحطيم كل ما هو غير مفيد في صحة الأداء وتصويب اللسان، داعيًا إلى إكساب الكتب المؤلفة في النحو العربي سمة السهولة واليسر. والحقيقة أن دعوة ابن مضاء قد لاقت قبولًا كبيرًا بعد زمن ابن مضاء بكثير وتحديدًا في زماننا.
لا تعقيد وخذ النحو مصفى
تلقَّى محمد عيد أستاذ اللغة العربية بكلية دار العلوم دعوة ابن مضاء وقام بتصفية النحو العربي وأعاد تقديمه للقارئ العربي بأسلوب سهل وواضح. جاءت مساهمة محمد عيد في كتاب بعنوان «النحو المصفَّى»، وذلك لأنه وجد أن «طول الصحبة لكتب مسائل النحو القديمة -مطولة ومختصرة، نثرًا ونظمًا- تؤكد لدى كل منصف أن هذه الكتب صعبة على الشادين في النحو، بل إن بعضها يتعذر استيعابه على الدارسين المتخصصين أنفسهم، وذلك لامتلائها بالحشو والفضول».
تلقت الأوساط الأدبية والثقافية في مصر في السبيعينيات كتاب «النحو المصفى» بالترحيب والثناء والمناقشة. كما أقبل عليه كثير من الإعلاميين والمعلمين ورجال القانون. فقد أشاد أنيس منصور بـ «النحو المصفى» وناقشه أساتذة متخصصون مثل تمام حسان وكمال بشر وحسين نصار.
نشرت دار عالم الكتب بالقاهرة هذا الكتاب في أكثر من طبعة أولها في أوائل السبعينيات وآخرها طبعة أنيقة صدرت سنة 2009.
نحو واضح لا لبس فيه
ومن الإسهامات المهمة في مسار تبسيط العربية للدارسين، التي سبقت المساهمة سالفة الذكر، كتاب «النحو الواضح» للصحفي الشهير مصطفى أمين وللشاعر الكبير علي الجارم. ومثلما حدث مع محمد عيد، لاحظ كل من الجارم وأمين أن «المبتدئين في تعلم قواعد العربية، يتجشمون صعابًا في درسها ويقاسون عناء في إدراكها» وذلك لأن «الكتب التي وُضعت لهم فيها لم تأخذ بأيديهم إلى الغاية المنشودة إلا قليلًا». ولذلك فقد وضع الجارم وأمين كتابهما «النحو الواضح» ليملأ هذا الفراغ ويجعل تعلم العربية سهلًا وممتعًا.
اتصف كتاب «النحو الواضح» بالتطبيق العملي وتحفيز القارئ على التفكير والاستنباط وهذا طبيعي عندما يقدم قواعد اللغة مؤلفان تمثل اللغة ركنًا أساسًا في عملهما؛ فأمين صحفي بارع والجارم شاعر كبير، وبالتالي فإنهما يحسنان تقدير الحاجة إلى تعلم قواعد العربية على نحو عملي تطبيقي.
ويبيِّن الأستاذان الجارم وأمين منهجهما: «وقد نحونا في هذا الكتاب طريقة الاستنباط التي هي أكثر طرق التعليم قربًا إلى عقول الأطفال، وأثبتها أثرًا في نفوسهم، وأقربها إلى المنطق، لأنها خير دافع إلى التفكير والبحث، وتعرّف وجوه المشابهة والمخالفة بين الأشباه والأضداد؛ فقد أكثرنا من الأمثلة التي تستنبط منها القواعد، على طراز حديث لم يسبق له مثال، فاخترناها سهلة مفهومة، مقصورة في الغالب الكثير منها على ما يُراد منها، ضاربة في جهات شتى من نواحي الحياة».
ورغم أن كتاب «النحو الواضح» وُضع في الأساس ليكون كتابًا مدرسيًا فإنه نافع لكل من يريد أن يطوِّر قواعد لغته العربية من الكُتَّاب والباحثين والمثقفين الذين يجدون صعوبة في دراسة العربية أو ممن فاتتهم الفرصة في مراحل التعليم المختلفة.
فقد بيّنَ المؤلِّفان «في بسط وأناة سبيل الاستنباط من الأمثلة، سالكين سنناً منطقياً جلي العبارة، خالياً من الاصطلاح العلمي، آخذاً بأيدي الأطفال -وكل من يستفيد من الكتاب بشكلٍ عام- من دراسة كل مثال إلى النتيجة الواضحة والقاعدة العامة». كما حرص المؤلفان على تقديم تمرينات فيها تنوع وسهولة في المعنى حتى تدفع الدارس إلى تأليف وتكوين الجمل وتكوين الذوق العربي السليم وتنمية قوة الإنشاء والتعبير الصحيح.
دار المعارف هي أقدم ناشر لكتاب «النحو الواضح» وصدر عنها الكتاب في أكثر من طبعة. ولأهمية الكتاب وكثرة الحاجة إليه نشره أكثر من ناشر، فعلى سبيل المثال أصدرت مؤسسة الرسالة في بيروت طبعة فاخرة من الكتاب تشتمل على تشجير لقواعد العربية وحل للتمارين التي تعقب كل درس، وهو ما لا يتوفر في طبعة دار المعارف. يغطي الكتاب بشكل عام مرحلتين من مراحل التعليم هما المرحلة الابتدائية والمرحلة الثانوية (حيث كان التعليم المدرسي قديمًا مقسمًا إلى هاتين المرحلتين فقط)، لكن مرة ثانية نؤكد أن هذا الكتاب هو مفيد لكل من يريد تحسين لغته العربية بغض النظر عن هذا التقسيم المدرسي.
الأساسيات هي الأهم
وإضافة إلى المساهمات السابقة، تأتي مساهمة كل من محمد حماسة عبداللطيف وأحمد مختار عمر ومصطفى النحاس زهران الذين قاموا معًا بتأليف كتاب سموه «النحو الأساسي». وفي هذا الكتاب يأخذ المؤلفون بأيدي القارئ إلى تأسيس قواعده العربية على نحو عملي تطبيقي.
افتتح المؤلفون كتابهم بتوضيح أهمية هذا الكتاب والثغرة التي يملؤها: «كانت المكتبة العربية في حاجة ماسة إلى كتاب في النحو العربي يعالج الأسس الكلية، ويجمع الجزئيات المتناثرة، ويتخلص من التفريعات غير الضرورية، ويركز على النماذج العملية للجملة، ويتخذ مادته وأمثلته من اللغة المعاصرة، ويجمع إلى جانب القاعدة النظرية التطبيق والتدريب العملي». ويضيف المؤلفون: «يُوجه الكتاب إلى المثقف العادي الذي يعرف أوليات النحو العربي، ويرى أن ينمي معارفه، أو يسترجع معلوماته بطريقة ميسرة، أو القارئ الذي يريد أن يعرف أنماط اللغة العربية المستخدمة في القراءة والكتابة، والقواعد الأساسية التي تحكم بنية الكلمة وتركيب الجملة في العربية».
هذا وقد قام محروس وإبراهيم العريني بإصدار دليل يشتمل على التدريبات العملية وإجاباتها، ويمكن الوصول إلى الكتاب ودليله عن طريق دار الهاني للطباعة والنشر والتوزيع.
نحو جديد
لا يمكن الكلام عن تجديد النحو العربي من دون التعرض لجهود شوقي ضيف أستاذ اللغة العربية الشهير في هذا المجال. أصدر ضيف نشرة نقدية من كتاب ابن مضاء القرطبي الردّ على النحاة، المشار إليه في بداية هذا المقال.
صدرت هذه النشرة عن دار الفكر العربي في القاهرة سنة 1947. ولم يقتصر الأمر على هذا بل إن الرجل كان صاحب مشروع كبير في هذا الصدد، وكانت بداية هذا المشروع هي نشره لكتاب ابن مضاء.
تحدث شوقي ضيف عن هذا في مقدمة كتابه «تجديد النحو» الذي حاول فيه تقديم النحو العربي بصورة جديدة: «كان نشري لكتاب الرد على النحاة لابن مضاء القرطبي سنة 1947 باعثًا لي -منذ تحقيقه- على التفكير بتجديد النحو بعرضه عرضًا حديثًا على أسس قويمة تصفِّيه وتروِّقه وتجعله داني القطوف للناشئة». ويضيف أيضًا في مقدمته هذه التي كتبها سنة 1982:
نتيجة لهذا التخبط الذي حدث في مسار تطوير النحو قدّم شوقي ضيف مشروعًا ضمنه أُسُسًا كان قد كتبها في مقدمة نشرته لكتاب ابن مضاء وأضاف إليها أُسُسًا أخرى ذكرها في مقدمة كتاب تجديد النحو.
هذه الأسس كلها تقوم على فكرة العرض المبسط الذي يبنى عليه تطبيق عملي يحتاج إليه كل من يكتب ويتحدث بالعربية وحذْف كل ما لا صلة له بواقع الناس واستخدامهم للغة. وجاء كتاب «تجديد النحو» ليجسد تطبيق هذه المبادئ تطبيقًا عمليًا، حيث يعرض النحو عرضًا واضحًا مبسطًا يفيد الكاتب والمتحدث بلغة العرب. صدر هذا الكتاب عن دار المعارف بالقاهرة.
تلخيص مفيد
وقد استشعر فؤاد نعمة مدير المكتب العلمي للتأليف والترجمة مشكلة تقديم قواعد اللغة العربية: «يعتقد كثيرون أن قواعد اللغة العربية على جانب كبير من الصعوبة والتعقيد بحيث يتعذَّر على أي شخص أن يُلمَّ بها إلمامًا كافيًا ما لم يتخصص في دراستها».
ويعلل نعمة ذلك: «ويرجع سبب هذا الاعتقاد أن القواعد يتم دراستها بصورة مجزَّأة دون الربط الكافي بين تقسيماتها المختلفة، فتظل مشتتة في الأذهان». وكمبادرة لحل تلك المشكلة وضع نعمة كتابه ملخص قواعد العربية كمساهمة في «إعانة القراء على استيعاب قواعد اللغة العربية وترتيبها في أذهانهم». وميزة هذا الكتاب أنه عرض منظم مبسط للقواعد مع توضيح كل حالة باستخدام الأمثلة والجداول. صدر الكتاب عن المكتب العلمي للتأليف والترجمة في عدة طبعات.
جاءت كل الإسهامات التي عرضناها لتقدم قواعد اللغة العربية للدارسين ومستخدمي العربية في عملهم على نحو مبسط لا يخل بالغرض الأساس من وضع هذه القواعد وهو استخدام اللغة وليس التنظير المعقد لقواعدها.