«لقد تجاوزوا الحد»: محدودية المقاربة الحقوقية في فلسطين
في حوارٍ مصوّر بين الصحفي الأسترالي ريتشارد كارلتون وغسان كنفاني، يقول الأول: «يبدو أنَّ الحرب الأهلية لم تأتِ بنتائج مثمرة»، فيقاطعه كنفاني معترضًا: «لا، ليست حربًا أهلية…»، يصحح كارلتون: «أو نزاع»، ليرد عليه: «لا، ليست نزاعًا…»، ليستسلم كارلتون، أخيرًا، فيقول: «حسنًا، أيًا يكن مُسمَّاها». عند هذه النقطة يوضِح له كنفاني فيقول: «لا ليست أيًا يكن، إذْ هنا بداية المشكلة، فهذا ما سيجعلك تطرح أسئلتك، ههنا مبتدأ المشكلة بالضبط».
صدر في أبريل/نيسان الفائت تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الموسوم بـ«تجاوزوا الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد». وفق هذا التقرير تفاقمت الجرائم الصهيونية واتخذت أبعادًا لا إنسانية. ينحصر التقرير كما ورد في متنه وعنوانه بجريمتي الفصل العنصري والاضطهاد في المناطق الواقعة تحت سيطرة الكيان الصهيوني، بمعنى أنَّه لن يتطرق للجرائم الأخرى. لم يكن هذا التقرير أول مَن وصف ممارسات سلطات الاحتلال بأنَّها ممارسات فصل عنصري واضطهاد، بل سبق المنظمة الدولية منظمات أخرى وشخصيات عامة. لكن ما يميز هذا التقرير هو إعداده من منظور القانون الدولي؛ أمرٌ لم تنجزه على هذا النحو المنظمات والشخصيات التي سبق ووصفت ممارسات الكيان بهاتين الصفتين.
حصل التقرير على ردود فعلٍ إيجابية من السلطة الفلسطينية– يشير التقرير إلى تعاونها مع سلطات الاحتلال في إنفاذ عنصريته– والجهات الداعمة للقضية الفلسطينية. بالمقابل، أدانته سلطات الاحتلال ورفضت ما ورد فيه جملةً وتفصيلًا تحت ستار معاداة السامية والأجندة العدائية التحريضية. من جانبٍ آخر، لعل حرب الأحد عشر يومًا في قطاع غزة، إلى جانب ما تحظى به المنظمة الدولية من مكانة على المستوى الدولي وخطابها المضمَّن في متن التقرير، قد أسهم في زيادة الاهتمام والضجة حول التقرير. لا تهدف المادة الحالية إلى تلخيص أو إعادة عرض ما ورد في التقرير المنشور، بل تتمحور حول تقديم تعليقِ موجز بصدده.
الحال أنَّ هذه الإدانة المتأخرة تُضِيف إلى سجل الإدانات السابقة دليلًا له تأثيره الدولي، كما يُشاع، لكن في الآن ذاته له حدوده. من جهةٍ أولى، ينتهي التقرير، بعد استناده إلى مجموعة وثائق وشهادات، إلى وصف ممارسات سلطات الاحتلال بأنَّها جرائم ضد الإنسانية، جريمتا الفصل العنصري والاضطهاد. بمعنى أنَّ مجموعة عرقية ما تحافظ عامِدةً على نظامِ هيمنةٍ على، واضطهادٍ لمجموعة عرقية أخرى وتحرمها من حقوقها الأساسية لا لأي سبب سوى انتمائها العرقي. للوهلة الأولى تبدو لغة التقرير واتهاماته راديكاليةً، أو هذا ما يميل إليه بعض المراقبين الدوليين.
من جهةٍ ثانية، حين نأتي إلى التوصيات نرى تناقضًا واضحًا بينها وبين الراديكالية المزعومة للنتائج. والمثال الأبرز في هذا المقام هو التوصية القائلة بالاعتراف بحق من هُجِّر في عام 1948 وذريته بالعودة إلى منزله في فلسطين المحتلة. هذه التوصية شبه مستحيلة وكاريكاتورية حين توجَّه إلى سلطات الاحتلال، إذْ في حال وُضِعَت موضع التنفيذ الحق– لو افترضنا جدلًا– ستعني تفكيك الكيان الحالي حتمًا، فكيف أمكن اقتراحها؟
بالوسع تقديم إجابة على هذا السؤال مُختصرها أنَّ المنظمة تنظر إلى المسألة من باب حقوقي- إصلاحي. بمعنى، يقف أمامها طرفان متساويان، ولكن في القضية المنظورة يُزعم أنَّ أحدهما معتدٍ على حقوق الآخر. تنطوي هذه المقاربة ضمنًا على إعطاء شرعيةٍ كاملة ومتساوية لطرفي النزاع، فأمام منبرها يقف الفلسطيني بموازاة الإسرائيلي، كلاهما طرف في القضية. الحاصل أنَّه وبعد النظر «المحايد» في الوثائق والاستماع للشهادات وما إلى ذلك، ومقارنتها مع مسطرة تعريف الفصل العنصري ومسطرة تعريف الاضطهاد، ثبت للمنظمة أنَّ ممارسات وسلوك سلطات الاحتلال تجاه الفلسطينيين تطابق التعريفين. إذًا، على سلطات الاحتلال تقويم ممارساتها وسلوكها، وأقصى ما تقدمه هذه المنظمة– أي حدها– أنْ توصِي السلطات ذاتها.
علاوة على هذا، تتوجه المنظمة أيضًا إلى المجتمع الدولي فيما يشبه نداء إلى أصحاب القلوب الرحيمة ومناشدة الضمير الحي والمسؤولية والقيم الإنسانية. في هذا الصدد، فقد أثبت لنا التاريخ، وما زال، أنَّ هذا النوع من الالتماسات والبيانات لم يفلح يومًا في وقف أي شيءٍ ضد الإنسانية. لقد سُطِّرَت في الماضي مع كل مجزرة أو حملة البيانات والعرائض من شخصياتٍ مرموقة ومنظمات محلية ودولية– من بينها بيان حمل توقيع آينشتاين وآرندت وشخصياتٍ أخرى– ومع ذلك لم يتغير نهج الكيان وداعميه. إذًا، أقصى ما تقدمه هذه المنظمة– أي حدها– لا يمكن أنْ يضيف الشيء الكثير لنضال الشعب الفلسطيني.
في سياق آخر، يورِد التقرير اقتباسات من ساسة صهاينة، سواء من اليمين أو اليسار المزعوم، تدعم الممارسات العنصرية، كذا تحيل إلى دور الحكومات الصهيونية المتعاقبة في هذا المضمار. لكن لا يدفعها هذا لبحث المسألة بطريقة أعمق، لتتقفى الجذر الصهيوني في هذا التطابق بين اليمين واليسار. بل تقف عند مستوى مؤسسي ينتهي إلى التوصية بضرورة تقصي الوقائع وتحليلها ومحاسبة من يثبت تورطه في هذه الجرائم. إنَّها أشبه بفلترة الكيان من العناصر التي تسيء إلى صورته– بالطبع، في حال أمكن إثبات تورط أحدٍ ما.
ولو افترضنا اتباع مسار العدالة الدولي، فإنَّه مسار طويل وشائك ومزروع بالشِراك. وتبيت فيه الحقوق سنوات وسنوات ولن يتمخض عنه سوى إدانة فردية للمسؤولين المباشرين. ومرةً أخرى بالعودة إلى التاريخ، لم نسمع عن شعبٍ حصل على حقوقه بالمطالبة بها من المجتمع الدولي، لم نسمع حتى عن أحدٍ أخذ حقوقه، ما سمعناه يفيد بأنَّ الحقوق تُنتَزَع.
بالمحصلة، ينطلق التقرير من وضع قائم، لكنه لا يتعقب تاريخه (الاختلاق والتطور والمآل)، لتنتهي حدوده عند توجيه الاتهام. مرد ذلك كما ورد سابقًا شرعية الطرفين المتساوية أمام المنظمة. لذا، نراها تصوِّب على عنصرية الاحتلال، لا الاحتلال. تتجاوز عن النكبة وما قبلها للحديث عن احتلالِ مناطق حسب شرعة القانون الدولي. النهاية المنطقية لهذا الخطاب، أنَّ مبدأ المشكلة في ممارسات الكيان القائم وسلوكه لا في الكيان القائم نفسه؛ أنَّ المشكلة بين عرقية يهودية وأخرى فلسطينية، لا بين قوة احتلال توسعي استيطاني وشعبٍ يعاني منذ أكثر من 70 سنة ويلات التهجير والقتل والحصار والدمار. هكذا يُختتم بطرح حلٍ مؤدَّاه تقويم الممارسة والسلوك لا تصفية الاحتلال والصهيونية والتحرير الكامل.
يتيح هذا المنظار القانوني النظرَ اللاتاريخي في هذه الممارسات الممنهجة وتجاوز الأسئلة الأكثر عمقًا، فالقائم بهذا التقرير يبحث عن إثبات أو نفي تهمة معينة لا عن جذر وأسباب التهمة. هكذا يجب وضع هذا التقرير، والمنظمة بالعموم، ضمن إطاره المحدد. من جانبٍ ثانٍ، لا ينبغي تخدير الوعي العام بالقول إنَّ ما أقرته منظمة دولية يعني خطوة كبيرة في مسار القضية الفلسطينية. فالخطوات الكبيرة تنجزها فقط سواعد المقاومة في فلسطين، كما حدث خلال حرب الأحد عشر يومًا. هذا المسار الأوحد اللازم الحفاظ عليه والعمل على إبقائه حيًا والتعويل عليه. أما ما قد يرفد هذا المسار من روافد أخرى، فهي مهمة بمقدار ما تكشفه صراحةً عن جذرِ المشكلة.
على هذا النحو، نتذكر في هذا المقام حجاج كنفاني أمام كارلتون، كيف أنَّ نقطة الانطلاق في أي نقاش ستحدد مساره. صحيح أنَّ الاحتلال عنصري، أجل هذا لا يمكن إنكاره، وأنَّ التقرير قدَّم وثائق وشهادات مهمة في هذا الصدد ولكن نضيف بأنَّ العنصرية ليست سوى جانبٍ واحدٍ أو عرَض من أعراضه. بإيجاز، ليكن مبدأنا المرشد: مع كل إدانة جزئية أو كلية للكيان، ضد تحويل الفرعي إلى جذري.