يتراقصان ويتراقصان، لبلايين السنين، يبلغ تقاربهما مستويات خطرة لكن هذا لا يثنيهما عن المتابعة. يواصلان الدوران حول ذاتيهما وينساب الكون في الخلفية كموسيقى تشجعهما على الانغماس أكثر، والاستسلام لجاذبية الآخر أكثر. هكذا أخذ ثقبان أسودان عظيمان في الدوران حول بعضيهما، كل منهما محبوس في فخ جاذبية الآخر حتى أتت اللحظة الحاسمة واصطدما.

نشأ عن الاصطدام العظيم اندماج وولادة ثقب جديد. نشأت في هذه اللحظة موجة عظيمة في نسيج الكون ذاته، سافرت هذه الموجة لمسافات لا يمكن تخيلها حتى صادفت مبنى غريبًا على شكل حرف إل L، وربما لم تشعر هي به إلا أنه شعر بها.

كان هذا المبنى مصممًا خصيصًا للشعور بها. لقد وصلت الموجة الثقالية لمرصد ليجو LIGO الذي تشارك مؤسسوه ومديره –راينر وايس، باري باريش وكيب ثورن-اليوم جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2017.


الكون يتموج

تبدأ القصة من حدث قادر على هز الكون من العمق. تملك أي كتلة القدرة على إحداث موجات ثقالية إلا أن أهم هذه الموجات هو أعنفها، في هذا السياق فإنك تبحث عن حدث يمتلك من العنف والطاقة ما يجعله يؤدي لتموج نسيج الكون تموجًا ملحوظًا وواضحًا. قد يكون الأمر نظامًا نجميًا ثنائيًا، تصادم نجوم نيوترونية، ابتلاع أحدث الثقوب السوداء لنجم أو اصطدامها بثقب آخر، أي من هذه الأحداث التي تتعلق بأجسام ذات كتلة ضخمة يمكنها أن تؤدي لموجة قوية من هذا النوع.

تسمى هذه النوعية من الموجات في نسيج الزمكان باسم الموجات الثقالية Gravitational waves. تحمل هذه الموجات كمًا رهيبًا من المعلومات عن مصدرها حيث يمكن باستخدام معادلات أينشتين تحديد كتل الأجسام المسببة لها وغير ذلك من صفاتها الفيزيائية، بما فيها –وهو الأهم – حسابات الطاقة المنبعثة.

من المثير أن السبب وراء غنى هذه الموجات بالمعلومات هو نفسه سبب صعوبة التقاطها مباشرة بواسطة أجهزة القياس المعهودة. ببساطة يمكن القول بأن الموجة الثقالية موجة مظلمة؛ بمعنى أنها لا تكاد تتفاعل مع المواد ولا تحدث فيها أي تأثير يمكن قياسه.

هكذا فإن الموجة الثقالية لا تفقد معلوماتها وهويتها بسرعة كما تفعل الموجات الكهرومغناطيسية التي ما إن تنطلق في طريقها من المصدر فإنها تتعرض لمختلف التأثيرات الضوئية من تشتت وحيود وتأثير العدسة وغيرها من الأمور التي تتسبب في تآكل قيمتها المعرفية. هذا على عكس الموجات الثقالية بالطبع التي تسير في طريقها غير مهددة بالتشوش ولا الاضمحلال بسبب المواد في طريقها.


المطاردة

منذ أن توقع أينشتين وجود هذه الموجات – ضمن نتائج منظومة النسبية العامة خاصته- وصعوبة قياسها بشكل مباشر بينة للعيان، استكان العلماء المبكرين في علم الموجات الثقالية للقياسات غير المباشرة أو الاستنباطية. مع تطور أجهزة المراقبة والمراصد أمكن قياس مدى فقدان بعض الأنظمة –كأنظمة النجوم الثنائية-للطاقة ومقارنة هذا الفقدان بما تتنبأ به معادلات أينشتين من طاقة مفقودة على هيئة موجات ثقالية. كان التطابق هو أول شاهد عيان.

توالت النظريات والأفكار حول كيف من الممكن أن تقاس هذه الموجات مباشرة. انقسمت هذه الأفكار في الأساس لاتجاهين يمثلان نوعين أساسيين من المستشعرات الحساسة، نتحدث هنا عن مكشاف الكتلة الرنان Resonant Mass Detectors ومقياس التداخل الليزري Laser interferometer1.

دائمًا ما كان المكشاف الرنان يعتبر الأداة الأكثر واقعية وإمكانية للعمل على تحسينها بينما مثّل المقياس الليزري الأمنية شديدة التعقيد التي ينظر لها العلماء بحسرة بسبب عدم القدرة على اجتياز تعقيدها. تم صنع العديد من الأجهزة من النوعين إلا أن التداخل والتشويش كانا بالمرصاد لكل المقياسات فتطلب الأمر حساسية أعلى بكثير مما استطاع ويبر صنعه.


تغريدة كونية

عاصر راينر وايس الحماس المصاحب لصنع مكشاف ويبر الرنان لكنه لم يشارك فيه، لم يستطع فهم الفلسفة وراءه وبدا له أن أساسها لم يكن صحيحًا تمامًا فبدأ رحلة صنع مقياسه الخاص. بدأ وايس بصنع نموذجًا أوليًا شديد التعقيد لمقياسه الضخم. بمساعدة كيب ثورن ومعجزة استطاع الحصول على التمويل اللازم للبناء من مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية بعد عدة محاولات ودراسات جدوى.

تم إسناد قيادة المرصد لأساتذة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا Caltech على رأسهم باري باريش كباحث رئيسي ثم مدير. يظل هذا المشروع هو أكبر مشاريع المؤسسة وأضخم تمويل قدمته لمشروع علمي.

هكذا ومنذ عام 1994 ومقياس وايس وثورن يتم إنشاؤه ليخضع للتعديلات ثم يبدأ عملياته ثم يخضع للمزيد من التعديلات حتى وصل لمرحلة Enhanced LIGO ثم مرحلة Advanced LIGO، تلك الأخيرة التي استطاعت التقاط اول تغريدة كونية نتمكن من سماعها.

كانت الموجة الملتقطة ذات طول موجي يمكن للأذن البشرية سماعه – في غياب التشويش بالطبع- ولذا فإن تسجيلها بعد تنقيحه بدا كصوت تغريدة طائر قصيرة. خلال صدور هذه الإشارة كان الكون يتمدد وينكمش دون أن تشعر. دامت الإشارة 0.2 ثانية وعبرت الأرض بسلام لاستكمال طريقها عبر الكون.


مرايا وليزر

ذكرنا أن النظريات حول كيفية قياس الموجة الثقالية تنتمي لاتجاهين أساسيين. ينتمي مقياس LIGO للنوع الثاني وهو مقياس التداخل الليزري لكنه نوع محسن للغاية يأخذ مقاربة لم يسبق للعلماء اختبارها على هذا النطاق الضخم. رغم أن الحسابات التي يعتمد عليها ليجو شديدة التعقيد إلا أن الفكرة وراءه –ما إن توصل لها وايس وثورن -يسهل فهمها بشكل مبسط.

تخيل أنه لدينا مصدر لليزر يقوم بإصدار شعاع. ينقسم لجزئين متماثلين تمامًا بواسطة مرآة هي الأفضل في العالم. يبدأ كل شطر من الشعاع في السير في أنبوب مفرغ تمامًا من الهواء –يتطلب تفريغه ما يصل لأربعين يومًا- ليصل لمرآة أخرى. يمثل الأنبوبان اللذان يسير فيهما كل من شطري الشعاع حرف L لكنه متساوي الساقين. تعكس المرآة شعاع الليزر ليعود ثانية في ذات الطريق نحو المرآة الأولى. والمثل يفعل الشطر الآخر من الشعاع.

بما أن الشعاع الليزري يضم فوتونات في نفس الطول Phase وتسير نفس المسار في نفس الوقت وتعود نفس العودة، فإن نصفي الشعاع– عند العودة للمرآة الأولى-يلاشي كل منهما الآخر. هكذا لا يصل للمكشاف Detector أي ضوء في الحالة العادية.

لنفترض هنا أن نسيج الكون يهتز في حركة موجية بسبب موجة ثقالية تمر فيه. سيترتب على الأمر نقطتان هامتان:

أولاً: لن يلاشي نصف الشعاع نصفه الآخر لأن اهتزاز الزمكان سيتسبب في اختلاف أطوار فوتونات نصف شعاع عن النصف الآخر.

ثانيًا: لأن الأنبوبان على شكل حرف L فإن أحد ذراعا الزاوية سيتمدد في حين سينكمش الآخر والعكس بالعكس، هكذا حتى تمر الموجة.

بناءً على هذه المعلومات البسيطة تم بناء المرصد وآلياته شديدة الحساسية لالتقاط الفارق شديد الضآلة بين نصفي الشعاع العائدين. هذا الفارق الذي سيلتقطه المكشاف ويقوم بتسجيله وبالتالي تسجيل الموجة الثقالية مباشرة.

في الرابع عشر من سبتمبر وقبل ثلاثة أيام فقط من بدأ العمل الرسمي للمرحلة الأحدث من مراحل تجديد ليجو Advanced LIGO، التقطت مكونات المرصد الحساسة أول موجاته الثقالية. تلا الأمر موجة ثانية في ديسمبر 2015 وثالثة في يناير 2017.

كانت تلك هي العقلية التي واجه بها وايس، ثورن وباريش التحدي الأخير الذي طرحته نظرية النسبية العامة وهكذا تمكنوا من النظر مباشرة لأحد أكثر توقعات أينشتين عمقًا وتجريدًا. بهذا لم تعد تقنية مقياس التداخل مجرد نموذج مثالي يصعب تنفيذه واستخدامه على مستوى أعمق طبقات الكون. لقد تمكنت البشرية من الإصغاء لنسيج الكون ذاته.

المراجع
  1. Bernard schutz- A First Course In General Relativity, Chapter 9