كأنها حرة — قصة قصيرة
(1)
على مقعد متحرك يحمله شابان من جنبيه، صعد سلالم المنبر لأعلى. تنقل الكاميرا المشهد المهيب الذي لازمه صمت غريب من الحشود كلحظة إجلال وتوقير تاريخية. بطريقة درامية، يستدير الشابان بالمقعد في مواجهة الجمع تمهيدًا للخطبة التي ستُلقى. يتبين أن الجالس هو «محمد الضيف».
لم تُظهِر الكاميرا تفاصيل إن كانت قدميه قد أصابهما الشلل أم أنهما ساقان اصطناعيتان؛ جرَّاء إحدى محاولات اغتياله المتعددة، فقد كانت تُركِّز على النصف الأعلى.
وملثما بالكوفية اتضح أنه فقد إحدى عينيه. أحد الشابين يعدل الميكروفون قبالة فم «الضيف»، الذي صدر عنه في تلك اللحظة نحنحةٌ استعدادًا للحديث.
ذلك الصمت الخاشع الذي لازم الحشود في باحات الأقصى وداخل المسجد قطعه هتاف طفل صغير «الله أكبر ولله الحمد»، وكأنها كانت الإشارة. صوت مئات الآلاف الهادر ينضح بـ «الله أكبر ولله الحمد»، لدرجة أن الكاميرا الرئيسية التي تنقل المشهد اهتزت بقوة لما بدا كأنه زلزال أرضي.
صوت «الضيف» يقطع الموقف: «باسم الله»، ما زال صوت الجموع هادرًا. يُكرِّر: «باسم الله»، فتبدأ الأصوات في الخفوت رويدًا رويدًا.
«دعك من خطاب مرتقب، واسمع لقول مقتضب … قل للذين كفروا ستُغلَبون»، يردد الآية الأخيرة بصوت حماسي، فتعود الحشود للتكبير مُجددًا ولدقائق معدودة، قبل أن يتغير الهتاف إلى «بالروح بالدم فديناك يا أقصى … بالروح بالدم فديناك يا أقصى».
يعود القائد العسكري ليستكمل حديثه من جديد ببيت شعري: «أيها الفلسطيني اسمع»:
وتلك اللحظة الإنسانية المتشبعة بالروحية لم يكن ليفوِّتها الضيف بذكائه في توجيه رسائل عدة. أماط لثام كوفيته بتروٍ ليتكشف وجه الرجل الطاعن في السن القابع خلفه، ها هو يُبلِّغ الرسالة التي تلقفها من أحمد ياسين: شيخ قعيد أيقظ الأمة، ويقول:
بكاء جماعي خاشع، ثم ينادي أحدهم: الفاتحة.
(2)
على شاشة CNN كان نقاشًا يدور بين «حقوقية» من أصول فلسطينية و«إسرائيلي» رافض للصهيونية، حول سبل التعايش الرغد بين العرقين في أرض فلسطين التاريخية بعد انهيار النظام الصهيوني. دار الحديث بشأن الخطوط العامة التي يجب أن تُصاغ للقوانين الجديدة بما يكفل التساوي بين العرقين بلا تمييز وعنصرية، وبحيث تُستوعَب الكفاءات المختلفة في شتى المجالات، بما يساعد على تبادل الخبرات والاستفادة من الأسس التكنولوجية والبنية التحتية المسماة إسرائيلية «سابقًا».
تقول الناشطة الفلسطينية إنه يتوجب كذلك أن تُسَن قوانين رادعة لكل الصهاينة المتبقين على أرض فلسطين، بما لا يسمح لهم بنشر أفكارهم المتطرفة القادمة من العصور الوسطى، ولا يدع مجالًا لانتهاجهم سياسة الاستيطان من جديد، مضيفةً أن هذا لا يتعارض مع أي من حقوق الإنسان التي في جوهرها دعوة لأن يكون الجميع سواسية، «وإلا فعليهم أن يستقلوا أقرب باخرة ويعودوا من حيث جاءوا، إن لم يكن بإرادتهم فمن خلال قوانين حق العودة إلى بلدانهم في أوروبا. حق العودة واجب أصيل لهم وكذلك للفلسطينيين»، وكأنها غمزت بعينها في الجملة الأخيرة.
أمَّا على شاشة «فوكس نيوز»، فقد احتدم الجدال بشأن الانتهاكات الحقوقية التي يتعرَّض لها اليهود المتشددون في مدارس الأونروا (تحول المقطع الأخير من الاسم الرسمي لها إلى for Israeli refugees)، التي تفتقد لأي خدمات وبنى تحتية أساسية، إذ أشارت العديد من القصص الصحفية إلى كيف أن عددًا كبيرًا منهم يجتمع في غرفة واحدة بلا مساحة تسمح بالنوم، أو كيف انتظروا بالشهور وصول مواد الإغاثة التي كانت متقطعة ولا تكفي للجميع.
وهنا تحدث المحلل السياسي بعصبية واضحة عن دور الأمم المتحدة المتخاذل في تلك الأزمة، بينما كان يُبرِّر ممثلها بضعف التمويل الدولي الذي لا يكفي للأعداد الكبيرة التي تستضيفها مدارسهم، وعن أن مؤتمر الدول المانحة لم يجمع قيمة التمويل المتوقعة وكانت أقل بكثير من المرغوب فيه، حيث قال: «في حقيقة الأمر لم يستجب لنا سوى الولايات المتحدة وألمانيا، بينما دفعت أغلب الدول أقل مما حددته سابقًا».
وعلى ذكر الولايات المتحدة، أشارت تقارير عدة إلى أنها استقبلت عشرات آلاف اللاجئين اليهود، وصرَّح وزير خارجيتها أنهم بصدد التنسيق مع السلطات الفلسطينية لاستقبال المزيد بما يتوافق مع المواثيق والأعراف الدولية. بينما في ألمانيا صاحبت الانتقادات الحقوقية القانون الذي شرَّعه الحزب الحاكم «البديل من أجل ألمانيا» اليميني، والذي نصَّ على مضاعفة التعويضات لأحفاد اليهود من ضحايا الحقبة النازية، الذين رحلوا عن فلسطين، دون التطرق لحقهم في العودة، فيما عبَّر بعض مؤيدي الحزب عن سخطهم من القرار القافز على أفكاره النازية المؤسِّسة، بالإضافة لإثقال كاهل الاقتصاد الألماني الذي يدفع الكثير من التعويضات لليهود بالفعل.
الأصوات الشوفينية اليمينية عاودت من جديد الحديث عن خطر استقبال أولئك اللاجئين على الهوية الأوروبية، حتى إن أحدهم قال:
بهيستريا مُفتعَلة يصرخ شخص بجواره: «فلسطين هي وطنهم الذي طالما رغبوا في العيش فيه، والآن لا يحق لهم أن يعودوا إلينا من جديد، اللعنة عليهم». تُصفِّر الشاشة على كلمته الأخيرة.
في الحقيقة، كانت مشاهد أماكن احتجاز وأوضاع اللاجئين في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا تجلب الشفقة وتكسب تعاطفًا دوليًّا كبيرًا على مواقع التواصل، لكنه لم يكف لكي يتحرك المجتمع الدولي لتحسين أوضاعهم. هم في ذلك مع غيرهم سيان، وهنا فُتح النقاش حول حاجة المنظمات الأممية لتغيير جوهري في بنيتها.
وعلى قناة ناطقة بالعربية كان تحقيقًا مهمًّا يظهر على الشاشة. التحقيق كشف عن خطة ممنهجة مارستها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وفي مقدمتها الموساد والشاباك بالتنسيق مع وزارتي الدفاع والأمن الداخلي، قبل سقوط دولتهم، تخلصت فيها من أطنان من الوثائق السرية وغير السرية. وأن الاشتباكات الدامية التي وقعت عند مقر الجهازين الأمنيين، وأسفرت عن سقوط مئات الفلسطينيين، لم تكن إلا بسبب انتظار الانتهاء من جميع الوثائق التي قد تُورِّط مسئولي الدولة العبرية في الخضوع للمحكمة الجنائية الدولية، وتكشف خبايا التخبط في أروقة الحكم خلال الشهور الأخيرة.
وانتقل الحديث إلى ملف آخر كانت العديد من الأضواء السياسية والإعلامية مُسلَّطة عليه ويأخذ حيزًا كبيرًا من الاهتمام، ألا وهو الملف النووي.
تحقيق لصحيفة نيويورك تايمز كان قد كشف كيف نجح الموساد في تهريب العشرات من أهم علمائه في الملف النووي إلى دول مختلفة -لم تستطع الصحيفة أن تُسميهم- وبجوازات سفر مزورة، قبل أشهر من سقوط نظام الحكم. وأن الخطة التي نالت موافقة أعلى القيادات، اشتملت على تخريب جميع المفاعل النووية بما لا يجعلها قابلة للعمل مُجددًا، وأن ذلك تم بالتنسيق مع مسئولين في رأس الإدارة الأمريكية، وبمعرفة وكالة المخابرات المركزية CIA التي مدت يد العون التقنية في هذا الصعيد.
أحد العلماء العرب في مقابلة إعلامية أعلن أن استعادة العمل في هذه المفاعل ليس مستحيلًا كما يُروِّج البعض، وخلال شهور قد يتم استئناف العمل بها في ظل الكفاءات العلمية العربية المتعددة. ولكن الجميع تشكَّك في مصداقية أقواله، ليس لأسباب علمية وفنية، وإنما لأسباب وإرادة دولية.
(3)
في الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى جبل الكرمل أمسك «بشير» بيد طفلته «دلال» التي تركض فرحًا ويركض هو معها كطفل في عمرها. وسط الزحام الكبير وأصوات الزغاريد، التي تصدح من كل شرفات الشارع، والأغاني الصادرة من مكبرات الصوت، أفلت يديها فجأة وتوقف سارحًا بخياله بينما لم تهتم «دلال» وواصلت ركضها المتراقص.
سرح «بشير» في حواره مع صديق قبل سنوات عديدة مع بدايات انتشار جائحة كورونا في العالم والإغلاق الكلي الذي تعرَّضت له كل المدن. كان حينها يسير في الشارع نفسه وقال لصديقه: «الشارع خالٍ تمامًا من أي شخص أو سيارات، فقط أعلام إسرائيل، تعرف للحظة بدا المشهد لي كأننا قد حرَّرنا فلسطين واللي بقي هو أعلام إسرائيل اللي ما ضل إلا ننزلها بس». الآن تُرفرف الأعلام الفلسطينية على جانبي الطريق. هذا مشهد سريالي أكيد.
لم يوقظه من سرحانه سوى يد «دلال» الممتدة: «بابا … لوين رحت … يلا فينا نسرع شوي لنسافر على غزة وناكل آيس كريم من عند كاظم، كيف ما وعدتني».
اتجه «بشير» إلى موقف الحافلات وفي طريقه التقط فيديو لآلاف المحتفلين على شاطئ حيفا حيث كان الجميع تقريبًا يسبح بكامل ملابسه في البحر، لدرجة أن أمواج البشر وصلت إلى الشاطئ المقابل في عكا. وفي شمال الأخيرة، وتحديدًا في قرية «الزيب» التي لم تعد مهجرة، جلست المُعمِّرة «أم صفوان» رفقة حفيدتها يستندان إلى النخلة الكبيرة وهما ترتشفان كوبين من القهوة: «صُبّي يمَّا وزيدي الهيل … زيدي الهيل»، تُكرِّر أم صفوان بابتسامة متأملة.
وعلى بُعد 100 كيلومتر تقريبًا كان المشهد مُختلفًا في يافا، إذ تحصَّن الآلاف من الصهاينة المسلحون في بلدة «بات يام»، التي عُدت آخر معاقلهم في تل أبيب، ودارت اشتباكات عنيفة لأيام سقط فيها العديد من القتلى من الجانبين.
أعلن قائد «مقاومة الداخل الشعبية» أن السيطرة على المدينة مسألة وقت ليس أكثر، إذ حوصرت من الجانبين الشمالي والشرقي، وتوغلت القوات في العمق عدة كيلومترات فيما تتمترس العصابات الصهيونية الآن في حي «الكرفانيم» على الطرف الجنوبي من المدينة.
«ليس أمامهم إلا خياران، إمَّا الاتجاه جنوبًا نحو مستوطنة ريشون لتسيون –أسقطتها صواريخ المقاومة من غزة- أو غربًا نحو البحر. نُنسِّق في الوقت الحالي مع قوات حفظ السلام المتمركزة على حدود الخط الفاصل بين بيت يام وريشون لتسيون من أجل إعلان تلك العصابات الإجرامية استسلامها وتسليم سلاحها إلى القوات الأممية المضطلعة بهذا الشأن بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2945»، يؤكد قائد المقاومة خلال مؤتمر صحفي عقده في حي العجمي.
(4)
من شمال الضفة إلى جنوبها كانت مشاهد هدم الجدار العازل تُذكِّرنا بمشهد هدم جدار برلين. مشهد آخر مهيب إذ كان الآلاف الممسكون بالفؤوس والمطارق يغنون معًا ويحضنون بعضهم بعضًا وهم يحطمون جدار الذل. وفي نفس التوقيت كانت مئات الحواجز المنتشرة في مختلف نقاط الضفة يتم التخلص منها.
أطنان الكنافة النابلسية كانت تُوزَّع على الجميع. وصلت أطباقها إلى شمال جبل النار حيث جنين، مرورًا إلى جنوبها حيث رام الله. وعلى جبل عُرمة في بيتا وقفت «أم موسى» تزغرد بشموخ ثم وجَّهت حديثها إلى بعض الصبية حولها: «هلئيت بروح عالتربة مرتاحة. يكسر همكم شو انكم حبابة». أمَّا «الختيار أبو سعد» فتوقف أمام شباك موقف الحافلات وقال للفتاة: «بدي أحجُز عالقدس».
بالانتقال للخليل وقف شباب يلتقط بعض الصور التذكارية من فوق ركام مستوطنة كريات أربع. وكان الأذان يصدح من الحرم الإبراهيمي الذي عاد بكامله إلى إدارة المسلمين، وبالتزامن رنت أجراس كنيسة المسكوبية التي احتفل رهبانها بتوزيع نبيذها المعتَّق. أمَّا المسكوبية الأخرى حيث مركز التحقيق بالقدس فقد آلت إدارته إلى كاتدرائية الثالوث الأقدس كجزء من مجمعها.
في بحر غزة كانت صورة بديعة أخرى تُرسَم، حيث تناثرت مئات المراكب ليلًا يحمل كل منها قنديلًا ناريًّا على الأقل، في إشارة إلى قدرتهم على تطويع الماضي الصعب الذي غابت فيه الكهرباء. ومن فوق سطح منزله، الذي كان قد أعاد بناءه للمرة الرابعة، وقف «علاء» ليلتقط صورة لذلك البحر المتحول إلى سماء مرصعة بالشهب.
أعلنت السلطات المصرية أنه بانقضاء الحصار الإسرائيلي الذي استمر لعقود على المدينة، فسوف تفتح معبر رفح لثلاثة أيام كي يتمكن سكان طرفها الفلسطيني من الاحتفال مع أهلهم في الجانب المصري.
(5)
تُركِّز الكاميرا على وجه الطفلة «رغد» التي يبدو أنها منهمكة في فعل شيء ما، من تعبيرات وجهها البشوشة ورأسها المتحرك يمينًا ويسارًا. يتسع الإطار فيتضح أنها تُلاعِب قطتها «سكينة» بينما تتقاسم معها كعكتها المقدسية. تبتعد «كاميرا الدرون» لأعلى شيئًا فشيئًا حتى يتبيَّن أننا في ساحة الأقصى. تبتعد أكثر فيظهر عشرات الآلاف في الساحة. ثم أكثر، لا بل مئات الآلاف في محيط المسجد، فأكثر … إنها مليونية التحرير بالقدس. ومن بعيد بدت القبة الذهبية كشمس في سماء من البشر.