للمرة الثالثة في أقل من سنتين يتمكن لايجو LIGO، مرصد الموجات الثقالية بالتداخل الليزري Laser Interferometer Gravitational Wave، من رصد موجات جاذبية صادرة من اصطدام ثقبين أسودين على بعد ثلاثة مليارات من السنين الضوئية ليصنعا بعد الاندماج ثقبًا أسود واحدًا بكتلة حوالي 49 شمسًا وبقطر حوالي 300 كيلومتر. إنه ثقب أسود بطول المسافة بين القاهرة وأسيوط تقريبًا، نُشرت الورقة البحثية الخاصة بالرصد في مجلة Physical Review Letters الأشهر في عالم الفيزياء في أول أيام شهر يونيو/حزيران الحالي.

كان لايجو قد تمكن للمرة الأولى من رصد الموجات الثقالية الصادرة من اصطدام ثقبين أسودين على بعد 1.3 مليار سنة ضوئية في سبتمبر 2015، بينما جاءت المرة الثانية في ديسمبر من العام نفسه ليرصد اصطدام ثنائي آخر على مسافة 1.4 مليار سنة ضوئية، وها هي المرة الثالثة – والأبعد إلى الآن – والتي تؤكد أننا بتنا نمتلك نوعًا مختلفًا تمامًا من التلسكوبات قد يكشف لنا المزيد من أسرار الكون الرحب، والتي لم نتمكن من قبل من استشعارها بأي طريقة ممكنة.


النسبية العامة.. للمرة الألف

لفهم مدى عمق تأثير لايجو كآلية رصد دعنا نبدأ بتعلم بعض الشيء عما تعنيه موجات الجاذبية، حيث تتعامل النظرية النسبية العامة مع الفضاء – متمثلًا في الأبعاد الثلاثة المكانية والرابع الزماني – على أنه أشبه ما يكون بقطعة قُماش مهولة المساحة ممتدة ومشدودة من جميع الأطراف في كل أرجاء الكون، ما إن تضع أي كرة ثقيلة بها – نجم ما مثلًا – حتى ينحني سطح القماش للأسفل بفعل تلك الكرة. هنا يمكن تصوير جاذبية نجم ما للكواكب على أنها نوع من وقوع تلك الكواكب في الانحناء الذي صنعه ذلك النجم في قطعة القماش الممتدة، والتي هي نسيج الزمكان.

في بعض الحالات المتطرفة للغاية، حينما يحدث مثلًا أن يدور ثقبان أسودان حول بعضهما البعض، أو ربما في حالات انفجار المستعرات العظمى، أو اصطدام نجمين نيترونيين، يتسبب ذلك الاضطراب الشديد في صنع موجات تسري بنسيج الزمكان، القماشة، يشبه الأمر أن تلقي بقطعة طوب في حوض به ماء، لكن سعة الموجة الجذبوية ليست كموجة ماء، بل هي أقل في الحجم من قطر الذرة بحوالي مليار مرّة.

دعنا هنا نتوقف قليلًا لتوضيح أن نسيج الزمكان هو كل شيء نعرفه في الكون، بمعنى أنه شيء لا يمكن لنا لمسه أو إدراكه، لأننا نعيش في أبعاد أقل، يشبه الأمر أن توجد بداخل غرفة مغلقة، لا يمكن لك تصويرها من الخارج لأنك بالفعل بداخلها، لذلك حينما ننظر مثلًا للشمس فإننا لا نرى أي انحناءات في الفضاء، ولكن فقط نرى الأرض تدور حولها بسرعة 30 كم/ثانية، لا أكثر.

تطلبت تلك الدقة الشديدة في سعة تلك الموجات الجذبوية أجهزة مماثلة في الدقة لم نحصل عليها قبل لايجو. في الحقيقة توقعت النظرية النسبية العامة وجود تلك الموجات بالفعل،وحصل كل من جوزيف تايلور وراسل هالس سنة 1993 على جائزة نوبل في الفيزياء لاكتشافهما نوعًا جديدًا من النجوم النابضة – البالسارات Pulsars – واتفقت ملاحظاتهما لعملية فقد أزواج تلك النجوم للطاقة مع توقعات النسبية العامة للموجات الجذبوية، حيث إن تلك الأجرام السماوية الدوّارة تفقد جزءًا من طاقتها في الموجات الجذبوية، مما يتسبب في أن تقترب من بعضها البعض بمعدل مختلف عن التوقعات في حالة عدم وجود موجات الجاذبية.

كلما فقد كل منكما الطاقة – من الأعلى للأسفل –استطاع الحبل المطاطي التغلب عليكما وتقريبكما من بعضكما البعض، كذلك تتمكن الجاذبية بين الجرمين من شدهما بشكل أكبر كلما فقدا من طاقتهما

يشبه الأمر – ليس تحديدًا ولكن يشبه – أن نربطك مع صديقك بحبل مطاطي قوي الشد وقصير، وتكون مهمة كل منكما هي الابتعاد عن الآخر قدر الإمكان ضد شد الحبل المطاطي، هنا – وبعد فترة – سوف يبدأ الإرهاق في تملك كل منكما، مما يمكن قوى الشد الخاصة بالحبل المطاطي من تقريبكما لبعضكما البعض.


الإمساك بالمستحيل

على الرغم من ذلك، كان ما سبق هو رصد لأثر الموجات الجذبوية وليس لها بشكل مباشر، لم يكن ذلك ممكنًا قبل حصولنا على مرصد لايجو، والذي يعتمد في الأساس على فكرة «مقياس التداخل Interferometer» والتي تستخدم مرآة نصف عاكسة لتفريق شعاع الضوء إلى خطي سير متساويين في الطول تمامًا ومتعامدين معًا، ثم الانعكاس على مرايا دقيقة في نهاية كل مسار، والعودة مرة أخرى إلى المصدر، حينما تعود موجات الضوء إلى المرآة نصف العاكسة مرة أخرى فإنها – في الحالة العادية – تمحو بعضها البعض.

يحدث ذلك لأن الضوء كما نعرف يتكون من موجات، تلك الموجات لها قمم وقيعان، حينما يعود الضوء من المسارين تلتقي قمم الشعاع الضوئي الذاهب في خط السير الأول مع قيعان الشعاع الضوئي القادم من خط السير المتعامد عليه، والعكس صحيح، يتسبب ذلك في أن يمحو كل منهما أثر الآخر.

لكن إذا كانت موجات الجاذبية موجودة بالفعل فإنها قد تؤثر على طول أحد المسارين الخاصين بمقياس التداخل، فتتسبب في أن يزداد أو يقصر طول أحدهما بفارق صغير للغاية، مما يعني أن تراكب موجات الضوء الخارج من التجربة لن يمحو بعضه البعض، حيث لن تتقابل قمم موجات الشعاع في المسار الأول بدقة مع قمم الآخر، سوف يحدث فارق خفيف جدًا، هو ما يعطينا انطباعًا أننا أمام دليل مؤكد على وجود موجات جذبوية.

لايجو ثقب أسود فضاء فلك

دعنا من جديد نحاول فهم ما يحدث على شكل خطوات بالشكل المرفق:

  • ينطلق شعاع الضوء من المصدر
  • ينقسم الشعاع إلى شعاعين بفعل مرآة نصف عاكسة، يذهب كل منهما في أنبوبتين متساويتين للغاية في الطول
  • ينعكس كل من الشعاعين عن طريق مرايا مثبتة بدقة في نهاية كل أنبوبة
  • يلتقي كل من الشعاعين الضوئيين مرة أخرى عند المرآة نصف العاكسة ليمرّا منها إلى مستقبل/كاشف يقيس بدقة تراكب الموجتين القادمتين، إذا محت كل منهما الأخرى بدقة شديدة لن يصل أي ضوء إلى هذا الكاشف، إذن لا يوجد موجات جاذبية، إذا حدث فارق بسيط بينهما، سوف يصل قدر من الضوء إلى الكاشف وسيدل ذلك على أن هناك فارقًا حدث في طول إحدى الأنبوبتين، أي أن موجات الجاذبية موجودة.

في الحالة الأولى تتوافق بدقة قمم وقيعان الموجتين، أما في الحالة الثانية فتختلف بفارق دقيق للغاية، يتسبب هذا الفارق في إظهار النتائج التي تؤكد وجود موجات الجاذبية

بالطبع يقدم ما نشرحه هنا فقط – بتبسيط مخل – الفكرة الرئيسة التي يعمل بها مقياس التداخل الليزري للموجات الجذبوية، في الواقع يحتاج الأمر لفيزياء معقدة بشكل أكبر، كما احتاج لتقنيات متطورة للغاية لم نتمكن خلال أربعين عامًا سابقة من التحصل عليها إلا قريبًا.

مرصد لايجو هو صورة مكبرة من مقياس التداخل الذي تحدثنا عنه منذ قليل، لكن طول الأنبوبة الواحدة من أنبوبتيه هو أربعة كيلومترات، والسبب في احتياجنا لذلك القدر من الطول هو أن موجات الجاذبية صغيرة السعة للغاية، بحيث تجعل من الفارق بين المرآتين قصيرا للغاية، لذلك نرفع من طول الأنبوبتين قدر الإمكان حتى نحصل على فارق يمكن رصده.


لماذا لايجو؟

لايجو ثقب أسود فضاء فلك

لسبب واحد غاية في الأهمية، إن تلسكوباتنا العادية تعمل جميعًا على اختلاف أنواعها وآلياتها عبر رصد إشعاع الجرم السماوي لشيء ما، الضوء، الأشعة السينية، فوق البنفسجية، تحت الحمراء، أشعة جاما… إلخ، إذا كان الجرم الذي نرصده لا يشع أي شيء، فنحن لا نتمكن أبدًا من رصده، هنا يأتي لايجو ليفتح نافذة مختلفة تمامًا، فهو لا يرصد إشعاع الجرم السماوي، وإنما يرصد أثره الجذبوي على الزمكان رباعي البعد، يعني ذلك أننا قد نتمكن في مرحلة ما من رصد كل أثر جذبوي مهما بلغت دقته، ويفتح ذلك مجالًا لرصد أحد أكثر أسرار الكون التي نعرفها غرابة إلى الآن، وهي المادة المظلمة والتي لا تتفاعل إلا جذبويًا.

فمثلًا، كانت النتائج الأخيرة للمرصد لايجو هي ثالث تأكيد على إمكانية وجود ثقوب سوداء بكتلة أكبر من 20 شمسًا، كانت كذلك تأكيدًا أن دوران الثقوب السوداء حول نفسها قد يكون مع اتجاه الدوران العام أو ضده، في مراحل مقبلة سوف تفتح تلك التقنيات، مع التطور والتحسين المستمر، لدراسة أوسع لعالم الثقوب السوداء وحركتها وأثرها على الفضاء المحيط، كذلك سوف تمكننا ربما من كشف السر الأكبر في تاريخ الكون، والذي ولّد هو الآخر موجات جذبوية، إنه الانفجار العظيم، تُرى .. هل سنتمكن من ذلك؟ سوف نرى.